خلال لقاء مسجّل «يستشير» فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كبار مسؤوليه حول القرار الذي سيتخذه حول المناطق التي يسيطر عليها انفصاليون موالون لموسكو في شرق أوكرانيا أكّد رئيس الاستخبارات الروسية سيرغي ناريشكين إنه موافق على «ضمّ» منطقتي لوغانسك ودونيتسك (في الوقت الذي كان الحديث يجري عن «اعتراف» باستقلال المنطقتين) وهو ما دفع بوتين للتصحيح للتعقيب بالقول إن الأمر يتعلّق بـ«الاعتراف» باستقلال الجمهوريتين وليس بـ«ضمهما»!
الرئيس الروسي الذي أراد، عبر تفريقه بين الاعتراف والضم، تعليم مدير استخباراته توخّي الدقة، ما لبث أن اندفع بعد ذلك الاجتماع الذي تلعثم فيه ناريشكين لبث خطاب طويل كان منطوق مقدمته أن روسيا هي التي شكلت أوكرانيا، وأن لينين، الزعيم الشيوعي الأول للاتحاد السوفييتي، هو الذي قام بفصلها عن روسيا، وأن مواطنيها كانوا يسمون أنفسهم روسا وأرثوذوكس، وأن ذلك الانفصال، مع ذلك، لم يجعل من أوكرانيا هيكل دولة حقيقية، وأن الانتخابات فيها غطاء «لإعادة توزيع السلطة والنفوذ والمصالح والممتلكات».
مجمل هذه التصريحات تعني، عمليا، أن الاعتراف بلوغانسك ودونيتسك، اللتين تركتا حدودهما مفتوحة، ليس إلا مرحلة لإعادة أوكرانيا التي انفصلت إلى روسيا (التي تمتلك هيكل دولة حقيقيا والانتخابات فيها ليست لإعادة توزيع السلطة والنفوذ!) وضم الشعبين «الشقيقين» وإنهاء الدولة الأوكرانية المصطنعة والفاشلة بإلحاقها بدولة حقيقية هي روسيا.
إضافة إلى النوايا التي يكشفها الخطاب، فإن ما جرى على الأرض يمهد، بأكثر من طريقة، للحرب، فإعلان بوتين سيادة الانفصاليين على «كامل منطقتي لوغانسك ودونيتسك» في الوقت الذي يسيطر فيه الانفصاليون على ثلث الإقليم فحسب، وانتشار قوات روسية في تلك المناطق «لحفظ السلام» يعني، عمليا، تحوّل المعركة بين الانفصاليين الأوكرانيين وكييف إلى معركة بين الدولة الأوكرانية التي ستدافع عن المناطق التي ما تزال تسيطر عليها، و«الجمهوريتين» المحميتين عسكريا من موسكو.
استشعرت تصريحات دولية متعددة هذا السيناريو الأشبه بلعبة الدومينو، التي تتساقط فيها أحجار كثيرة بعد سقوط حجر واحد، واعتبرت ما يحصل في أوكرانيا بداية لغزو روسيّ، كما فعل الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ومسؤولون دوليون آخرون، لكن هذا لا يلغي احتمالات أخرى.
أحد هذه الاحتمالات هو أن تكون خطوة الاعتراف باستقلال المنطقتين وسيلة لهبوط الرئيس الروسي عن الشجرة التي صعد عليها. حسب تقرير أوردته «الغارديان» البريطانية فإن أوضاع القوات الروسية في المناطق التي احتشدت فيها سيئة وأنها لا تستطيع الاستمرار في تلك الوضعيّة المعلّقة، فإما أن يصدر بوتين قرار الغزو، وإما أن يضطر لإعادة تلك القوات إلى ثكناتها.
لقد وضع الرئيس الروسي نفسه، في وضعيّة أشبه بوضعية جيشه الواقف على الحدود.
بعد خطابه العالي السقف، وقراره الاعتراف باستقلال «كامل» منطقتي لوغانسك ودونيتسك، وتلقّيه «دفعة أولى» من العقوبات الاقتصادية والسياسية، صار التراجع والتقدّم قرارين صعبين، وحتى لو لم يذهب إلى غزو كامل لأوكرانيا، فإن تبعات ما حصل هناك ستبقي الجرح الأوكراني – الروسيّ مفتوحا، غير أن التراجع بعد المراوحة، سيكون الخيار الأسلم لروسيا، لأن تداعيات الحرب ستقوّي السياسات الغربية المناهضة له، وستجعله تحت رحمة الصين، وفي موقع التابع الأصغر، الذي لا يرغب فيه.
القدس العربي