غدا العرف السياسيّ العراقيّ منذ تقلّد الراحل جلال الطالباني رئاسة الجمهورية عام 2005 يقضي بأن يكون رئيس الجمهوريّة كردّياً، بل أبعد من ذلك تطبّع هذا العرف بصبغةٍ حزبيّة أيضاً، ذلك أنّ اسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أضحى قرين منصب رئاسة الجمهورية، الأمر الذي أسبغ عليه لقب “حزب رؤساء الجمهورية” بيد أنّ الاختيار الكردستاني الهانئ لأول رئيسين، جلال الطالباني وخلفه فؤاد معصوم، مرّ بتوافق الحزبين الكردستانيين، الاتحاد الوطني والديمقراطي، على عكس اختيار برهم صالح الذي جاء إثر خلافاتٍ كردستانيّة، وعلى هدي مواجهة سياسية مباشرة مع “الديمقراطي الكردستاني” الذي أصرّ وقتذاك على مرشّحه فؤاد حسين.
كانت رئاسة صالح، بالنسبة لـ”الديمقراطي” أقرب إلى رئاسة الأمر الواقع التي لم يتقبّلها على مضض، بل قابلها بقطيعةٍ مديدةٍ للرئيس، واقتصرت لقاءاته القليلة برئيس الإقليم، نجرفان البارزني، من دون بقية أقطاب الديمقراطي، وفي مقدمتهم رئيس الإقليم الأسبق وحاكم كردستان الفعلي، مسعود البارزاني؛ فالتنافس على هذا المنصب، منزوع الصلاحيات والتشريفيّ، بات، مذ تسلّم برهم صالح منصبه، جزءاً من معركة “كسر العظم”، فالحزب الديمقراطي يريد الاستحواذ على المنصب، باعتباره يقع في سهم الفائز الأوّل بمقاعد ممثّلي الإقليم، ولا طائل من “مجاملة” الاتحاد الوطني طالما أنّ الشراكة (التحالف الاستراتيجيّ) قد انفضّت، وبالتالي، يرى “الديمقراطي” أنّ من حقّه جمع كلّ الرئاسات في آنٍ واحد، رئاسات الإقليم ووزراء الإقليم والجمهورية، وهو ما يشقّ على الاتحاد الوطني تقبّله، فالهزائم الانتخابيّة التي مني بها الأخير لم تمنعه من الاحتفاظ بمنصب الرئاسة، إذ في ذلك عنصر دعاية حزبيّة، ومن خلاله يشعر المحازبون بأنّ الحزب ما زال على قيد الحياة السياسية في الإقليم والعراق.
ولعلّ في إخراج مرشّح الحزب الديمقراطي، هوشيار زيباري، من دائرة المنافسة، وفقاً لقرار المحكمة الاتحادية العليا، ما يُشعر الحزب بأنّ المنصب قد يغدو في متناول غريمه المعتدّ بعلاقته الوطيدة بإيران، لكنّ الدرس المستقى أنّ المشكلة الأساسية تبدأ من حيث ينتهي التوافق الكردستاني، وهو ما بات يتعذّر الوصول إليه من توافقات الحد الأدنى، على الرغم من لقاءات الحزبين وحواراتهما. غير أنّ الانقسام الكردستاني، فضلاً عن أنّه ينعكس في شكل مباشر على الإقليم، فإنّه إلى ذلك بات ينعكس أيضاً على بغداد التي يتمنّى أقطاب التحالف الفائز فيها، وإن مرّة واحدة، أن يخلص الكرد إلى تسمية مرشّحهم التوافقيّ، وهو الأمر الذي من شأنه رفع حرج الاختيار والمفاضلة عن بغداد، وبذا يصبح التوافق الكردي مطلباً عراقياً بمعانٍ أخرى.
في الأثناء، تقدّم الديمقراطي الكردستانيّ بمرشّحه البديل، ريبر أحمد البارزاني، وهو ما يعكس إصراراً على مواجهة الاتحاد الوطني، فيما يتحزّم الأخير بعلاقاتٍ فوق عاديّة مع الكتل الفائزة وكذلك مع إيران. تقدّم “الديمقراطيّ” بمرشّحه الجديد يعكس إرادة الإبقاء على المواجهة التي يبدو أنّها ستمتدّ إلى ما بعد اختيار الرئيس؛ وسواء وقع الاختيار على مرشّح “الديمقراطي” أم لا، فإنّ خطوط الصدع ستتعمّق على نحو أوسع، من ذلك أنّ الحزبين سيدخلان في حلقة جديدة من الاتهامات المتبادلة داخل الإقليم، وقد يفرض على واحدهما اتباع سياسة الاستقواء ببغداد، فضلاً عن أنّه سيكرّس الانقسام الكرديّ الجهويّ بين أربيل والسليمانية.
ما سيحول دون استدامة الخلافات الكردستانية أن يتفق الحزبان على مرشّح واحد، وهو أمر أشبه بالمعجزة
الغالب على الظن، لن يتمكّن الحزبان من تجاوز معضلة منصب الرئيس رغم رمزيته؛ فالوقت أزف على التفاهم، وهو ما تشير إليه مواقيت انتخاب الرئيس الدستوريّة، ولعلّ أفضل ما قد يحدُث هو تطويق تبعات اختيار الرئيس القادم، بمعانٍ أخرى، وبافتراض تمكّن “الديمقراطي” من إيصال مرشحه للمنصب، فإنّنا سنكون أمام اتحاد وطني أكثر حدّة في خطابه المصدّر لمواطني إقليم كردستان، وسيركّز على كشف الملفّات الحكومية، وستغدو بغداد صندوق شكاوى يعج بالشكاوى القادمة من السليمانية، فيما ستعني محافظة الاتحاد الوطني على المنصب استمرار تجاهل أربيل الرئيس فوق ما قد يشكّله من جرح نرجسيّ لـ”الديمقراطي” الذي يفوز بأكبر قدر من المقاعد الكردستانية، ولا يسمح له بأن يتخطّى وصيفه (الاتحاد الوطني).
ينتظر الإقليم صداع كبير ستتسبّب به بغداد؛ ففي هذه الغضون أصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكماً بعدم دستورية “قانون النفط والغاز في إقليم كردستان”، وألزمت حكومة الإقليم بتمكين وزارة النفط وديوان الرقابة المالية الاتحادي بمتابعة إبرام العقود لبيع النفط والغاز في إقليم كردستان، وهو أوّل غيث أحكام المحكمة الاتحادية بعد منعها ترشّح زيباري، وهو ما يعني وجوب استعداد ممثلي إقليم كردستان لجولة من الإجراءات القانونية والحكومية التي ستحاول تثبيط استقلالية الإقليم، وربما الإضرار بمصالح مواطنيه، وهو ما يستلزم استئناف قطبي الخلاف الكردستاني الحوار والتوصّل إلى اتفاق استراتيجي جديد لا يأخذ بالحسبان عدد المقاعد أو المناصب التي يتحصّل عليها أحدهما، بقدر ما يركّز على عوائد الاتفاق السياسيّة، سيما في بغداد.
ما سيحول دون استدامة الخلافات الكردستانية أن يتفق الحزبان على مرشّح واحد، وهو أمر أشبه بالمعجزة، بالنظر إلى حدّة الاستقطاب؛ فتنازل أحد الحزبين للآخر يعني، في مقامٍ ما، تقوية مركز رئيس الجمهورية الذي لن يكون بعد ذلك منصباً تشريفياً، فوق أنّه يقوّي الحضور الكردستاني في بغداد ويساهم في دفع عجلة التفاهم الكردي قُدماً.
العربي الجديد