عادة ما يبحث المؤرخون والمتخصصون في الدراسات الجيوسياسية عن المنعطفات الكبرى لفهم التطورات التي يشهدها العالم، وعند كل حدث سياسي -عسكري كبير يعتقدون التوصل إلى الجواب. وتختلف عملية التقييم وفق التأويل المرتبط بنوعية الفكر بين الأيديولوجي والديني وأحيانا العلمي.
ويحدث في بعض الأحيان أن يشهد قرن حدثا، لكن لا يتوقف عنده الباحثون، على الرغم من أنه يكتسب صفة المنعطف في تاريخ البشرية، بحكم طغيان أحداث أخرى تخلف انعكاسات قوية، لاسيما في الخسائر البشرية، وإن كانت محدودة التأثير في الزمان، وبسبب تركيز جيل أو جيلين على الحدث القوي المحدود زمنيا. وإذا اقتصرنا على القرن العشرين، لا أحد سيجادل في أهمية الثورة البولشيفية وأهمية الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة، هذه الأحداث التي انشغل بها الباحثون، سواء من المؤرخين أو دارسي الجيوبولتيك قد تبقى محدودة أمام التأثير الهائل الذي تمارسه في صمت، وسيمتد الى قرون، أحداث أخرى منها، اختراع السلاح النووي الذي يهدد استمرار البشرية فوق هذا الكوكب، ثم الوصول إلى القمر سنة 1969 وما يقدمه من فرص لغزو الفضاء وفرصة التواصل مع حضارات في هذا الكون خلال القرون المقبلة.
وعلاقة بالقرن الواحد والعشرين، توالى عدد من الأحداث الكبرى، وجرى اعتبار كل حدث منعطفا نحو مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، ولعل أبرز هذه الأحداث التفجيرات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول، التي شكلت أول ضربة أجنبية في العمق الأمريكي بعد هجمات اليابان على هاواي ووضعت الأمن القومي للبلاد على المحك. وجاءت بعدها حرب أفغانستان والعراق بحصيلة من الخسائر البشرية ثقيلة، لكن هذه الأحداث لم تؤثر على الوضع الجيوسياسي في العالم خلال القرن 21، فقد بقي على حاله كما عهدناه بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات من القرن 20، أي سيادة القطب الغربي في القرارات في صنع القرار الدولي، على الرغم من المعارضة الروسية والصينية في بعض الأحيان في قضايا معينة، لكنها كانت معارضة محدودة كما حدث في حرب العراق. ويبدو أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا أو «الأزمة الأوكرانية» هي الحدث الذي يحمل صفة «المنعطف» في أعمق معانيه للانعكاسات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي بدأت تترتب عنه في الوقت الراهن، وستصبح بارزة خلال السنوات المقبلة. وبعد مرور قرابة شهر ونصف الشهر على هذه الحرب، بدأ يظهر جليا الكثير من المعطيات الثابتة التي قد تسمح مؤقتا باستخلاص نتائج سيكون لها بالغ الأثر في مسار العلاقات الدولية مستقبلا. ومن أبرز هذه المعطيات:
أولا، لعل المعطى البارز الذي يكاد يكون نتيجة مستخلصة من هذه الحرب هو فشل الغرب في مواجهة روسيا بالضغط العسكري، ويحدث هذا لأول مرة بحكم أن الطرفين لم يتواجها إبان الحرب الباردة بشكل مباشر، كما يحصل الآن في أوكرانيا. فقد وقف الحلف الأطلسي مكتوف الأيدي أمام الآلة العسكرية الروسية، وبقيت مقترحات مثل فرض حظر الطيران ونقل مقاتلات ثم دبابات إلى أوكرانيا مجرد حبر على ورق مبلل أو تصريحات في الهواء. وباستثناء بعض الأسلحة الخفيفة، لم يقدم الغرب أي سلاح نوعي يساعد الجيش الأوكراني في هذه الحرب.
مهدت الحرب الأوكرانية لظهور القطب الأوروآسيوي المتمثل في التنسيق الروسي – الصيني ثم انضمام الهند لهذا التحالف الذي سيصبح مركز العالم خلال سنوات
ثانيا، اكتشف الغرب مدى تراجع نفوذه في العالم، إذ شنت عواصم مثل واشنطن ولندن وباريس حملات بين الترهيب والترغيب للدفع بعدد من الدول التي تدور في فلكها، أو تعتقد أنها ضمن دائرة نفوذها التاريخي الى التنديد العلني بالغزو الروسي لأوكرانيا. لكن أغلب الدول الافريقية والآسيوية ومن أمريكا اللاتينية اكتفت بالتصويت في الجمعية العامة على شجب روسيا، وهو تصويت بروتوكولي غير ملزم، في حين امتنعت عن إصدار بيان يندد بروسيا، وفي المقابل طالبت بالحوار والمفاوضات والمحافظة على وحدة أوكرانيا. وكان قائد القوات العسكرية الأمريكية في افريقيا «أفريكوم» الجنرال ستيفن تاونسند، قد قال أمام الكونغرس منتصف مارس/آذار الماضي «لقد كان مزعجا بالنسبة لي أن نصف القارة الافريقية لم يصوت لإدانة الكرملين لغزو أوكرانيا في تصويت الأمم المتحدة يوم 2 مارس…هذا يدل على التأثير الروسي والصيني». ومن جانبه، يقوم وزير الخارجية أنتوني بلينكن بجولات في بعض العواصم العربية لمناقشة امتناع هذه الدول عن إدانة روسيا. وبدأت وسائل إعلام مثل «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» تحذّر من فرضية خسارة البيت الأبيض لدول مثل العربية السعودية لصالح الصين.
ثالثا، بدأ يكتشف العالم إمكانية النشاط الاقتصادي العالمي بدون العملة الأمريكية الدولار، فقد دشنت روسيا رفقة القوى الكبرى في آسيا الهند والصين أساسا بدء التبادل التجاري، استنادا إلى العملات الوطنية، مع الأفضلية لليوان الذهبي الصيني المسنود بالذهب عكس الدولار. وبدأ العالم يستعيد أقدم وسائل التبادل التجاري القائمة على المقايضة، من خلال تقييم قيمة المواد، التي طرحتها روسيا مع عدد من الدول ومنها المغرب.
رابعا، مهدت هذه الحرب لظهور القطب الأورو – الآسيوي المتمثل في التنسيق الروسي – الصيني ثم انضمام الهند في صمت إلى هذا التحالف الذي سيصبح مركز العالم خلال سنوات، بحكم الثقل الاقتصادي والبشري والعسكري. وستقود الصين هذا التحالف، ولا تجد بكين أحسن مناسبة تاريخية من الفرصة التي وفرتها الحرب الروسية ضد أوكرانيا، ليتأكد الرأي العام العالمي من وزنها الحقيقي في الساحة الدولية.
بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية تقترب من نهايتها بعدما أدركت كييف ضرورة الالتزام بمبدأ الحياد وعدم الانضمام الى الحلف الأطلسي، وينقص فقط ترجمة هذا الالتزام في اتفاقية بضمانات دولية. غير أن هذه الحرب تعد بداية منعطف مهم في العلاقات الدولية، انطلاقا من الأسس الجيوسياسية/الجيوبولتيك، فهي تدشن عهدا جديدا في ميزان القوى العالمي، وأبرز عناوينه «بدء نهاية هيمنة الغرب». قد تقع أحداث كبرى مستقبلا، وستبقى حرب أوكرانيا المنعطف ببصماته وتأثيراته على المقبل من هذه الأحداث.
القدس العربي