بيروت- تحت قبّة أحد المساجد القديمة في طرابلس شمالي لبنان، تعيش مجموعة من النسوة الأرامل والمطلقات في باحةٍ تسمى بـ”الخانكة”، وتضم غرفا قديمة تفتقد للحدّ الأدنى من مقومات العيش.
والخانكة التي تعود ملكيتها لدائرة الأوقاف الإسلامية، تحولت منذ عشرات السنين إلى ملجأ للنساء الأرامل والفقيرات اللواتي لا معيل لهن، وتتقاسم حاليا نحو 18 سيدة مع أبنائهن، معاناتهن بتأمين قوتهن وظروف عيشهن القاسية.
تقول سيدات الخانكة إنهن لم يشترين أصناف اللحوم منذ أشهر طويلة، وينتظرن رمضان والأعياد لطهيها إذا حصلن على حصصٍ بالمعونات والأضاحي. وتأسف لمراكمتهن فواتير الديون بالدكان لشراء بعض حاجاتهن الغذائية اليومية.
وتحتسب نيفين كلفة تحضير مائدة رمضانية، فتقول إن كل واحدة تحتاج لنحو 200 ألف ليرة لإطعام أولادها وجبة رئيسية بلا لحوم، فتقاطعها أُم علي مستنكرة “ومن أين نأتي بثمن قارورة الغاز البالغ نحو 300 ألف ليرة؟”. ثم تعطي مثالًا عن طبق البرغل مع السَّلطة، فتجد أن كلفته الحالية نحو 140 ألف ليرة، أي أكثر بـ10 أضعاف من كلفته قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية منذ خريف 2019.
عند أطراف الخانكة، تعج الأسواق الشعبية في طرابلس التي تعدّ من أكثر المدن اللبنانية فقرا، إحياءً لطقوس رمضان. ومعظم النساء والرجال يتذمرون من الأسعار الباهظة للحوم والخضروات، إذ يقول أحد الباعة للجزيرة نت، إن الأنماط الشرائية للناس انقلبت رأسًا على عقب، فقد لجأ أغلبهم لتقنين الكميات والقبول بنوعيات غير طازجة مقابل شرائها بثمن أقل.
وهكذا، تتفاقم تحديات عشرات آلاف الأسر، في خضم أزمة فرضت واقعا مريرا دفع أكثر من 80% من السكان نحو الطبقات الفقيرة، وفق تقديرات أممية.
تحديات اللبنانيين في رمضان 2022
يُجمع خبراء أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية لرمضان، محطة عابرة من مسارٍ انحداري لواقع الأسر اللبنانية.
وفي عام 2022، بلغت نسبة زيادة الأسعار 2100% بالأشهر الأولى من العام الجاري مقارنة بأسعارها قبل الأزمة 2019، بينما كانت بنسبة 700% في الفترة عينها من عام 2021، بحسب ما يشير رئيس جمعية حماية المستهلك بلبنان زهير برو للجزيرة نت.
وتتأثر أسعار السلع بالتقلبات الحادة لسعر صرف الدولار، البالغ أخيرا 24 ألف ليرة بالسوق السوداء التي تتحكم بالقيمة الفعلية للعملة (سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات)، ويوازي المعدل التقريبي للأجور أقل من 100 دولار، ويوازي الحدّ الأدنى للأجور (675 ألفا) 28 دولارا.
وفي رمضان الماضي (2021)، ذكر مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، أن كلفة الإفطار المؤلف من مقبلات ووجبة أساسية للفرد لأسرة مؤلفة من 5 أفراد، تقدر في كل شهر رمضان بمليون و800 ألف ليرة. حينها، كان سعر صرف الدولار نحو 12500 ألف ليرة، وكانت الحكومة توفر عبر مصرف لبنان المركزي دعم استيراد السلع الأساسية.
ما يعني أن كلفة الإفطار لعام 2022، سترتفع لأكثر من 100% مقارنة برمضان الماضي.
سوق شعبي في طرابلس قبيل رمضان – الجزيرة
سوق شعبي في طرابلس قبيل رمضان (الجزيرة)
دلالات
يعتبر الأكاديمي والباحث المستشار في قضايا الفقر والتنمية، أديب نعمة، أن عادات الغذاء في لبنان تأثرت بشكل مباشر بالأزمة.
وقال للجزيرة نت إن التحول السلبي طرأ على العادات الغذائية للطبقة الوسطى، بينما لم تتغير نوعية الغذاء لدى الطبقة الفقيرة، بل قلصت كمياتها للحدود الدنيا.
ويعيدنا ذلك لتقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، الصادر في أغسطس/آب 2021، بإشارته أن أكثر من 30% من أطفال لبنان ينامون ببطونٍ خاوية، وأن 7% من الأسر لا تملك ما يكفي من غذاء أو مال لشرائه، وأن 60% من الأسر تضطر لشراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو الاقتراض.
وهنا، يقول الكاتب والخبير الاقتصادي منير يونس، للجزيرة نت إن الفقر المتعلق بالأمن الغذائي يطال نحو ثلث سكان لبنان، معتبرا أن الناس يواجهون أزمة تكاليف الغذاء بالمرونة وفق المفهوم الاقتصادي، “إذ يتخلون عن بعض العادات الغذائية، ويكتفون بالأساسيات”.
لكن المشكلة الكبرى، بحسب الخبير، أن الأساسيات باهظة الثمن، فأضحت أسعار الخضروات خيالية، وكذلك أسعار الزيوت، “بلغت مستويات تاريخية لم نعهدها قبل الحرب الروسية على أوكرانيا”.
بالمقابل، يشكو الناس من فوضى الأسعار وفروقاتها بين المناطق والمتاجر، حتى صار شراء السلع الغذائية، مهمة شاقة يتكبدها اللبنانيون، بحثًا عما هو أرخص.
ويربط منير يونس هذا الوقع الذي يضرب ثقة اللبنانيين بالسوق، بعوامل عدة أبرزها:
عدم وجود معلومات لكل من الاستيراد والإنتاج، من حيث أسعار الكلفة لدى وزارة الاقتصاد والجهة المعنية بالمستهلك، ما يعيق مواجهة التجار بهذه الداتا، وتاليا، يُبْرز بعضهم أي فاتورة كلفة للوزارة دون أن تكون للأخيرة قدرة على تدقيقها والتحقق من الهامش القانوني للأرباح.
التجارة في لبنان تاريخيا، عبارة عن احتكارات من قبل شريحة صغيرة من المستوردين الذين يسيطرون على السوق، إذ يوجد أقل من 10 مستوردين يؤمنون الحاجات الاستهلاكية الأساسية؛ ما يعني أن السوق ليست مفتوحة على المنافسة لصالح المستهلك.
يوجد في لبنان نحو 24 ألف نقطة بيع، بين دكان صغير ومتجر كبير، ونحو 20% فقط لديها رقم ضريبي ما يفاقم ظاهرة المضاربات والفوضى.
يستورد لبنان 100% من حاجاته الاستهلاكية، إضافة إلى ارتفاع أسعار معظم المواد الأولية من المصدر، وسط تقلبات بأسعار الصرف، فيستبق التجار الأحداث ويرفعون أسعارهم عشوائيا.
وعليه، تعززت تشوهات الأسعار وفق يونس، لكن المشكلة برأيه، تكمن ببنية الاقتصاد اللبناني منذ ما قبل الأزمة، وغياب الرقابة الفاعلة على حركة التجارة والاستيراد.
تعميق الفقر
هذا الواقع، يحيلنا لدراسة صدرت حديثا في مارس/آذار 2022، عن دائرة الإحصاء الرسمية، حول “الدليل المتعدد الأبعاد للفقر لعام 2019″، وشملت 39 ألف أسرة في لبنان، وهي عبارة عن قراءة لواقع الأسر بالفصل الأول من عام 2019. وبحسب الدراسة، سيشكل الدليل، مؤشرا لمقارنة واقع الفقر، قبل الأزمة وبعدها.
واطلع الأكاديمي أديب نعمة على بيانات الدراسة، لافتا إلى أن الفقر قبل الأزمة، كان بمعدل 53%، وهي تشمل نسبة الأسر التي تحتاج لمساعدة لسد احتياجاتها الأساسية، لأن مدخولها لا يغطيها.
وبعدما طال الفقر نحو 80% من السكان، يربطه نعمة بواقع المداخيل، استنادا لدراسة دائرة الاحصاء:
نحو 18% من السكان، يتقاضون رواتب أقل من 650 ألف ليرة، كانت توازي قبل الأزمة 435 دولارا، وتوازي الآن 27 دولارا.
نحو 25%، يتقاضون رواتب تتراوح بين 650 ألف ليرة، ومليون و200 ألف (كانت توازي 800 دولار، توازي الآن 50 دولارا).
نحو 30% من السكان، يتقاضون رواتب بمعدل مليونين و400 ألف ليرة، كانت توازي 1600 دولار، توازي اليوم 100 دولار.
نحو 21% من السكان، يتقاضون رواتب تتراوح بين مليونين و400 ألف ليرة، وأقل من 5 ملايين ليرة (كانت توازي نحو 3 آلاف و300 دولار، صارت توازي 208 دولارات).
نحو 6% فقط من السكان، يتقاضون أكثر من 5 ملايين ليرة.
وفيما لم تطرأ تعديلات جوهرية على مداخيل الأسر، فإن كلفة المعيشة بلبنان راهنا، لتوفير النفقات الأساسية من مأكل ومسكن وكهرباء ومواصلات، تتطلب نحو 5 ملايين ليرة لأسرة صغيرة، وفق الخبير.
أي أن الحد الأدنى للأجور المطلوب، يوازي مداخيل الشريحة التي كانت تشكل نسبة 6% من سكان لبنان، بحسب نعمة، “ما يعني أن الأسر اللبنانية، تشهد تغييرات جذرية بنمط عيشها، وتسعى لضبط استهلاكها لدرجة التقشف”.
المصدر : الجزيرة