أزمة مُركبة متعددة الجوانب، فضلاً عن أنها مُعقدة، تصاعدت فى الأسابيع الأخيرة انطلاقًا من أوكرانيا إلى آفاق أوسع. فى هذه الأزمة بُعد داخلى نجده فى الانقسام العرقى-الثقافى-السياسى، الذى ظهر بوضوحٍ أكثر من ذى قبل منذ ثورة 2005 التى تختلف التقديرات بشأنها. وأنتج هذا الانقسام صراعًا أخذ فى التصاعد بعد سيطرة روسيا فى 2014 على شبه جزيرة القرم أو احتلالها، إذ تختلف التسمية حسب الموقف وطريقة التفكير، وهو أمر مفهوم فى أزمة مُركبة ومُعقدة. لم يضع اتفاق مينسك 2015 حدًا لهذا الصراع، بل أخذت تجلياته المُسلحة المحدودة فى التصاعد بعده.
وفى الأزمة أيضًا بُعد إقليمى يُفترض أنه الأساس فيها، لأنها تدور حول وضع أوكرانيا فى أوروبا. غير أن تعقيدات الصراع جعلت بُعده الدولى أقوى وأكثر تأثيرًا فى مساره، فصارت تفاعلاته الأساسية مُنصبةً على موقع أوكرانيا فى معركةٍ أكبر تتعلق بمستقبل النظام العالمى. ولهذا بات السؤال المحورى فى هذا الصراع هو: هل تلتحق أوكرانيا بالتحالف الغربى-الأطلسى، أم يُستعاد النفوذ الروسى فيها وإن بطريقةٍ مختلفة عما كان سواء قبل 2005 أو قبل 1990، أم تُصبح حاجزًا بين الطرفين تحت عنوان (لا شرقية ولا غربية) الذى ابتُذل بسبب استخدامه المُفرط حتى بات بلا معنى.
وهكذا يتداخل البُعدان الداخلى والإقليمى مع البُعد الدولى حينًا، ويبدو كما لو أنهما يذوبان فيه حينًا آخر. ولكن المحصلة أن الأزمة الأوكرانية صارت عالمية أكثر منها أوروبية أو داخلية.
وهذا هو ما يحث على التفكير فى موقعها من التفاعلات المتعلقة بالنظام العالمى، وإلى أى مدى يمكن أن تُعد نتيجتها أو ما ستؤول إليه دالةً، سواء واقعيًا أو رمزيًا، على ما يمكن أن يؤول إليه هذا النظام. فالولايات المتحدة تتعامل معها من زاوية أن صمود أوكرانيا فى مواجهة الضغوط الروسية يعنى نجاحًا فى مواجهة ما تُعدها قوى مراجعة Revisionist تسعى إلى تغيير فى النظام العالمى، وفى مقدمتها روسيا التى لا تخفى رغبتها فى هذا التغيير، وتتفق مع الصين وبضع دول أخرى على أن الوقت حان للانتقال إلى نظام تعددى أو مُتعدد الأقطاب. وهذا ما أُعيد تأكيده فى الإعلان المشترك الصادر عن القمة الروسية-الصينية فى بكين فى 5 فبراير 2022، إذ دُعى فيه إلى حقبة جديدة فى العلاقات الدولية. وفى المقابل، تتطلع روسيا إلى أن تكون استجابة الولايات المتحدة والحلف الأطلسى “الناتو” للضغوط، التى تمارسها تحت عنوان مطالب أمنية، خطوةً باتجاه السعى إلى تغيير فى هيكل النظام العالمى، ومواقع القوى الدولية الكبرى فيه.
وفى مجرى هذا الصراع، تخوض روسيا والدول المؤيدة لموقفها فى جانب، والولايات المتحدة وحلفاؤها فى الجانب الثانى، المعركة السياسية اعتمادًا على خطابات ومُجادلات من الطبيعى أن تكون متعارضة، بالتوازى مع استعراض القوة العسكرية فى سياق عمليات تعبئة توسع نطاقها منذ أواخر يناير 2022.
الخطابات والمُجادلات الروسية
تدور الخطابات الرسمية الروسية، وما تتضمنه من مجادلات، حول المسألة الأمنية فى المقام الأول: أمن روسيا مُهدد من جراء توسع “الناتو” شرقًا، واقتراب قواته من حدودها، ونشر أسلحة بشكل متزايد فى معظم الدول التى انضمت إليه بعد حل حلف وارسو. هذا هو الخيط الناظم للخطابات الروسية.
وتربط روسيا إعادة النظر فى توزيع قواتها، التى حركتها باتجاه الحدود مع أوكرانيا، بتوقيع اتفاقين مُلزمين مع كل من الولايات المتحدة و”الناتو”، لتحقيق ما تراه أمنًا استراتيجيًا فى أوروبا وفق تصورها، الذى ينطلق من مطالبها المتعلقة بالضمانات الأمنية، وفى مقدمتها وقف توسع هذا الحلف وعدم نشر أنظمة صواريخ هجومية قرب حدودها. ويعنى هذا فى المقام الأول عدم المضى قدمًا فى ضم أوكرانيا وجورجيا، وبعد ذلك سحب قوات الحلف الموجودة فى بلغاريا ورومانيا أيضًا، مع تلميحات إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير عبر العودة إلى الوضع الذى كان قائمًا حتى عام 1997، قبل تدفق الدول التى كانت أعضاءً فى حلف وارسو، وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة، على “الناتو”.
وتُجادل موسكو بأنها تلقت فى مطلع تسعينات القرن الماضى تعهدات شفاهية بأن “الناتو” لن يتقدم فى شرق أوروبا، وهى تعهدات لا يوجد دليل عليها كونها غير مكتوبة. كما تستند إلى تفسيرها لبعض وثائق منظمة الأمن والتعاون الأوروبى، مثل وثيقة اسطنبول 1999، وإعلان أستانا 2010. ووفق هذا التفسير، كان هناك تفاهم على مبدأ الأمن الذى لا يقبل التجزئة، بما يعنى إيجاد توازن بين الحق فى بناء تحالفات أو الانضمام إليها، والحق فى الضمانات الأمنية أو مراعاة المصالح الأمنية.
وإذا كان منطقيًا أن يُثار تساؤل افتراضى عن مغزى عدم اعتراض روسيا بقوة من قبل على التدفق الذى حدث باتجاه عضوية “الناتو” منذ 1997، فلا يخلو من منطقية كذلك جواب افتراضى أيضًا بأن شعورها بالخطر بلغ ذروته مع ازدياد مساعى أوكرانيا لإتمام إجراءات انضمامها إليه.
ومع ذلك، يظل ضروريًا التفكير فيما إذا كان هذا هو الهدف الحقيقى لتصعيد الضغوط الروسية الآن تحديدًا، أم استثمار ما قد تعتبرها موسكو لحظة مناسبة لكسب نقطة مهمة فى الصراع من أجل تغيير النظام العالمى، بعد اكتمال هزيمة الولايات المتحدة فى أفغانستان، والخلل الذى أظهرته فوضى الانسحاب منها فى أيامه الأخيرة، إلى جانب اعتقاد أوساطٍ روسية بأن تردد إدارة جو بايدن وضعفها يُتيحان فرصة لدفع التحالف الغربى خطوة إلى الوراء. فالمفترض أن لدى موسكو علمًا بأن ملف أوكرانيا لدى “الناتو” لم يحدث فيه تغيير منذ أن فُتح عام 2008، وأن أداء حكومتها لم يطرأ عليه تقدم يؤهلها للانضمام وفق معايير هذا الحلف، سواء فيما يتعلق بمواجهة الفساد وما يسمى الحوكمة الرشيدة، أو فيما يرتبط بقواتها المسلحة وتطويرها.
ولهذا، يبدو الارتباط واردًا، إن لم يكن واضحًا، بين تصعيد روسيا ضغوطها على الولايات المتحدة و”الناتو” انطلاقًا من أزمة أوكرانيا، وسعيها إلى تغيير فى النظام العالمى.
الخطابات والمُجادلات الأمريكية
إذا صح الارتباط بين ضغوط روسيا الراهنة ورغبتها فى تغيير هيكل النظام العالمى، يصح بالتالى ربط رفض الولايات المتحدة وحلفائها أهم المطالب-الضمانات التى تطالب بها موسكو بسعى التحالف الغربى إلى الحفاظ على هذا النظام، وعدم السماح بأية مراجعة.
ومثلما لا تُفصح روسيا عن هدفها الأبعد، لا تُعلن الولايات المتحدة أنها تعمل لمنعها من تحقيقه. غير أن فى بعض الخطابات الأمريكية ما يشى بذلك. ولعل أكثر هذه الخطابات اقترابًا من معنى عدم السماح لروسيا بمراجعة النظام العالمى مُجادلةُ غربية تقوم على التحذير من إعادة إنتاج تاريخٍ مُر، حين تكبدت أوروبا خسائر مهولة بسبب ما بات يُطلق عليه استرضاء الزعيم النازى أدولف هتلر عام 1938!
تاريخُ بعيدُ بحساب الزمن، ولكنه بات قريبًا فى سياق إدارة واشنطن الأزمة الأوكرانية من زاوية أن تقديم تنازلات فى ظروفٍ معينة يمكن أن يؤدى إلى عكس الهدف منه، ويُهيئ الأوضاع لنشوب حرب بدلاً من منعها. وقد حدث هذا عندما وقعت بريطانيا وفرنسا مع ألمانيا وإيطاليا فى سبتمبر 1938 معاهدة ميونيخ التى نصت على ضم إقليم السوديت التشيكى إلى ألمانيا، بناءً على اعتقاد فى أن هذا كل ما كان هتلر يريده. ولكن ما أن وُقعت المعاهدة حتى أخذ فى الإعداد لاحتلال بقية تشيكوسلوفاكيا، ثم شن هجومًا على بولندا، فأعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب التى صارت هى العالمية الثانية.
ومثلما يجوز القول إن روسيا اليوم ليست ألمانيا النازية، وأن بوتين ليس هتلر، وهو حقيقى، يمكن أيضًا القول إن روسيا لم تستيقظ ذات صباح لتجد الخطر محدقًا بأمنها، وأن شيئًا لم يتغير فى تمدد “الناتو” منذ مارس 2020 عندما انضمت إليه مقدونيا الشمالية التى لا يُقدم وجودها فيه أو يؤخر شيئًا، مثلها مثل جمهورية الجبل الأسود التى سبقتها إليه فى يونيو 2017، ما يعنى أنه منذ أكثر من أربع سنوات لم يحدث تغير يُعتد به فى جغرافية أوروبا السياسية، فيما لا يُتوقع مثل هذا التغير فى المدى المنظور.
أوكرانيا فى صراع النظام العالمى
وهكذا، فأينما وجهنا أنظارنا فثم ما يدل على أن النظام العالمى ومستقبله ومواقع القوى الدولية فيه هو محور الصراع الروسى-الأمريكى، وأن أوكرانيا هى الساحة الرئيسية الراهنة لهذا الصراع. ولا يعنى هذا أن أوكرانيا ليست لها أية أهمية فيه، أقله من جانب روسيا. فلأوكرانيا، كما لبيلاروسيا، مكانةُ خاصةُ جدًا لدى الروس ثقافيًا وعرقيًا، ولغويًا، وعاطفيًا، وكذلك من الناحية الأمنية.
ولهذا، فرغم أن الصراع اليوم أكبر من أوكرانيا، وأبعد، فهى تبقى فى قلبه، وتُعد أكثر من يكتوى بنيرانه إذا اشتعلت الحرب، الأمر الذى يجعل حكومتها الحالية فى موقفٍ بالغ الصعوبة، ويضعها أمام خيارين لا ثالث لهما، لأنها بحكم خلفياتها واتجاهاتها لا تقبل استعادة النفوذ الروسى.
فإما أن تحافظ على سياستها الحالية، التى تنطوى على مُغامرة-مُقامرة كبرى تراهن فيها على عدم اندلاع الحرب، ورجوع الطرفين الأمريكى والروسى عن حافة الهاوية كلما بلغاها، وانتظار أن تهدأ الأزمة بشكل ما، أو أن تُبادر بنزع فتيلها عبر تغيير كبير فى سياستها باتجاه التحول من طرف فيها إلى ما يشبه الوسيط دون أن تكون وسيطًا بالمعنى الدقيق، بحيث تختار دور الحاجز بين الطرفين، وتتبنى بالتالى موقفًا فى الوسط ينطوى على نوع من الحياد الفعلى، بدءاً بتنفيذ التزامها فى اتفاق مينسك بشأن الحكم الذاتى فى منطقتى دونيتسك ولوجانسك من خلال تغيير أو تعديل دستورى باتجاه نظام أقل مركزية، وأكثر انفتاحًا تجاه مناوئيها فى إقليم دونباس.
ويمكن أن يتبع ذلك سحب طلب الانضمام إلى “الناتو”، بعد أن تهدأ الأزمة الراهنة، وتتحسن العلاقات الروسية-الأوكرانية، بحيث يأتى إعلان عدم رغبتها فى الالتحاق بهذا الحلف فى سياق طبيعى أقله من حيث الشكل، لكى لا يبدو إذعانًا لموقف موسكو.
خياران تاريخيان فى لحظة بالغة الدقة على صعيد النظام العالمى، الذى تشاء المقادير أن تكون أوكرانيا فى قلب الصراع على مستقبله، والساحة الرئيسية التى تدور بشأنها إحدى أهم المعارك المتعلقة به، بل أهمها فى اللحظة الراهنة.
د. وحيد عبدالمجيد
مركز الاهرام