أعضاء الوفد العربي الذين ذهبوا إلى موسكو تحت عنوان “الوساطة” لم يحملوا معهم مبادرة واضحة، بل فكرة غامضة مرتبكة توحي بأن الدول العربية ليست مع روسيا ولا الولايات المتحدة.
أنهى وفد مجموعة الاتصال العربية زيارته إلى موسكو ووارسو يومي الرابع والخامس من أبريل للوساطة في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا من دون أن يعرف أحد حقيقة ما جرى التوصل إليه من تفاهمات بشأن المهمة الرئيسية التي حملها الوفد على عاتقه، وهي “إجراء مشاورات واتصالات مع الأطراف المعنية بهدف المساهمة في إيجاد حل دبلوماسي للأزمة”.
التقى وزراء خارجية مصر والأردن والجزائر والعراق والسودان، ومعهم الأمين العام للجامعة العربية، وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا وجرى التقاط الصور المصحوبة بابتسامات لا تتناسب مع طبيعة الموقف ولم نعلم ما الذي تم التوصل إليه على مستوى الوساطة أو التباحث بشأنه، وما هي الأوراق التي تدعو إلى التفاؤل بهذه المهمة، وما يمكن أن تتوصل إليه هذه المجموعة، والخطوة أو الخطوات المقبلة؟
يعلم الكثير من المتابعين أن مهمة المجموعة العربية محفوفة بالتحديات، ولذلك تندرج ضمن تصورات دبلوماسية فضفاضة، أقرب إلى حملات العلاقات العامة التي دخلت قاموس الدول وبعض التكتلات الإقليمية الضعيفة.
فالرسالة التي وضعها أعضاء الوفد في حقائبهم أن الدول العربية ليست مع روسيا أو الولايات المتحدة، وهي رسالة ضبابية لأن زيارة واحدة إلى موسكو ووارسو لن تكتفي للحديث عن وساطة جادة في أزمة جعلت الكثير من دول العالم تقف على قدم واحدة انتظارا لما تسفر عنه الأيام المقبلة.
باستثناء سوريا التي تقف مع موسكو وبانتظار الإذن لها بالعودة إلى شغل مقعدها في الجامعة العربية، يصعب إيجاد موقف حاسم لأيّ من الدول يقطع بأنها مع روسيا أو ضدها، وبدا التفكير في الوساطة خيارا مفيدا من الناحية الدبلوماسية، خاصة أو مجموعة الاتصال تتشكل من كوكتيل عربي تنفتح قياداته على الجبهتين المتصارعتين.
تعاطت المجموعة العربية مع الأزمة على أنها تتعامل مع أزمة إقليمية عادية يمكن إطفاء حرائقها واحتواء تداعياتها بجلسة واحدة من خلال تطييب خواطر هذا الطرف أو ذاك، وتجاهلت أنها باتت أزمة عالمية لا تجدي معها التحركات النمطية التي تريد إبراء ذمة أصحابها أكثر من الإيحاء بقدرتهم على الحل أو التدخل عمليا لتسوية خلافات توجد جهات دولية عدة لا تريد لها أن تشق طريقها بسلام.
وتناول البعض من وسائل الإعلام العربية مهمة الوفد وكأن هناك عصا سحرية أو أدوات يملكها الأعضاء للضغط على الأطراف المعنية ويملكون رصيدا يسمح لهم بتقريب المسافات، على الرغم من عقد جولات عديدة بين وفدي روسيا وأوكرانيا في أماكن مختلفة دون ظهور بوادر أمل تشير إلى أن الحرب أوشكت أن تضع أوزارها.
لن يستطيع هذا النوع من الوساطات المحفوفة بحسابات ضيقة تحقيق تقدم ملموس في الأزمة المحتدمة بين روسيا وأوكرانيا، أو حتى غيرها من الأزمات العربية المباشرة التي مر على بعضها العشرات من السنين ولم تفلح الجامعة العربية أو أحد أعضائها في تفكيك التعقيدات التي تكتنفها، فما بالنا بأزمة دائرة بين قوى كبرى، الغاطس فيها حتى الآن يفوق الظاهر منها، وتحوّلت إلى ما يشبه المعادلة الصفرية التي يمثل مكسب روسيا فيها خسائر للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
ولدت مقاربة الجامعة العربية من رحم أجواء دولية قاتمة خيمت عليها ظلال سلبية خوفا من مغبة انتصار طرف على آخر، وفي أزمة يصعب توقع نتائجها حتى الآن أو معرفة الطريق الذي تسلكه بعد أيام.
قد تكون التوقعات الغامضة هي التي دفعت غالبية الدول العربية إلى محاولة الوقوف في المنطقة الرمادية التي ظهرت تجلياتها في عدد من المحكات الدولية خلال الفترة الماضية، فكلما تبنت إحدى الدول موقفا يضعها في مربع موسكو، عادت وتبنت آخر يضعها في معسكر واشنطن.
وظهرت ملامح هذا التوجه في التصويت داخل مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان، ناهيك عن الاتصالات الهاتفية التي تبادلها زعماء عرب مع رئيسي روسيا وأوكرانيا بالتساوي تقريبا سعيا لتأكيد الحياد.
ولن تفلح هذه المعادلة الصعبة في الحفاظ على توازن ما، لأن الأزمة ممتدة وثمة تطورات يمكن أن تحدث فجأة تجعلها كاشفة لحسابات الدول العربية التي تصر على إضفاء ضبابية أحيانا على مواقفها السياسية، معتقدة أن المراوحة والمراوغة والمناورة وسائل كفيلة لأن تجنّبها نقمة روسيا أو انتقام الولايات المتحدة.
هناك مواقف معلنة وأخرى مستترة جعلت من اللجوء إلى صيغة “مع ولكن” أو “ضد ولكن” معيارا يتم العمل به في الأدبيات السياسية على أمل أن تتكفّل الأحداث بإفراز تطورات يمكن أن تجنب العديد من الدول العربية المأزق الذي وجدت نفسها فيه، إذ تعلم أن انتصار طرف على آخر يؤدي إلى انعكاسات خطيرة على التفاعلات الدولية.
نبعت فكرة الوساطة من الحيرة العربية المبكرة، لأن الوقوف في منتصف الطريق فترة طويلة لم يعد مأمونا بعد أن جرى تحريفه والتعامل معه على أنه انحياز مستتر إلى جانب موقف موسكو التي تملك رصيدا جيدا من العلاقات العربية.
قد يأتي وقت تضطر هذه الدول إلى تحديد خياراتها بدقة، وتصبح الوساطة التي أريد لها أن تضفي مصداقية على مسألة الحياد لن تكون وسيلة لتحاشي الانزلاق إلى صيغة وعرة من نوعية “من مع من”، و”من ضد من”، والتي تسعى واشنطن لتشكيل خارطة بمكوناتها، لتتمكن من استخدام سلاحي الضغوط والإغراءات، بعد أن بات الحشد العددي ودبلوماسية الهاتف والمساومات جزءا من المعركة على الساحة الدولية.
تتمنى بعض الدول العربية أن ترى عالما متعدد الأقطاب يقيها الكثير من جور الأحادية ولا تخضع فيه لسيف الولايات المتحدة أو ذهبها، وتجد في الأزمة الأوكرانية بوادر نواة لهذا العالم، وهو ما جعل هؤلاء لا يفضلون الانحياز إلى جانب واشنطن ويقفزون على محاولات كسر روسيا باستخدام خطاب حمّال أوجه، ويجدون في الإعلان عن وساطة محفوفة بمخاطر سترا لهذه الثغرات، ومحاولة لالتقاط الأنفاس إلى حين.
الرسالة التي وضعها أعضاء الوفد في حقائبهم أن الدول العربية ليست مع روسيا أو الولايات المتحدة، وهي رسالة ضبابية لأن زيارة واحدة إلى موسكو ووارسو لن تكتفي للحديث عن وساطة جادة
تبدو الوساطة مطلوبة من حيث الشكل الدبلوماسي وتوحي بأن العرب مهمومون بالأزمة، لكنها بلا أفق واعد من حيث المضمون ولن تستطيع التقدم للأمام خطوة واحدة في ظل مصدات وعراقيل ومطالب يضعها كل طرف على الطاولة، ومن ثم عدم قدرة مجموعة الاتصال على تحقيق اختراق لأنها لا تملك مفاتيح تساعد في الحل.
تنظر الدول العربية إلى ما لحق بها من تأثيرات في قضية الغذاء الذي تستورده من روسيا وأوكرانيا بعين الاعتبار، وتعلم أن استمرار الحرب سوف يفضي إلى زيادة الفجوة الغذائية التي لم تستعد لها وتريد من إعلان مقاربة للوساطة تخفيف حدة النتائج المتوقعة على المدى القريب لأزمة الغذاء حتى تتمكن من توفير البدائل المناسبة.
كما دخلت أزمة الطاقة للدول المصدرة لها عنصرا في الأزمة، خاصة أن هناك دولا عربية يتم التعويل عليها لسد العجز المتوقع عندما تتوقف موسكو عن ضخ النفط والغاز إلى أوروبا، ما يمنح الجهود العربية عبر وعاء وساطة جماعية أو تحركات فردية فرصة لاستكشاف الأفق الذي يمكن أن تذهب إليه الأزمة على المدى الطويل.
العرب