شهدت الساحة السياسية العراقية تطوراً مفاجئاً، تمثل في اتصال السيد مقتدى الصدر برئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي في 10 مارس، ليعقبه اجتماع بين الصدر وبعض قيادات الإطار التنسيقي في 12 مارس، وهما التطوران اللذان فتحا الباب أمام إمكانية اتجاه الصدر لتشكيل حكومة توافقية.
وسرعان ما تراجعت فرص تشكيل مثل هذه الحكومة في أعقاب نشر الصدر عقب اجتماعه مع التنسيقي، في 12 مارس، على توتير صورة تحمل توقيعه، كتب عليها “لا شرقية ولا غربية، حكومة أغلبية وطنية”، في إشارة إلى إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أي أنه يقول إن “الحكومة يجب ألا تكون تابعة للدولتين أو تشكل برغبة أي منهما”.
اتصال الصدر بالتنسيقي:
اتجه السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، لحلحلة الجمود الذي طال العملية السياسية العراقية، وذلك عبر القيام بالخطوات التالية:
1- اتصال الصدر بالمالكي: أعلن مكتب الصدر، في 10 مارس الجاري، عن إجراء زعيم التيار الصدري اتصالات هاتفية مع كل من مسعود البارزاني ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي ورئيس تحالف السيادة خميس الخنجر، بهدف مناقشة الوضع العراقي الحالي. ومثّل اتصال الصدر بالمالكي تطوراً لافتاً، إذ إنها جاءت بعد قطيعة امتدت على مدار عشر سنوات، وهو ما أعطى مؤشراً على إمكانية سحب الصدر لتحفظه على التحالف مع الأخير، وبالتالي الإطار التنسيقي.
2- الاجتماع بالإطار التنسيقي: شهدت منطقة الحنانة بمحافظة النجف اجتماعاً بين بعض قادة الإطار التنسيقي” وتحديداً هادي العامري، وفالح الفياض، وأحمد الأسدي، مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وزعيم تحالف “السيادة” خميس الخنجر، والتيار الصدري في 12 مارس الجاري.
وتجدر الإشارة إلى أن الاجتماع عقده الصدر بحضور حلفائه السنّة، وهو ما مثّل مؤشراً على أن الصدر لن يتراجع عن التحالف الثلاثي مع السنة والأكراد، لصالح إقامة تحالف شيعي خالص مع الإطار التنسيقي، كما كان الأخير يرغب. وجاء الاجتماع بهدف الخروج من حالة الانسداد السياسي والتعطيل الدستوري في العراق، والتباحث حول آلية تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية.
3- طرح مرشح جديد لرئاسة الحكومة: طرح الصدر اسم جعفر الصدر (52 عاماً)، وهو السفير العراقي لدى بريطانيا، وابن عم زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، كمرشح لمنصب رئاسة الوزراء، وهو ما يعني تخلي الصدر عن ترشيح الكاظمي لولاية جديدة، وهو ما يمثل تجاوباً لأحد مطالب التنسيقي، والذي كان يرفض الكاظمي، بسبب سعيه لتحجيم ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران.
وألمح رئيس الحكومة الحالية، مصطفى الكاظمي، إلى انتهاء مهامه، حيث كتب الكاظمي في تغريدة على حسابه في “تويتر” أدينا الواجب الذي استدعينا من أجله في خدمة شعب العراق، ولم نتردد أو نتقاعس أو نساوم على حساب المصلحة الوطنية، ولم نقدم مصالحنا على مصالح شعبنا، كما لم ننجر إلى المساجلات والمزايدات”.
تفسير تراجع الصدر المؤقت:
تتمثل أبرز الأسباب التي قد تكون دفعت الصدر إلى اتخاذ هذه الخطوة في هذا التوقيت في النقاط التالية:
1- صعوبة امتلاك أغلبية الثلثين: ذهبت بعض التحليلات إلى أن أحد أسباب انفتاح الصدر المؤقت على التنسيقي هو قرار المحكمة الاتحادية حول النصاب القانوني لجلسة البرلمان التي ستنتخب رئيس الجمهورية، والتي يجب أن تجري بأغلبية الثلثين في ظل حضور ثلثي نواب مجلس النواب العراقي، أي أن العدد المطلوب لحضور جلسة الرئيس هو 220 نائب، على أن يتم انتخابه بأغلبية ثلثي الحضور، أي 148 مقعداً.
وفي حين أن التحالف الثلاثي (التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، وتحالف السيادة السني برئاسة خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي) يجمع عدداً من المقاعد يتراوح بين 170 و200 مقعد، فإن هذا يعني أنهم لا يمتلكون بمفردهم تحقيق النصاب القانوني اللازم لانعقاد الجلسة، ولكن على الجانب الآخر، نظراً لأن الإطار التنسيقي (83 نائباً على أفضل تقدير) لا يمتلك الثلث المعطل، والمقدر بحوالي 110 نواب، حتى لو تحالف مع الاتحاد الوطني الكردستاني (19 مقعداً)، فإن هذا يعني أن التنسيقي لا يستطيع منع انعقاد البرلمان، خاصة أن هناك كتلة سائلة من المستقلين قد تحضر جلسة انتخاب الرئيس، وهو ما يؤهل التحالف الثلاثي لتمرير مرشحه. ولذلك، لا يتوقع أن يكون النصاب القانوني لانعقاد جلسة رئيس الدولة كان هو السبب في انفتاح الصدر المؤقت على التنسيقي.
2- تحسين صورة الصدر داخلياً: أكد التيار الصدري خلال الفترة الماضية عن رغبته في حسم قضية تشكيل الحكومة، والنأي بنفسه عن التأخير والانسداد السياسي، لاسيما مع وجود حالة من الاحتقان والغضب الشعبي على النظام السياسي العراقي، وما يشهده العراق من تدهور في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وهو ما تزايدت وتيرته في ظل تداعيات الصراع الروسي – الأوكراني، وهو ما قد يعيد الاحتجاجات الشعبية مرة أخرى في مختلف المدن والمحافظات العراقية.
ولكن على الجانب الآخر، فإن تحالف الصدر مع التنسيقي سوف يعني عملياً أن حكومة الصدر الجديدة لن تختلف عن الحكومات السابقة، والتي ثار الشعب العراقي عليها، وكانت سبباً مباشراً في إجراء انتخابات تشرين المبكرة.
3- تهديد إيران للصدر: شهد العراق ضغوطاً إيرانية مكثفة على الصدر من أجل القبول بضم الإطار التنسيقي إلى حكومته، وهو ما رفضه الأخير. ويبدو أن إيران لم تتراجع عن ممارسة الضغوط على الصدر، وهو ما وضح في إعلان الحرس الثوري الإيراني استهداف “مركزاً استراتيجياً” إسرائيلياً في مدينة أربيل، في 13 مارس الجاري. غير أنه من الواضح أن الصواريخ الإيرانية وقعت بالقرب من القنصلية الأمريكية في أربيل، وكذلك مبنى للتلفزيون تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني.
ويعني ما سبق أن هجوم الحرس كان رسالة تحذير للأخير، والذي يعد أحد أطراف الاتفاق الثلاثي، وكذلك للولايات المتحدة، والتي تشك إيران في أنها تلعب دوراً في استبعاد حلفائها من الحكومة العراقية القادمة. وعلى الرغم من أن الضغوط الإيرانية قد تكون ساهمت في انفتاح الصدر على التنسيقي، فإن مسارعة الصدر لمهاجمة إيران عقب قيامها بضرب أربيل بصواريخ باليستية يكشف استمرار الصدر في رفضه الاستجابة للضغوط الإيرانية.
تفسيرات محتملة بديلة:
جدد التيار الصدري بمجرد انتهاء الاجتماع الأخير مع الإطار التنسيقي تمسكه بحكومة “أغلبية وطنية”، مرة أخرى، كما سبقت الإشارة، وهو ما يمكن تفسيره على النحو التالي:
1- الضغط على الأكراد: يمكن النظر إلى انفتاحة الصدر المحدودة على التنسيقي على أنها محاولة للضغط على الحزب الديمقراطي الكردستاني، ودفعه للتوافق مع الاتحاد الوطني الكردستاني على منصب رئيس الجمهورية، خاصة أن الصدر حاول، في البداية، دفع الجزبين الكرديين للتوافق على هذا المنصب، وإن أكد في النهاية التزامه بدعم مرشح الديمقراطي الكردستاني. ولاشك أن تحالف الصدر مع التنسيقي سوف يخصم من عدد الحقائب الوزارية التي ستحصل عليها قوى التحالف الثلاثي مقارنة بما لو اتجهت الأخيرة لتشكيل الحكومة منفردة مع ضم الاتحاد الوطني الكردستاني فقط.
2- تشدد الإطار التنسيقي: يمكن أن تكون المواقف المتعنتة للتنسيق هي السبب في تراجع الصدر عن التحالف معهم. فقد اشترط التنسيقي على التيار الصدري تشكيل تحالف شيعي خالص يضم الصدر والتنسيقي، وهو ما يعني تخلي الأول عن السنة والأكراد، وذلك لتشكيل “الكتلة الأكبر” في البرلمان.
كما رفض التنسيقي مرشح الصدر الجديد، بل وطرح التنسيقي أربعة مرشحين، وهم حيدر العبادي وقاسم الأعرجي ومحمد توفيق علاوي وعبد الحسين عبطان، وهو ما يعني عملياً مصادرة حق الصدر في اختيار رئيس الوزراء الجديد، وهو أمر من الصعب على الصدر القبول به، خاصة أنه هو من يمتلك الأغلبية في البرلمان الجديد عبر التحالف الثلاثي.
وفي الختام، يمكن القول إن الصدر لايزال يمتلك اليد العليا في تشكيل الحكومة العراقية القادمة، إذ إنه يمتلك الأغلبية التي تمكنه من ذلك، بل أنه ليس هناك أي مؤشر على أن خصومه من الإطار التنسيقي يمتلكون الثلث المعطل، وقد يستغل الصدر انفتاحه المحدود على التنسيقي لدفع الأكراد للتوصل إلى مرشح تسوية لمنصب رئاسة الدولة العراقية على نحو يساهم في تعزيز قدرة الصدر على تشكيل الحكومة القادمة بأغلبية مريحة وبصورة تجعل التنسيقي إما يقبل بشروط الصدر، أو يبقى وحيداً في المعارضة.
المستقبل للدراسات