بتأخير كبير، وصل في هذا الأسبوع وفد وساطة من الجامعة العربية إلى موسكو للالتقاء مع وزير الخارجية الروسي، سرجيه لافروف، ولكي يعرض أمامه موقف الدول العربية من الحرب في أوكرانيا. هذا الوفد ضم وزراء خارجية مصر والجزائر والأردن والسودان والسكرتير العام للجامعة، الذين طالبوا الأطراف بوقف النار والتوصل إلى حل دبلوماسي. لافروف استقبل الوفد بأدب وودعه مثلما يودع مكرهة.
في الشبكات الاجتماعية العربية كان هناك من طلبوا من فلاديمير بوتين اعتقال أعضاء الوفد وإرسالهم للتجمد في سيبيريا. وقد كتب في مدونة بأن ليس للجامعة العربية أي موقف أو قدرة على التأثير على الحروب في الشرق الأوسط، بالأحرى في المعركة بين الدول العظمى. “لدينا، كل دولة تدير سياسة خارجية مستقلة، توقفوا عن إزعاجنا بـ “الموقف العربي”، طلب أحد المتصفحين في الإنترنت.
هو على حق. فعندما تقوم السعودية والإمارات وتركيا وإيران وإسرائيل بنقل الرسائل بين أوكرانيا وروسيا، كل واحدة على حدة حسب مصالحها، فلن يبقى أمام الواجهة العربية ما تقترحه. وفي هذه المعركة، تم رسم الخط الفاصل بين الدول الرابحة والخاسرة؛ من جهة، دول الخليج الغارقة في الأرباح الضخمة التي تجبيها من ارتفاع أسعار النفط والغاز، ومن الجهة الأخرى الدول الفقيرة التي تتسول مصادر الطاقة وتطرق أبواب الدول التي لديها قمح من أجل إطعام وتدفئة مواطنيها بأسعار مرتفعة، أدت إلى انخفاض دراماتيكي آخر في مستوى الحياة.
على الرغم من ذلك، ما زال للجامعة العربية دور تمثيلي مهم. مثلاً، هي التي عليها أن تقرر إذا كانت ستعيد سوريا إلى الحضن العربي أو إبقاء بشار الأسد خارج الجدار. كما يبدو هذه قضية هامشية في كل النزاعات التي تنتظر الحل، ولكنها تمثل تردد الدول العربية المطلوب منها ملاءمة نفسها مع الظروف الجديدة التي فرضت عليها في موسكو وكييف، وفي واشنطن وطهران.
في منتصف آذار، زار بشار الأسد أبو ظبي والتقى ولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن زايد. هذا اللقاء الذي ابتلع بين تقارير المعارك في أوكرانيا، هو استمرارية لاستئناف العلاقات بين الإمارات وسوريا، وبين سوريا والبحرين. هذه الزيارة أغضبت واشنطن التي عبرت عن خيبة أمل عميقة من هذا التجمع الذي اعتبر شرعنة عربية للأسد. والأكثر من ذلك، دعم الإمارات لسياسة روسيا التي تسعى لإعادة الأسد إلى مكانته العربية وغرس مخرز في عين الولايات المتحدة التي تطبق قانون العقوبات الشديدة ضد سوريا.
لم تتأثر أبو ظبي من غضب أمريكا، وأوضحت بأنها لا تنوي الانضمام لفرض العقوبات على روسيا. العكس هو الصحيح، فرع العقارات في الإمارات يحظى بالاستثمارات الجديدة التي أحضرها معهم الأثرياء في روسيا، أما اليخوت والطائرات الخاصة فيمكنها مواصلة الهبوط والرسو في موانئها كما تشاء، وعرض الأخوة الذي جرى في الشهر الماضي في إسرائيل، الذي شارك فيه أربعة وزراء خارجية عرب ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، لم يقدم لواشنطن النتاج المأمول. يجب التمييز، أوضح وزراء الخارجية العرب، بين مصالحهم والمصالح المشتركة بينهم وبين إسرائيل والولايات المتحدة. التشابه التقليدي المطلق بين دول الخليج ومصر وبين واشنطن لم يعد تشابهاً أعمى. روسيا في الحقيقة ليست حليفة استراتيجية، لكنها دولة عظمى ضرورية، حتى لو كسوط مهدد تأمل الدول العربية الرائدة بواسطته جعل واشنطن تتعامل بجدية مع مطالبها.
إزالة العقبات
أدركت تركيا الرياح الجديدة التي تهب من دول الخليج، فبعد استئناف العلاقات بينها وبين الإمارات الذي أثمر زيارات متبادلة لبن زايد واردوغان، وتعهد الإمارات باستثمار عشرة مليارات دولار في الاقتصاد والبنوك التركية، يتوقع أن يكون لها استمرارية في هذا الشهر، فاردوغان قد يزور الرياض، العاصمة السعودية، للمرة الأولى.
أجرت تركيا خلال أسابيع كثيرة مفاوضات سرية مع السعودية بشأن استئناف العلاقات، وفي الأسبوع الماضي نشر في تركيا أن النائب العام اقترح وقف محاكمة المتهمين السعوديين بقتل الصحافي جمال خاشقجي في تركيا في 2018، ونقل ملف التحقيق إلى السعودية لمواصلة المحاكمة. هكذا يمكن لأنقرة أن تزيل العائق الأخير أمام استئناف العلاقات بين الدولتين.
بعد بضعة أيام على نشر طلب النائب العام ومصادقة وزير الخارجية التركي، مولود جاووش، على “توقع حدوث ترتيبات قضائية” بين السعودية وتركيا، ثمة تقرير دراماتيكي آخر نشر في صحيفة “حريات”. في موقع هذه الصحيفة (كانت ذات يوم من المنتقدين الكبار لاردوغان، لكن عند نقل ملكيتها انضمت إلى جوقة الإعلام المؤيدة للرئيس) كتب أن تركيا يمكنها بدء حوار سياسي مع الأسد. سيتركز هذا الحوار في ثلاثة مواضيع رئيسية، عمل مشترك ضد نشاطات حزب العمال الكردي (بي.كي.كي) الذي تركز في سوريا وتعتبره تركيا منظمة إرهابية؛ واكتمال سيادة سوريا (وهو مفهوم يعني منع إقامة إقليم كردي مستقل في سوريا)؛ وعودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا.
هذه النغمة الجديدة التي تصل من أنقرة تعكس انقلاباً إزاء موقف تركيا التقليدي الذي طالب بازاحة الأسد عن الحكم قبل أن توافق على التحدث حول مصالحة مع سوريا. ولكن يبدو أنه لم يعد هناك شيء مفاجئ في عروض الأكروبات التركية الأخيرة. نشر في “ميدل ايست آي” هذا الأسبوع، أن تركيا قررت تعيين ساليا موتلو – شن، سفيرة في القاهرة، وأنها تنتظر الآن مصادقة مصر على هذا التعيين. إذا كان هذا التقرير صحيحاً فهو نهاية النزاع بين الدولتين، الذي استمر أكثر من تسع سنوات ونتج عنه عداء عميق بين عبد الفتاح السيسي واردوغان، إلى درجة أنه كان يصعب تخيل أنهما قد يتصالحان في فترة حياتهما.
تحسين العلاقات مع مصر سيزيل أحد العوائق التي أعاقت استئناف العلاقات بين تركيا وإسرائيل. بسبب العلاقات الوثيقة مع القاهرة، فإن إسرائيل تنتظر تسوية الخلافات بين مصر وتركيا قبل البدء في احتفال المصالحة مع أنقرة.
لمن هذه المصلحة
المكاسب الاقتصادية المتوقعة لمصر وإسرائيل وتركيا من إزالة السم الذي ميز علاقاتها، موضوعة تحت البحر. تأمل الدول الثلاث بأن تستغل الدول الأوروبية التي ستقلص اعتمادها على موارد الطاقة التي تستهلكها من روسيا، وتتحول إلى الدول المصدرة الرئيسية للغاز من الحقول الإسرائيلية والمصرية عبر تركيا ثم إلى أوروبا. ولتحقيق هذه المكاسب، مطلوب من تركيا أن تبني مكانتها كعضوة مرغوب فيها في الشرق الأوسط العربي، وإذا كان الثمن هو التصالح مع السيسي وإسحق هرتسوغ وحتى مع الأسد، فهذا يعتبر ثمناً مناسباً لإنقاذ تركيا من أزمتها الاقتصادية الشديدة التي مرت فيها في السنتين الأخيرتين.
ربما تنعكس هذه المكاسب أيضاً في استطلاعات الرأي العام التي قد تعيد لاردوغان البيانات الداعمة له، التي تراجعت عند انهيار سعر الليرة التركية.
الميكروسكوب الشرق أوسطي الذي يغير منظومة الصور المألوفة بصورة متواترة، ينتظر الآن التطورات في السعودية وإيران. الاتفاق النووي، الذي صيغت مسودته، عالق الآن حول مسألة إزالة حرس الثورة من قائمة منظمات الإرهاب، لكن هذا التأجيل، الذي قد يجد له صياغة ملتوية ومقبولة، لا يعيق رحلة استئناف العلاقات بين إيران والسعودية.
أربع جولات للمفاوضات جرت بين هذه الدول منذ العام 2020. وقبل ثلاثة أسابيع كان يتوقع إجراء جولة خامسة، تم تأجيلها بشكل أحادي الجانب من قبل إيران، دون تقديم سبب التأجيل. المتحدث بلسان وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، كتب بأن إيران حولت إلى السعودية طلباتها خطياً، وأنها بانتظار رد المملكة. في موازاة ذلك، باركت طهران وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بواسطة الأمم المتحدة بين الحوثيين في اليمن، وقوات التحالف العربي، الذي أساس مكوناته هو الجيش السعودي والمليشيات التي هي برعاية ودعم الإمارات. وقف إطلاق النار الذي تم اختراقه في السابق ولكنه لم يتحطم، ربما يستمر لشهرين، سيسمح خلالهما بدخول 18 ناقلة نفط إلى ميناء الحديدة، ورحلتين لنقل الغذاء والدواء. لا يضمن هذا انتهاء الحرب المستمرة منذ 2014، لكنه يمكّن من القيام بخطوة دبلوماسية وإجراء مفاوضات بين الحوثيين وقوات التحالف.
إن تحقيقها بواسطة الأمم المتحدة استغل شهر رمضان كذريعة فورية، لكن الخلفية الحقيقية هي الهجمات التي نفذها الحوثيون ضد أهداف في السعودية والإمارات. إيران في الحقيقة اتهمت بالمبادرة إلى هذه الهجمات وتشجيعها، لكن التقديرات الجديدة تهز هذه الاتهامات. وثمة تفسير بديل، وهو أن الحوثيين يديرون أجندة خاصة بهم ليست متساوقة مع مصالح إيران دائماً. هكذا، يصعب حل التناقض بين أعمال الحوثيين ضد دول الخليج وبين سياسة طهران الحازمة من أجل إقامة علاقات جديدة مع السعودية وأبو ظبي. كل ذلك إلى جانب إعدادات إيران لإعادة الدخول إلى سوق النفط العالمية التي ستجبرها على تنسيق نشاطاتها مع الدول المنتجة للنفط في الخليج.
نسيج هذه الحركات لم يكتمل بعد، لكن قد يعطي دول الخليج وتركيا ومصر مكانة جديدة أمام التطورات العالمية من خلال استغلال تداعيات الحرب في أوكرانيا من أجل بناء كتلة إقليمية ذات أهمية مستقلة وغير مرتبطة بالضرورة بالولايات المتحدة أو روسيا. كتلة سيكون على الغرب، خصوصاً أمريكا، أن يحسب حساب مواقفها وقوتها الاقتصادية. إن تصالح دول كانت حتى فترة متأخرة خصوماً ألدّاء وحتى أعداء، ثم ضم إسرائيل كمركب أساسي في تنسيق سياستها وليست كعدوة، سيلزم إسرائيل بالتكيف وملاءمة نفسها مع “عمل الطاقم” بصورة تقيد حرية عملها وإلغاء لامبالاتها تجاه الرد العربي.
هذا لم يعد التحالف الموهوم للحرب ضد إيران، مثلما عرضه بنيامين نتنياهو عندما عقد “اتفاقات إبراهيم”، ولا “ناتو عربي – إسرائيلي”. سيكون من الأكثر صحة أن نعتبر هذه البنية تحالفاً لأصحاب مصالح، الذي ستقتضي عضويته رسم خطوط حدودية يمكن بناء تعاون داخلها حتى في إطار صراع. “المشكلة أنه لكل دولة من دول المنطقة، الشريكة في بناء الخريطة الجديدة، قيادات وأنظمة غير مرتبطة بائتلافات وأعضاء برلمان من شأنهم أن يتسببوا بانهيار حكوماتهم، في حين أن إسرائيل هي الحلقة الضعيفة، التي حتى إذا أرادت تسليم البضاعة المطلوبة منها فإنها بحاجة إلى حكومة مستقرة يمكنها إنتاجها.
القدس العربي