مستندا إلى خبرة طويلة من عمليات الاجتياح والضم وإعلان جمهوريات «جديدة» موالية له، يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الآن، في نقطة فاصلة من تاريخه ستقرّر إذا كان سيمضي فعلا في عملية غزو باقي أوكرانيا، أم سيكتفي بجعل الحرب خطرا جاثما على رؤوس الأوكرانيين فحسب.
بدأت عناصر أسلوب بوتين في التدخّلات العسكرية بالتكشّف من قبل أن يتولّى الرئاسة عمليا، فخلال رئاسته للوزراء عام 1999 (خلال فترة رئاسة بوريس يلتسين) حصل تدخلان عسكريان، الأول في إقليم كوسوفو لمساندة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش في مواجهة قوات تابعة للحلف الأطلسي، والثاني في الشيشان حيث تم إلغاء اتفاقية السلام مع الشيشانيين والسيطرة على البلد وضمه للاتحاد الروسي مجددا.
تدخلت القوات الروسية عام 2008 مجددا في جورجيا حيث سيطرت على منطقة أوسيتيا الجنوبية (وكان بوتين حينها رئيس وزراء نظريا وحاكما فعليا للبلاد) ثم في أوكرانيا نفسها عام 2014، فسيطرت على شبه جزيرة القرم وقامت بضمّها، كما تمّ عام 2015 تدخلها العسكري الشهير في سوريا، والمستمر حتى اليوم.
تظهر هذه التدخّلات العسكرية إيمان بوتين الحاسم بمنطق فرض الإرادة بالقوة واعتبارها أسلوبا لمراكمة النفوذ السياسي الداخلي والدوليّ لإدارته في روسيا نفسها والعالم. كان ضروريا بالنسبة لبوتين، منذ البداية، «وقف الانقسامات الداخلية» وبناء «روسيا قوية» في عالم تحكمه «المنافسة القاسية».
إحدى الخبرات المهمة التي قام بوتين بتطويرها، عبر تاريخه الممتد من كونه ضابط استخبارات إلى وصوله لرئاسة الدولة، هي عمليات التشويش على الخصوم، والتلاعب بالحقائق، وتقديم معلومات متناقضة، وتوظيف طاقات الدولة الإعلامية والاستخبارية والسيبرانية للتأثير على جمهور واسع يحبّذ العنف والشخصيات «القوية» ويشك بفاعلية النظم الديمقراطية ويحتقر السياسة والتسويات التي يضطر السياسيون للجوء إليها.
التدخّل في جورجيا، ضمن هذا السياق، حصل بسبب «السياسة الإجرامية» التي تنتهجها، والتدخل في أوكرانيا جاء لـ«حماية المواطنين الروس في شبه جزيرة القرم» والتدخّل في سوريا جاء «لدعم الجيش السوري ضد المنظمات الإرهابية».
أحد العناصر المثيرة في سياسات بوتين، هو عدم اكتراث الكرملين بإبداء رأي وعكسه، فالمهم هو إبقاء الخصم في حالة تشوّش دائم.
أعلنت موسكو، على سبيل المثال، عام 2015، سحب قواتها من جورجيا من دون أن تسحب تلك القوات، واستبعدت موسكو عند بدء تدخّلها في سوريا إرسال قوات برّية، لكنّ دوريّاتها تجوب البلاد حاليا، وأعلنت قبل أيام عودة قوات عسكرية إلى مواقعها بعد إنهاء مناوراتها على حدود أوكرانيا، ثم تحدّث مسؤولون عسكريون عن أن الانسحاب «سيستغرق وقتا» وفي اليوم نفسه الذي يتحدّث فيه مسؤولوها عن اللجوء إلى الدبلوماسية يصرّح مسؤولون آخرون أن موسكو «ستضطر للتحرك» إذا لم تقدم لها «ضمانات أمنية».
يشير تاريخ بوتين الآنف إلى أن خيار الحرب لاجتياح أوكرانيا موضوع على الطاولة فعلا، لكن تداعيات هذا الاجتياح (رغم مظاهر الضعف الغربي الواضحة) تبدو أكبر بكثير من قدرة إدارته، وبلاده، على احتوائها.
قرار الحرب مغامرة كبرى قد تغيّر التاريخ الحديث للعالم لكنّ مصير بوتين، وروسيا معه، سيرتهنان لنتائج تلك المغامرة الكبرى.
القدس العربي