على الرغم من الوقت القصير الذي مر على اشتعالها، غيرت الحرب في أوكرانيا بالفعل وجه أوروبا -ونحو الأسوأ. وفي خارج الصراع المباشر، تعد تركيا من أكثر البلدان تضرراً وهي التي استفادت من العلاقات القوية مع كل من موسكو وكييف لفترة طويلة. والآن، أصبح الحفاظ على التوازن الدقيق الذي تحاول أنقرة تحقيقه بين شركائها أكثر صعوبة مع اشتداد القتال وتزايد الضغوط الغربية على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بصفتها جزءًا من الناتو ولها وزن إقليمي محسوس، تتعرض تركيا لضغوط كبيرة لاختيار جانب في النهاية. وفي الوقت الحالي، تحصل تركيا على حوالي ثلث إمداداتها من الغاز الطبيعي من روسيا. وعلى الرغم من تنافس بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كثير من الأحيان، فقد شاركا أيضًا في عمليات في سورية وليبيا وجنوب القوقاز.
في العام 2019، اشترت أنقرة صواريخ (إس-400) من روسيا أيضًا، وهو قرار أدى منذ ذلك الحين إلى تسميم علاقاتها مع الولايات المتحدة. كما تتاجر تركيا أيضًا بكثافة مع أوكرانيا ولديها خطط طموحة لتعزيز التعاون الصناعي الدفاعي بين البلدين، حيث تقوم الطائرات من دون طيار التركية الصنع التي اشترتها أوكرانيا حاليًا بتوجيه الضربات إلى القوات الروسية الغازية. وتنظر تركيا أيضًا إلى نفسها على أنها دولة قريبة من تتار القرم وتدين علنًا ضم شبه الجزيرة منذ العام 2014.
بعد محاولتهما في كلا الاتجاهين في الأيام التي سبقت غزو أوكرانيا، اتخذت تركيا بالفعل بعض الخطوات لتحدي روسيا. وقامت أولاً بإغلاق مضيق البوسفور والدردنيل أمام السفن البحرية، مستفيدةً من حقوقها بموجب اتفاقية مونترو للعام 1936 في حالات الحرب. وبعد طلب قدمه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أردوغان، رحبت الولايات المتحدة بهذه الخطوة أيضًا، على الرغم من أنها تحمل في الغالب عواقب رمزية. فقد تم نشر أسطول البحر الأسود الروسي بالفعل. وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن مونترو تسمح للسفن بالعودة إلى موطنها الأصلي. ومع ذلك، فإن إغلاق المضيق يمنع الروس من إرسال سفن إضافية من شرق البحر المتوسط.
كما عززت تركيا دبلوماسيتها لتتوافق مع موقفها الأكثر عدوانية. أولاً، يتناقض وصف وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الصراع بأنه حرب مع الرواية الروسية التي تتحدث عن “عملية خاصة”. وتبع ذلك خطاب ناري من المندوب الدائم لتركيا لدى الأمم المتحدة، فريدون سينيرلي أوغلو، الذي ذكر فيه أن على المجتمع الدولي واجب الدفاع عن المدنيين العاجزين. كما وصف أردوغان الغزو الروسي بأنه “غير مقبول”، وتتخذ قناة “تي. آر. تي” التركية التي تديرها الدولة موقفًا حاسمًا تجاه روسيا أيضًا، مشيدة بقيادة زيلينسكي الشجاعة.
ومع ذلك، لا تتخلى تركيا عن روسيا في نهاية المطاف. لم تنضم أنقرة إلى العقوبات الاقتصادية الغربية، ولم تغلق المجال الجوي التركي أمام حركة المرور الروسية. كما أنها لم ترسل أي شحنات جديدة من الأسلحة والمواد إلى أوكرانيا. والخطاب الذي يأتي من أنقرة هو أن تركيا عضو مخلص في الناتو، لكنّ عليها أيضًا أن تهتم بمصالحها الوطنية. وما يعنيه هذا عمليًا هو أن أردوغان ما يزال يسعى إلى أن يكون وسيطًا بين موسكو وكييف، وهو عرض قدمه لأول مرة خلال زيارة إلى أوكرانيا في أوائل شباط (فبراير).
والآن، بعد أن لم تسفر المحادثات بين الجانبين الروسي والأوكراني عن وقف لإطلاق النار، يناقش إردوغان الوضع مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أيضًا. والأهم من ذلك، أن زيلينسكي ذكر إسطنبول بالفعل كموقع مهم للمفاوضات.
ولدى أردوغان سبب وجيه للعمل من أجل خفض التصعيد -وهو في الغالب سبب اقتصادي.
لقد أثرت الحرب بالفعل على الاقتصاد الروسي؛ حيث أدت العقوبات إلى انهيار الروبل، ومن المؤكد أن هذا سيؤثر على تركيا التي تعتمد على روسيا في عائدات السياحة، إضافة إلى كونها سوق تصدير لخدمات البناء والسلع الزراعية. وسيكون لارتفاع أسعار الطاقة تأثير أكثر تدميراً على الأتراك العاديين الذين تآكلت دخولهم ومدخراتهم بالفعل بسبب التضخم الجامح هذا العام.
لكي لا ننسى، فإن أردوغان يقاتل من أجل إعادة انتخابه في العام 2023. ولعل آخر ما يحتاج إليه هو حرب مصحوبة بانهيار اقتصادي. كما أن احتمال جر الناتو إلى الحرب أو قيام روسيا بإطلاق العنان لموجة لاجئين من سورية هي أمور مرعبة للغاية بالنسبة للزعيم التركي.
لكن المشكلة هي أن بوتين لا يُظهر أي بوادر للتراجع. وقد هدد الزعيم الروسي ضمنيًا باستخدام الترسانة النووية ضد الغرب، وضاعفت القوات الروسية من استخدام قوتها في أوكرانيا، حيث قصفت المناطق المدنية المكتظة بالسكان بالصواريخ في خاركيف، ثاني أكبر مدينة. وعلى الرغم من الجهود البطولية للمدافعين الأوكرانيين، يتقدم الروس في كييف أيضًا.
كما يبدو، يسعى بوتين إلى تحقيق نصر عسكري وليس تسوية. وبمجرد أن يستولي على العاصمة الأوكرانية، فإنه قد يكون مستعدًا للتحدث مع الغرب مرة أخرى. لكنه يتوقع مكالمة هاتفية من الولايات المتحدة والرئيس جو بايدن، وليس من أردوغان أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومن جهته، يود أردوغان أن يرى تركيا محركًا في الجغرافيا السياسية الأوروبية. وفي ظل التأهب بين روسيا والتحالف الغربي، لطالما لعب الزعيم التركي بين الاثنين ضد بعضهما بعضا، وحصل على أفضل صفقة لنفسه.
لا ضير في أن تلعب تركيا دور صانع السلام بطبيعة الحال. وإذا أتيحت لها الفرصة، يجب أن نأمل جميعًا في نجاح أردوغان. ولكن، من أجل أن يحدث ذلك، يتعين على أوكرانيا أولاً أن تكون قادرة على وقف الهجوم الروسي بمساعدة الغرب. وطالما ظل بوتين مقتنعاً بأنه قادر على الفوز، فإنه لن يستجيب لدعوات أردوغان إلى ضبط النفس.
الغد