هل زيارة رئيس إسرائيل إلى تركيا تعني “التطبيع” معها؟

هل زيارة رئيس إسرائيل إلى تركيا تعني “التطبيع” معها؟

حظي استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في أنقرة بالكثير من الاهتمام باعتبارها أول زيارة لتركيا منذ 14 عامًا. وخلال تلك الفترة، حدثت أزمات عديدة بين تركيا وإسرائيل، من بينها اعتراف أنقرة بنتائج انتخابات حماس التي تعتبرها إسرائيل منظمة إرهابية والمجادلة بضرورة الاعتراف بها في جميع أنحاء العالم. كما استضافت تركيا مسؤولين وممثلين عن حركة حماس، الذين فازوا في الانتخابات، من خلال الإقرار بأنهم يجسدون أعلى مستويات التمثيل في فلسطين.

دان الرئيس التركي بأشد العبارات جميع عمليات الحصار والهجمات الإسرائيلية على غزة، داعيًا إسرائيل -باعتبارها كيانًا محتلًا- إلى احترام قرارات الأمم المتحدة والعودة إلى حدود عام 1967. وأصر أيضًا على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وعلى تشجيع حل الدولتين.

تعبيرًا عن موقفه الرافض للعدوان والاحتلال الإسرائيلي، صرّح الرئيس أردوغان في حلقة نقاش عُقدت في دافوس في يناير/كانون الثاني 2010 بأن إسرائيل بارعة جدًا في إراقة دماء المدنيين والأطفال الأبرياء، وصرخ في وجه الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز قائلا “أنت تعرف جيدًا كيف تقتل الناس”. وأصبحت كلمته تعبيرًا رمزيًا عن إرادة مسلمي العالم في مقاومة الاحتلال الصهيوني.

استشهد 10 مواطنين أتراك وجُرح 50 خلال الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة”، تلك السفينة التي انضمت لأسطول الحرية في 2010  لتقديم 10 آلاف طن من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة الذي كانت إسرائيل تحاصره منذ 2007 ، فداهمت القوات البحرية الإسرائيلية النشطاء الحقوقيين على متن السفينة في المياه الدولية للحيلولة دون وصولها إلى غزة.

كانت السفينة مبادرة مدنية بالكامل للمطالبة برفع الحصار عن غزة، وأُريقت دماء تركية في سبيل القضية الفلسطينية. مثّل هذا الحدث نقطة تحوّل في العلاقات التركية الإسرائيلية. ومن جهتها، دعمت تركيا هذه المبادرة المدنية وتوترت العلاقات التركية الإسرائيلية بشكل خطير منذ ذلك الحين.

كان هناك العديد من المحاولات والوساطة لرأب الصدع، وكانت شروط تركيا لعودة العلاقات أن تقدم إسرائيل الاعتذار، وتعويض عائلات الضحايا، ورفع الحصار عن قطاع غزة. وتخللت هذه المحاولات وقتها دور للرئيس الأميركي باراك أوباما حتى تحقق الشرط الأول من الشروط التركية في مارس/آذار 2013 وبعدها بدأت سلسلة من المحادثات الجدية بين البلدين في أكثر من عاصمة أوروبية

ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من اتخاذ بعض الخطوات استجابةً لطلبات الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية لتحسين العلاقات بين البلدين، فإن العلاقات ظلت متوترة. فضعف الثقة أو انعدامها بين الطرفين لا يزال موجودا، إذ يرى الإسرائيليون أن الأزمة لم تكن لأسباب دبلوماسية بحتة، بل مرتبطة بفكر وأيديولوجيا القيادة التركية.

في سياق الثقة المتدهورة نفسه وحيث تحاول تركيا أن تجعل لها موطئ قدم أرسخ في القضية الفلسطينية، وقد حاولت بشكل جدي تخفيف الحصار عن قطاع غزة وما زالت متمسكة بعلاقاتها مع حماس، فإن هناك دعوات في إسرائيل لتكثيف العلاقة وتقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض تركيا معه حربًا حقيقية حاليًّا في مدن الجنوب الشرقي التركية. وفي السياق ذاته، وكما أكَّدت تركيا للفلسطينيين أنها لن تتخلى عن العلاقة معهم، حاولت إسرائيل أن تلعب الدور نفسه، فقام نتنياهو في تلك الأثناء بالاتصال بالرئيس القبرصي وأطلعه على أن هناك اتفاقا ما يجري مع تركيا وأكَّد له عدم تأثيره على العلاقات الإسرائيلية القبرصية.

استمرت أعمال عدوان الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والقدس ولم تلتزم تركيا الصمت حيال ذلك. لكن حتى مع توتر العلاقات الدبلوماسية، تواصلت العلاقات التجارية بين الطرفين إلى مستوى معيّن ووصل حجم المبادلات التجاريّة خلال فترة الجائحة إلى 8.5 مليارات دولار. فمنذ سنوات طويلة والعلاقات التركية الإسرائيلية تسير على مبدأ فصل الاقتصاد عن السياسة، في معادلة تثبت أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك ربط بين المصالح السياسية بشتى أصنافها مع حجم التبادل التجاري بين بلدين معينين.

مع ذلك، يجب على من يُشبّهون بين زيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا وتطبيع العلاقات مع إسرائيل أن يتذكّروا معطى مهما، وهو أن تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل منذ عام 1948 -أي عندما تأسست إسرائيل لأول مرة- دون أن تحظى هذه الخطوة بقبول الشعب التركي. في تلك الفترة، هُزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى وبُعثت دولةً جديدة بهيكل وأيديولوجيا أكثر ميلا للغرب، ولم يكن لدى تركيا القوة ولا الفهم الأيديولوجي المناسب لمقاومة مثل هذا الطلب المفروض من الولايات المتحدة وأوروبا.

خلال السنوات السبعين الماضية، كانت العلاقات بين تركيا وإسرائيل طبيعية. ولكن وصول أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى السلطة قلب الموازين. ورغم عدم انقطاع العلاقات مع إسرائيل بشكل تام، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة تغيّرها. واصلت أنقرة الاعتراف بإسرائيل، لكنها عارضت وبشكلٍ واضح الاحتلال الإسرائيلي الجائر والتوسع الاستيطاني والسياسات العدوانية. لم يدر أردوغان ظهره للقضية الفلسطينية من أجل الحفاظ على العلاقات مع إسرائيل، بل على العكس من ذلك.

وبناء على ذلك، لابد من التمييز بين قرار الحفاظ على العلاقات ومسألة إنشاء علاقة لم تكن موجودة من قبل. كما أن “التطبيع” مع إسرائيل مقابل التضحية الكاملة بالقضية الفلسطينية يختلف اختلافًا جوهريًا عن سياسة تركيا التي لا تتجاهل في الواقع القضية الفلسطينية بأي شكل من الأشكال. كانت هذه طبيعة العلاقة بين تركيا وإسرائيل منذ البداية، ولا تزال تركيا المدافع عن حقوق الفلسطينيين أمام إسرائيل. في المقابل، قامت العديد من الدول باسم التطبيع مع إسرائيل بالحد من علاقاتها مع الفلسطينيين وإلغاء حصار غزة تمامًا من أجندتها

كان لزيارة الرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة مغزى خاص. أشار أردوغان علانية خلال المؤتمر الصحفي إلى أن العلاقة التاريخية بين إسرائيل وتركيا يمكن أن تقوم على أساس المصلحة المشتركة دون الالتزام بالاتفاق على كل شيء، وأن تركيا ستواصل دائمًا دعم القضية الفلسطينية، وجدد التذكير بضرورة انسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967 من أجل حل مقبول للقضية الفلسطينية. وفي إطار هذه الزيارة، أعلن أردوغان أن وزير الخارجية التركي سيزور فلسطين وإسرائيل؛ وكانت هذه رسالة واضحة مفادها أن العلاقات مع إسرائيل ستستمر بموافقة ورضى الأطراف الفلسطينية وتحديدًا فتح وحماس.

مثّلت القضية الفلسطينية محورًا رئيسيًا في محادثات أردوغان مع هرتسوغ، حيث قال الرئيس التركي “لقد شاركت بصراحة نهجنا وحساسياتنا مع هرتسوغ. لقد أعربت عن الأهمية التي نوليها لتقليل التوترات في المنطقة والحفاظ على رؤية حل الدولتين. كما شددت على أهمية المكانة التاريخية للقدس والحفاظ على الهوية الدينية وقدسية المسجد الأقصى. ولفتُّ الانتباه إلى أهمية تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين. وأكدت أننا نتوقع دعم السلطات الإسرائيلية لمواصلة أنشطة منظماتنا مثل “تيكا” و”الهلال الأحمر التركي”، التي تنفذ مشاريع لصالح الشعب الفلسطيني”.

لا تخلو العلاقة بين تركيا وإسرائيل من تمثيل الفلسطينيين بفاعلية، ولا تتردد تركيا في التنديد بمواقف إسرائيل العدوانية. ومن غير المعلوم إلى أي مدى ستستمر هذه العلاقة، لكن من المفيد دائمًا إعطاء فرصة للسلام والاستقرار والقانون. هذا هو الغرض من السياسة والدبلوماسية. ولو تبنت جميع الدول الإسلامية هذا الموقف، لكان من السهل حل مختلف مشاكل العالم الإسلامي اليوم، واكتساب المسلمين مكانة أقوى وأكثر تشريفًا أمام جميع قوى العالم.

ياسين أقطاي

الجزيرة