تشكل الحرب الروسية الأوكرانية فرصة هامة للصين لمراقبة وتقييم ردود الفعل الأمريكية والغربية، إذا قررت بكين القيام بعملية عسكرية لضم تايوانبالقوة، خاصة أنها كثفت في الأشهر الأخيرة اختراق الأجواء التايوانية، ناهيك عن المناورات العسكرية الضخمة.
ففي نفس اليوم الذي بدأ فيه الهجوم الروسي على أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط الماضي، اخترقت 9 طائرات حربية صينية الأجواء التايوانية، دون أن تعترضها الدفاعات الجوية.
وهذه الاختراقات للأجواء التايوانية ليست بالحالات النادرة، إذ شهد عام 2021، عشرات الاختراقات، كان في 11 مارس/ آذار الجاري، عبر 3 طائرات حربية صينية (جي 16، جي 11، ي8 إلينت)، بحسب ما أعلنته وزارة الدفاع التايوانية، على موقعها الرسمي.
والتصريحات الصينية باجتياح تايوان عسكريا تصاعدت بشكل غير مسبوق، ورسائل التهديد كانت موجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى؛ لأنها من يحول دون ضم جزيرة تايوان إلى البر الصيني منذ 1949، عندما لجأ إليها القوميون الصينيون بعدما خسروا الحكم في مواجهة الشيوعيين.
ففي 29 يناير/ كانون الثاني الماضي، قال السفير الصيني لدى واشنطن “تشين تشانغ”، في تصريح صحافي: “إذا واصلت السلطات التايوانية التي تشجعها الولايات المتحدة، السير على طريق الاستقلال، فمن المحتمل أن تنزلق الصين والولايات المتحدة، وهما الدولتان الكبيرتان في عالم اليوم، إلى صراع عسكري”.
بل واعتبر السفير الصيني أن “الولايات المتحدة تلعب بالنار بتشجيعها لتايوان على الاستقلال”.
غير أن أخطر تصريح يهدد باندلاع حرب بين بكين وواشنطن بسبب تايوان، صدر من وزارة الخارجية الصينية، في 1 مارس، جاء فيه: “الولايات المتحدة تُضخّم مرور سفنها الحربية عبر مضيق تايوان، إن كان قصدها إرسال رسالة لدعم استقلال تايوان، فإن هذه التصرفات لن تؤدي إلا إلى تسريع انهيار قوي لاستقلال تايوان، وستدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً لأفعالها”.
وعبور سفن حربية أمريكية مضيق تايوان، الذي يفصل الجزيرة عن البر الصيني على مسافة تبلغ نحو 150 كلم، سعى لطمأنة حكومة “تايبيه”، أن واشنطن لن تتخلى عنها إذا ما تعرضت إلى أي هجوم صيني.
كما كان رسالة إلى بكين أن واشنطن لن تكون ردة فعلها مع أي هجوم صيني على تايوان مثلما هو الحال مع الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا.
حيث أعلنت واشنطن أنها لن تدخل الحرب ضد روسيا دفاعا عن أوكرانيا، واكتفت بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على موسكو، وتزويد كييف بأسلحة خفيفة مضادة للدروع والطائرات.
وتايوان على غرار أوكرانيا، ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولا ترتبط مع الولايات المتحدة بأي اتفاقية للدفاع المشترك، باستثناء مذكرات تفاهم عسكرية، إلا أن واشنطن ملتزمة بالدفاع عنها.
وهذا الالتزام الأمريكي مرتبط بأسباب تاريخية واستراتيجية لمحاصرة الصين (الشيوعية) من الجبهة الشرقية، ضمن حزام يضم كلا من اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان.
لكن تايوان تكتسي أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن والعالم، لأنها تصنع نحو ثلثي الإنتاج العالمي من أشباه الموصلات (الرقائق الإلكترونية) التي تدخل في صناعة مختلف المنتجات الإلكترونية والتكنولوجية مثل السيارات والطائرات والصواريخ.
فيما لا تنتج الصين سوى نحو 5 في المئة من الرقائق الإلكترونية، والمتخلفة تكنولوجياً بجيلين عن شركة “تي أس آم سي” التايوانية، المهيمنة على السوق العالمية، والتي تشارك في فرض عقوبات على روسيا، ما سيخنق صناعاتها العسكرية بالذات.
وسيطرة الصين على تايوان تهدد سوق الرقائق الإلكترونية العالمية، ما يجعل أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكبر بكثير من أوكرانيا، المصنفة كحديقة خلفية لروسيا.
وهذا ما يفسر تجمع 3 حاملات طائرات أمريكية عملاقة، في جزيرة أوكيناوا اليابانية القريبة من السواحل التايوانية والصينية، في 20 أغسطس/ آب الماضي، وعلى متنها أقوى الطائرات الحربية “إف 35 بي”.
وجاء هذه الحشد العسكري الأمريكي الضخم ردا على تكثيف الصين مناوراتها العسكرية البحرية في سواحلها الشرقية، حيث أجرت خلال يوليو/ تموز وأغسطس، 10 ألوية من الجيش الصيني مناورات للنقل البحري، حسب معهد دراسات الفضاء الصيني التابع للقوات الجوية الأمريكية.
وفي إحدى هذه المناورات التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حذرت وزارة الدفاع الصينية في بيان، وفدا للكونغرس الأمريكي زار تايوان، قائلة: “لا ينبغي لأحد أن يقلل من أهمية عزم جيش التحرير الشعبي على حماية السيادة الوطنية للشعب الصيني وسلامة أراضيه”.
وأجرى الجيشان الصيني والروسي مناورات عسكرية في أغسطس الماضي، في الأراضي الصينية شملت 10 آلاف عسكري، تحت شعار “التعاون”، ما يعكس أن التعاون بين بكين وموسكو لا يقتصر فقط على الجوانب الاقتصادية والدبلوماسية، بل يشمل الجوانب العسكرية أيضا.
ورغم نفي الصين علمها بالهجوم الروسي على أوكرانيا، إلا أنها قد تستغل انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب في شرق أوروبا، للبدء في عملية نقل ضخمة لقواتها إلى جزيرة تايوان، والذي تستعد له منذ سنوات طويلة.
لكن بكين ما زالت تحسب معدلات الربح والخسارة إذا أقدمت على خطوة بهذا الحجم، ليس فقط من الناحية العسكرية بل أيضا من الناحية الاقتصادية.
فانفتاح الصين على الأسواق الغربية يمثل أحد أسباب ازدهار اقتصادها، وإذا تعرضت لعقوبات اقتصادية كالتي فرضت على موسكو فمن شأن ذلك أن يضعف نموها.
فالصين سبق لها وأن جربت الحرب ضد الفيتنام في 1979 لردعها عن التدخل العسكري في كمبوديا، ولكن هذه الحرب كلفتها خسائر اقتصادية كبيرة، دون أن تتمكن من تحقيق جميع أهدافها رغم أن عدوها لم يكن دولة عظمى.
لذلك كانت حرب فيتنام آخر حرب تدخلها الصين، إلا أن الاقتصاد الصيني تضخم بشكل كبير منذ 1979، وتمكن من مواجهة التهديدات الأمريكية، وتجلى ذلك في عهد الرئيس دونالد ترامب (2017-2020)، عندما تمكنت بكين من الرد على رفع الرسوم على صادراتها للسوق الأمريكية بالمثل، ما أوجع واشنطن على عدة أصعدة، سواء بالنسبة للمصدرين الأمريكيين أو المستهلكين.
فالصين تمتلك قدرات هائلة بإمكانها الإضرار بالاقتصاد الأمريكي إن تعرضت لعقوبات، وعسكريا تطورت قدراتها كثيرا مقارنة بما كانت عليه في الحرب الكورية (1950- 1953).
غير أن مواجهة عسكرية واقتصادية شاملة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية حول تايوان، قد يجر بلداناً أخرى إلى دوامة حرب عالمية ثالثة، خاصة إذا تزامنت مع الحرب الروسية الأوكرانية.
(الأناضول)