شاع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نوع من الخرائط الكاريكاتورية، ظهرت في المطبوعات الأوروبية بشكل عام، تصور كل دولة أوروبية على هيئة معينة، حيوانية كانت أو إنسانية أو غيرها، تُمثل وضعها في المنظومة الدولية، أو في إطار الصراع الأوروبي – الأوروبي.. إذا كان لنا أن نلقي نظرة عامة على أشهرها سنجد عاملاً مشتركًا يربط بينها مع اختلاف الشكل والتقنية، هو وضع روسيا.. فكل هذه الخرائط تصورها في وضع عملاق تتصاغر بجانبه دول أوروبا مجتمعة، وتكاد تجثم عليها من الشرق.. فتارة نراها على هيئة أخطبوط عملاق يلتف بأطرافه المتعددة حول بلدان أوروبا خاصة الشرقي منها.. وتارة على هيئة دب ضخم فاغر فاه لابتلاعها.. وأخرى على هيئة جرار ضخم يأتي مسرعًا يجر آلات حرثه .. وفي صورة القيصر الضخم الذي يدوس بأقدامه في لامبالاه على دول أوروبا الضئيلة بجانبه من ناحية الشرق، والكثير من الصور الموحية الأخرى التي إن دلت جميعًا فإنها تدل على تلك الصورة النمطية التي صارت متداولة في الواقع الأوروبي في تلك الفترة المشحونة بالنزاعات.. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الصورة قد أخذت أبعادها عبر قرون كان لأوروبا فيها أن تتعرف على أوجه متعددة لتلك القوى الجديدة في تاريخها.
إذا رجعنا إلى المرحلة الأولى من التاريخ الروسي الحديث، عندما توحد الروس تباعًا منذ أواخر القرن الخامس عشر وبدأت موسكو في التحرر من دفع الجزية لخانات تتار القبجاق المسلمين أوائل القرن السادس عشر.. سنجد أساس دولة كبرى – ستصبح بعد بضعة عقود ذات مساحة شاسعة – تتحرك للتوسع على حساب الأراضي التترية المجاورة في قازان وأستراخان.. وبالفعل استطاع إيفان الرابع الملقب بالرهيب (حكم 1533-1584م)، احتلال قازان الواقعة على نحو ثمانمائة كيلومتر شرقي موسكو، وإسقاط خانيتها (إمارتها) عام 1552م، منتقمًا فيها من التتر المسلمين بارتكاب أحد أبشع المذابح التي ستصبح ديدنًا بعد ذلك في حروبها معهم، ثم أستراخان التي تبعد عنها جنوبًا بنحو ألف وخمسمائة كيلومتر، بعدها بعامين، كأول خطوة توسعية لها حول بحر قزوين ومنطقة القوقاز.. أدى هذا وغيره من سياسته العدوانية تجاه مسلمي هذه المناطق، إلى دفع خانية تتار القرم بالتعاون مع العثمانيين إلى شن هجمات قوية، كان لها أن تبلغ موسكو نفسها عام 1571م، وتضرم النيران في بعض ضواحيها، والتي سرعان ما وصلت إلى مبنى الكرملين نفسه، ما دفع إيفان إلى الهرب من عاصمته.. لكن لم يكن النزاع مع المسلمين في تلك المناطق هو الشاغل الوحيد لدى الروس في تلك المرحلة، بل بدأوا يتحسسون طريهم نحو بحر البلطيق كتطلع طبيعي نحو المنافذ البحرية إلى البحار المفتوحة، كما فصلنا في المقال السابق.
كان تطلعهم المبكر إلى البحر الأسود أواخر القرن الخامس عشر، الذي اصطدم هناك بقوة عظمى من الصعب عليهم مناجزتها في باكورة دولتهم، هي الدولة العثمانية
لكن قبل هذا كان تطلعهم المبكر إلى البحر الأسود أواخر القرن الخامس عشر، الذي اصطدم هناك بقوة عظمى من الصعب عليهم مناجزتها في باكورة دولتهم، هي الدولة العثمانية. وعليه حاولوا في البداية كسب ود العثمانيين والتطلع للتجارة معهم ودخول تجارهم إلى المراكز العثمانية الحيوية على البحر الأسود، الذي صار في ذلك الوقت بمثابة بحيرة عثمانية. وتدلنا على ذلك بشائر علاقاتهم بالعثمانيين في عهد السلطان بايزيد الثاني (حكم 1481-1512م)، عندما أشار إيفان الثالث في رسالة أرسلها من موسكو إلى استانبول عام 1492م، إلى رغبته في إقامة علاقات ودية مع الباب العالي، لكن كان هذا بالطبع تمهيدًا لإحراز مكاسب معينة ذكر منها في الخطاب شكواه من حظر التجار الروس في آزوف وكافا من التجارة في الأراضي العثمانية، فضلاً عن ممارسة التمييز الضريبي على الروس بوجه عام، إلا أن هذه الرسالة لم تتلق ردًّا. وفي عام 1499م قام القيصر إيفان بإرسال سفارة إلى الباب العالي زار فيها السفير بايزيد وابنه محمود الذي كان في ذلك الوقت حاكمًا على كافا (فيودوسيا الحالية في القرم)، واقترح فكرة تعزيز العلاقات التجارية في شبه جزيرة القرم الواقعة تحت حكم خانات التتر الخاضعين للسلطان العثماني، وبالفعل عادت السفارة إلى روسيا بأولى المعاهدات التجارية الرسمية مع العثمانيين. ومن هنا بدأت روسيا الدخول إلى المحيط الأوروبي.
حتى ذلك الوقت لم تكن روسيا معروفة للرأي العام الأوروبي، ولم تكن بالنسبة إليهم سوى بلد آسيوي لا يختلف على نظيره من تلك البلدان الموحشة التي قامت على أساس قبلي ليس لها علاقة بالمدنية أو “التحضر الأوروبي”.. ولم تثر حتى اهتمامهم كما أثارتها أراضي المشرق بموروثاتها وسحر حضاراتها البائدة وأهميتها وحيويتها بالنسبة للعالم الغربي.. وقد وقعت بدايات استكشافها على عاتق التجار الإنكليز في منتصف القرن السادس عشر، في زمن كانت فيه التجارة والاستكشاف متلازمين كسمة من سمات العصر وملمح من ملامح تحضره. وفي إطار بحث الإنكليز واستكشافهم طرقًا وفضاءات جديدة، تأسست أول شركة إنكليزية للتجارة عبر روسيا، هي الشركة المسكوفية عام 1555م، التي احتكرت التجارة بين البلدين حتى عام 1698م، فضلاً عن مهامها الأخرى في الاستكشاف.. وكانت التقارير الأولى المرسلة من التجار الإنكليز تنم عن الكثير مما تكَشَّف في قابل الأيام. لقد عاين الإنكليز القوة الحربية الكبيرة التي يمتلكها القيصر في ذلك الوقت المبكر، والأعداد الكبيرة لشعبه وصلابتهم وامتثالهم التام لاستبداده وقدرتهم على التحمل في طبيعة قاسية على أي غاز، وهو ما كان نذيرا أوليا بالخطر بالنسبة لأوروبا، إذا حدث وحازت تلك الحشود العنيفة الأسلحةَ الحديثة وتحلت بالانضباط الذي يميز حروب العالم المتحضر.. وهنا نذكر وصفًا طريفًا ذكره “ريتشارد تشانسليور” أول مستكشف إنكليزي يبحر إلى روسيا بحثًا عن طريق شمالي شرقي، ويصل الى موسكو ويقيم في بلاط إيفان الرابع، بعد الإشارة إلى العدد الهائل الذي أعده دوق موسكو للحرب، واحتمالهم للسفر الطويل والبرد القاسي؛ إذ يقول: “إنهم رجال يركضون سريعًا على التلال دون أي أوامر.. والآن، ما الذي يمكن أن يفعله هؤلاء الرجال إذا خضعوا للنظام وعرفوا الحرب المتحضرة؟” ويستطرد: “إذا علموا مدى قوتهم، فليس لأحد أن ينافسهم، ولا أن ينال من يقيم بجوارهم أي راحة.. يمكنني أن أقارنهم بالحصان الذي لا يعرف مدى قوته، والذي يمكن لطفل صغير أن يحكمه ويقوده باللجام، أما إذا علم شيئًا عن قوته العظيمة، فليس لأحد أن يقوده أو يحكمه”. وجدير بالذكر هنا أيضًا كلمة قالها الملك البولندي سجسموند (حكم 1587-1632م) في احتجاج لدى إنكلترا بسبب إمدادها للقيصر في وقت من الأوقات بالمهندسين والمؤن العسكرية: “إن المسكوفي (أي الروسي) هو العدو الموروث لجميع الأمم المتحضرة”… فهل لنا أن نرى وقع مثل هذه الجُمل على العقل الجمعي الأوروبي مع مرور الوقت وتطور الوقائع والأحداث ؟!.
القدس العربي