يبدو الوضع الراهن شبيهاً بالمشهد في أواخر ثلاثينيات” القرن الماضي في أوروبا، يقول الأدميرال الأميركي جيمس ستافريديس عن التطورات المتسارعة على الحدود الروسية الأوكرانية.
تخوف تردد التعبير عنه بصورة أو بأخرى على لسان أكثر من باحث ومعلّق وسياسي وعسكري في الولايات المتحدة الأميركية، خلال اليومين الأخيرين بعد دخول القوات الروسية إلى منطقتي دونيتسك ولوغانسك شرقي أوكرانيا، والذي سبقه خطاب طويل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمهّد فيه لاسترجاع “الحق التاريخي” في أوكرانيا وإعادتها إلى روسيا الأم.
وأعقب ذلك تسارع المؤشرات الميدانية وعمليات إخلاء مناطق الانفصاليين من الدبلوماسيين والمدنيين الروس، وإعلان حالة الطوارئ والاستنفار في أوكرانيا وتوقف المساعي الدبلوماسية. وقرع باب الحرب، ولكن السؤال عن أي حرب
في البداية، كان ترجيح الإدارة الأميركية أنّ هجمة بوتين “خدعة”، وفي أسوأ الحالات لن تذهب إلى أكثر من مناوشات وضغوط على الحدود لاستدرار التنازلات لقطع الطريق على انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) ووقف توسيعه وإعادة النظر بنشر أسلحته في أوروبا الشرقية.
تجدر الإشارة إلى أن مسألة التوسيع سبق وحذرت جهات أميركية مختلفة من عواقبها. ومن بينها من تعاطف مع الحيثية الأمنية الروسية ودعا إلى أخذها بعين الاعتبار، لكن الغلبة بقيت لصالح عدم السماح لموسكو بتغيير معادلة ما بعد الحرب الباردة.
بذلك فاتت فرصة ربما كانت متاحة في بداية الأزمة، لطرح صيغة مقبولة تنزع فتيل الأزمة وتسحب الذريعة من يد الرئيس بوتين.
من الأسباب، كما بدا، أنّ الحرب كانت خارج توقعات الإدارة الأميركية. وبذلك اجتمع تفويت الفرصة – من خلال الإصرار على ترك باب “الناتو” مفتوحاً – مع نجاح بوتين في شراء الوقت بمناوراته والتصلب في شروطه، ليؤدي إلى فشل الخيار الدبلوماسي الذي راهن عليه الرئيس جو بايدن. وقد تعرّض لانتقادات المتشددين في الكونغرس من باب أنه ذهب بعيداً في مراضاة موسكو.
والأغرب أنه خلافاً للالتفاف المألوف حول الرئيس الأميركي عندما يكون في مواجهة مع خصم خارجي مثل روسيا، يقف المحافظون في الكونغرس ووسائل الإعلام المحسوبة عليهم، ليس فقط ضد بايدن “الضعيف”، بل منهم من يقف علناً إلى جانب بوتين “العبقري” على حد تعبير الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
بقي خيار الردع المتمثل في العقوبات والذي كان مثار جدل منذ البداية. الجمهوريون في الكونغرس ضغطوا لفرض العقوبات مسبقاً كورقة مانعة لأي عمل عسكري. الإدارة الأميركية تمسكت بفرضها كمعاقبة بعد أي دخول روسي عسكري إلى أوكرانيا.
في النهاية، تبيّن أنّ التوقيت المسبق أو اللاحق ما كان ليؤدي إلى أي ردع. العقوبات التي جاءت رداً على دخول الروس إلى منطقة دونباس، بدت كعقوبة أكثر منها وسيلة رادعة. والدليل أنّ “القوات الروسية تموضعت بشكل كامل لبدء عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا”، بحسب وزير الخارجية أنتوني بلينكن، وتحذير البنتاغون قبل حوالي ساعتين.
العقوبات التي سارعت الإدارة، أمس الأربعاء، إلى فرضها على الشركة التي تتولى تمديد أنبوب الغاز الروسي “نورد ستريم 2”إلى ألمانيا، لا يبدو أنها غيّرت في الأمر شيئاً.
وفق الإجماع في واشنطن، بوتين أخذ العقوبات في قرار الحرب التي بدا الخبراء والعسكريون يستعرضون مختلف سيناريوهاتها والتي يعقد مجلس الأمن جلسة طارئة للبحث في أمرها.
وأكثر ما تردد بشأنها أنّ اقتطاع موسكو لقسم من منطقة دونباس الأوكرانية يشبه ما أقدمت عليه ألمانيا في مطلع الحرب العالمية الثانية حين ادعت السيادة على جزء من تشيكوسلوفاكيا، والباقي معروف.
ولأنّ المزاعم والظروف الميدانية متشابهة، ولو مع اختلاف البواعث والقيادات، تحرّكت هواجس تلك المرحلة لناحية ما يمكن أن تؤدي إليه مغامرة من هذا الصنف، فإنه من “الصعب الاعتقاد بأنها ستبقى محلية” روسية – أوكرانية، كما يرى مايكل أوهانلون، مدير قسم الأبحاث بالشؤون الخارجية في مؤسسة “بروكينغز” للدراسات في واشنطن.
ويُعزى التخوف في هذا الخصوص إلى عوامل واحتمالات مختلفة، يمكن أن تتناسل عن مواجهة من هذا النوع وفي محيط مشبع الآن بالتوتر والهوج.
فدخول أوكرانيا بقوة كاسرة قد يؤدي إلى “موجة لاجئين”، فضلاً عن ظهور “حركة مقاومة وتمرد” في أوكرانيا تحظى بدعم من الجوار مما قد يؤدي إلى مواجهات مع الروس وبما يجعل الحرب تفيض إلى خارج الماعون الأوكراني.
يخفي بعض المتابعين أن يكون مثل هذا الاحتمال واحداً من عناصر الخطة؛ بقصد نقل العمليات إلى مسارح أخرى وبالتحديد دول البلطيق الثلاث الملاصقة لروسيا وحليفتها بيلاروسيا.
ومن هنا كان قرار بايدن بإرسال تعزيزات وقوات إلى هذه البلدان، إستونيا وليتوانيا ولاتفيا التي يتحدث معظم سكانها الروسية مثل منطقة دونباس.
ومن هنا أيضاً كان تحذيره بأنّ أي عمل عسكري في أراضي “الناتو” سترد عليه قوات الحلف بالمثل. احتمال غير مستبعد لو خرجت الأمور عن السيطرة، فالقلق حقيقي وواشنطن الآن على أعصابها.
إدارة بايدن أخطأت في قراءة بوتين. هل يخطئ بوتين إذا مضى في حربه، في قراءة الخريطة السياسية الأوروبية التي ما زالت الحرب الثانية حية في ذاكرتها؟
العربي الجديد