تنتهي المشاجرات قصيرة النظر بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني» قريباً الأمر الذي سيؤدي إلى ذهاب البلاد مجدداً إلى الانتخابات – والتهديد بالسيطرة السياسية الإيرانية.
كانت الانتخابات البرلمانية التي شهدها العراق في تشرين الأول/أكتوبر 2021 ناجحة بالنسبة لواشنطن وغيرها من مؤيدي سيادة البلاد وازدهارها. فعلى عكس التوقعات، هُزمت الأحزاب الإسلامية الشيعية المدعومة من إيران وميليشياتها المعروفة باسم «قوات الحشد الشعبي» في صناديق الاقتراع. ولم يخسر «الحشد» أمام مرشحين ذوي توجهات غربية بل أمام حزب شيعي محلي موثوق آخر، شكّل هاشتاغ #لا_شرقية_ولا_غربية الذي أطلقه زعيمه دعوة واضحة إلى عراق لا تهيمن عليه طهران أو واشنطن. ومالت نتائج الانتخابات نحو تشكيل حكومة أغلبية جديدة، هي الأولى منذ الغزو الأمريكي عام 2003، قادرة على فرض حوكمة أفضل وعراق مستقل.
وفي مفارقة قاسية، يبدو أن هذه النتيجة المحتملة، وهي إحدى تطلعات الولايات المتحدة الطويلة الأمد للعراق، لم تترجم كلياً على أرض الواقع ويعود ذلك جزئياً إلى أصدقاء واشنطن المقربين في العراق، أي الأكراد.
وكان الفائز الأكبر في السباق الانتخابي مقتدى الصدر، وهو رجل دين شيعي فاز حزبه السياسي “سائرون” بأكثرية المقاعد في مجلس النواب العراقي. يُذكر أنه في أعقاب غزو عام 2003، برز “جيش المهدي” الذي أسسه الصدر كخصم بارز للولايات المتحدة، وكاد هذا الزعيم المثير للمشاكل أن يصبح هدفاً للقوات الأمريكية. ولكن في الآونة الأخيرة، تغيّرت [بعض آراء] الصدر، وهو شعبوي جريء استغل استياء الناخبين من تجاوزات إيران في العراق، وأصبح سياسياً أكثر مسؤولية نوعاً ما.
وصحيح أن الصدر ليس دواء لكل العلل لكنه أيّد، على الأقل خطابياً، مكافحة الفساد المستشري في الدولة، وانتقد الهجمات الصاروخية الإيرانية على العراق، ودعا إلى إنهاء “الأعمال العسكرية التي تقوم بها المقاومة [«الحشد»]” ضد الوجود الأمريكي في العراق. وفي هذا الإطار، بخلاف السياسيين العراقيين الآخرين، لا يُعامِل الصدر قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إسماعيل قاآني، الذي يزور العراق باستمرار، بإجلال. ورغم أنه لا يزال منتقداً صريحاً لواشنطن، إلا أنه يريد على ما يبدو انتهاج مسار مختلف بعد انتخابه.
وقد بادر الصدر إلى تشكيل حكومة أغلبية تضم تحالفاً من الشيعة والسنّة والأكراد. ونظرياً، كان بإمكان هذا التحالف الثلاثي، الذي استثنى الميليشيات المدعومة من إيران ووعد بإعادة رئيس الوزراء الموالي للغرب مصطفى الكاظمي إلى منصبه، أن يتخذ قرارات صعبة تتعلق بالفساد والإصلاح الضروريين لتحسين وضع العراق.
وليس مفاجئاً أن يكون حلفاء إيران في العراق قد اعتبروا مبادرة الصدر بمثابة تهديد لهم وسارعوا إلى تقويض الجهود وإعادة حكومة عقيمة قائمة على مبدأ التوافق في بغداد إلى السلطة. وشنّ «الحشد اشعبي» حملة عنف لترهيب أعضاء التحالف. كما استغل حلفاء إيران نظاماً قضائياً متحالفاً بشكل متزايد مع إيران لضرب التحالف في إجراءات المحاكم، مما تسبب بمزيد من التأخير في تشكيل الحكومة.
وفي حين كانت هذه التكتيكات فعالة، إلا أن الأكراد كانوا العائق الأكبر إلى حد بعيد أمام تشكيل حكومة عراقية ذات أغلبية. فمنطقة الحكم الذاتي التابعة لـ «حكومة إقليم كردستان» لطالما عانت من الانقسامات بين البرزانيين في «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ومقره العاصمة أربيل والطالبانيين في «الاتحاد الوطني الكردستاني» في السليمانية. ولا تزالهاتان العشيرتان، اللتان خاضتا حرباً أهلية في تسعينيات القرن الماضي، منافستين سياسيتين واقتصاديتين حازمتين.
ولو صوّت الأكراد في كتلة واحدة مع الصدر، لكان التحالف قد حقق النصاب القانوني في مجلس النواب بما يكفي لانتخاب الرئيس الكردي، الذي كان بدوره سيسمي رئيس وزراء موكلاً بتشكيل حكومة أغلبية. وفي بداية الأمر على الأقل، بدا أن الصدر والسنّة أيدوا إعادة انتخاب الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهي قائمة مرشحين تدعمها واشنطن. لكن بدلاً من تأييد التحالف، اختلف الأكراد حول صالح التابع لـ «الاتحاد الوطني الكردستاني»، وبعد أن أُحبط ترشيحه، تشاجروا بشأن بديله المقترح وزير الداخلية في «حكومة إقليم كردستان»والعضو المتفاني في «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ريبر أحمد. وحالت مقاطعة الأكراد للجلسة البرلمانية المنعقدة في 29 آذار/مارس، وهي الثالثة حتى الآن، دون اكتمال النصاب القانوني.
وإذا استمر التعنت الكردي ولم يتم اختيار رئيس بحلول 6 نيسان/أبريل، قد يشهد العراق انتخابات جديدة. لكن هذه المرة سيكون أداء «الحشد»أفضل على الأرجح بعد أن تعلموا من أخطائهم بشن حملتهم في إطار نظام انتخابي جديد. ويبدو أن الصدر يتفهم فظاعة وأهمية اللحظة. ففي 30 آذار/مارس، غرد قائلاً: “لن أتوافق معكم فالتوافق يعني نهاية البلد”. لكن بدلاً من وضع الخلافات الطاحنة الضيقة جانباً والمشاركة في حكومة أغلبية في بغداد يمكنها أن تخدم مصالح «حكومة إقليم كردستان»بشكل أفضل، يبدو أن القادة الأكراد مصرون على عنادهم بشكل حازم.
وإذا لم يغيّر الأكراد موقفهم في اللحظة الأخيرة، ستضيع على الأرجح أفضل فرصة أمام العراق حتى الآن للتصدي للتدخل الإيراني بشؤونها وفرض سيادتها. ولا شك أن سفير واشنطن في العراق، ماثيو تولر، قد أبلغ محاوريه الأكراد بالضرورة الملحة [للتوصل إلى توافق] عندما نقل رسالة من الرئيس بايدن إلى رئيس «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسعود برزاني والتي وفقاً لبعض التقارير أنها تشجع على تعزيز وحدة الأكراد في مسألة تشكيل الحكومة. لكن هذه المبادرة قد تكون قليلة جداً ومتأخرة جداً.
وطيلة سنوات كان الأكراد حلفاء موثوقين لواشنطن، وكانت الولايات المتحدة داعماً ثابتاً لـ «حكومة إقليم كردستان»، حيث دفعت رواتب بقيمة 240 مليون دولار سنوياً لقوات “البيشمركة” في الإقليم الاتحادي وضغطت لتنفيذ مصالح الأكراد مع بغداد. وتشكو «حكومة الإقليم»، وهي محقة، من أن علاقتها الوثيقة مع واشنطن تجعلها هدفاً لإيران، لكن هذه الروابط ساهمت بوضوح في جعل الإقليم المنطقة الأكثر ازدهاراً في العراق. وقد حان الوقت الآن لكي يقوم الأكراد بدورهم لضمان نجاح البلاد. فسيكون من المخزي أن يساهموا في إدامة الهيمنة الإيرانية على العراق.
ديفيد شينكر
معهد واشنطن