من الواضح أن حرب بوتين على أوكرانيا لم تحقق أهدافها المعلنة، وهي الأهداف التي كانت تتمثل في السيطرة على كييف، وإسقاط الحكومة المنتخبة هناك بذريعة أنها نازية النزعة، وتعيين حكومة دمية هناك. هذا بالإضافة إلى نزع السلاح الأوكراني وفرض صيغة من التبعية التامة لموسكو تحت اسم الحياد؛ إلى جانب شرعنة الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، والتمهيد لضم مناطق شرق أوكرانيا لروسيا تحت شعار استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس؛ وربما إعداد العدة بعد ذلك لابتلاع أوكرانيا بالكامل التي شكك بوتين قبل الحرب في شرعية وجودها أصلاً خارج الفضاء الروسي.
فبعد الاستبسال القوي الذي أبداه الأوكرانيون دفاعاً عن بلادهم، وجد بوتين ضرورة التعديل في خططه، ليكون التركيز على المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، وذلك بعد أن أدرك أن الاستمرار في محاولات السيطرة على كييف وغيرها من مناطق الغرب الأوكراني سيؤدي إلى استنزاف كبير في أعداد قواته وعتادها، وهو الأمر الذي لا تتحمله موسكو، لا سيما من جهة أعداد القتلى. فالمجتمع الروسي يعاني بصورة عامة من تراجع عدد الولادات وهجرة الشباب؛ الأمر الذي ينذر بحدوث ردة فعل عامة لدى الأسر الروسية التي تكتفي غالبيتها بولد واحد. ولعل هذا ما يفسر اعتماد الجيش الروسي على القوات الشيشانية والداغستانية وغيرها؛ كما يلقي الضوء على ما كشف بوتين النقاب عنه من ناحية التفكير بجلب المرتزقة من منطقة الشرق الأوسط، خاصة من سوريا، وهي المنطقة التي تعاني من النقص في كل شيء ما عدا العنصر البشري الذي بات الفائض فيه يسيل لعاب أصحاب المشاريع الامبراطورية الذين يقومون باستغلال حاجات الناس، ويدغدغون عواطفهم ونزعاتهم في عملية تشكيل ميليشيات عسكرية تستخدم في المهام القذرة في مختلف المناطق، ومن دون أي ضمان لأبسط حقوق القتلى في صفوفها.
وفي الوقت الذي لا يمكن لأي كان أن يشكك في شجاعة الأوكرانيين، وإصرارهم على الدفاع عن بلادهم في مواجهة الغزو الروسي التدميري؛ لا يمكن لأحد في المقابل أن يتصور أن مثل هذا الصمود كان من شأنه أن يكون لولا الدعم الغربي اللامحدود، سواء من جانب حلف الناتو أم من جانب الاتحاد الأوروبي، وعلى جميع المستويات، بما في ذلك الدعم العسكري الذي تمثل في شحنات متواصلة من الإمدادات العسكرية التي شملت، وتشمل، مختلف أنواع الأسلحة والذخائر، بما في ذلك الصواريخ المضادة للطائرات والدروع. هذا ناهيك عن كل العقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية بما فيها الرياضية، التي فرضت على روسيا، وتفرض تباعاً.
وفي سياق المقارنات الكثيرة التي تُجرى هذه الأيام من مواقع مختلفة بين الوضعين السوري والأوكراني، والإشارات المتكررة من مختلف الأطراف إلى جرائم روسيا في سوريا؛ نذكر هنا بالإصرار الدولي، الأمريكي تحديداً، على منع حماية المدنيين السوريين من القصف الهمجي الذي بدأ به طيران سلطة بشار الأسد على المدن والبلدات السورية منذ أوائل عام 2012، واستمر على مدى أعوام.
وكانت الحجة المستمرة التي تقدم دائماً هي الخشية من وقوع الصواريخ المضادة للطيران بأيدي الجماعات الإرهابية؛ هذا مع العلم بأن الجماعات المعنية لم تكن قد ظهرت بعد، وكانت التوقعات تتمحور حول وجود خطة لدى السلطة بالتواصل مع تلك الجماعات، وتشجيعها، بل وتصنيعها، لتسيطر على المناطق التي انسحبت منها قوات السلطة في إطار سعيها للتركيز على ما عُرف في ذلك الحين بـ «سوريا المفيدة»، لا سيما دمشق العاصمة التي كانت في صيف 2012 قابلة للخروج من دائرة سيطرة سلطة بشار، هذا فيما لو حصل السوريون المناهضون لها على جزء محدود جداً مما حصلت، وتحصل، عليه أوكرانيا، حالياً.
لقد اُدخلت في الأعوام الأولى للثورة كميات كبيرة من الأسلحة إلى الداخل السوري عبر أقنية شتى، وكل ذلك كان يتم بعيداً، وخارج نطاق دائرة قرار ومعرفة وتأثير المجلس الوطني السوري. ولكن السلاح الدفاعي المطلوب لحماية السوريين، ونعني به الصواريخ المضادة للطيران، ظل بعيداً عن متناول السوريين، لذلك استمر طيران بشار بالقصف، كما استمر دعم قوات السلطة بمختلف أنواع الأسلحة من جانب الروس، هذا على الرغم من ادعاءاتهم في ذلك الحين بأنهم مع الشعب السوري، ومزاعمهم في الاجتماعات الخاصة بأنهم ليسوا متمسكين ببشار الأسد.
وأذكر في هذا المجال أننا حين خاطبنا وزير الخارجية الروسي لافروف وجهاً لوجه أثناء زيارة وفد المجلس الوطني السوري إلى موسكو صيف 2012، وقلنا له أن السوريين المدنيين يقتلون بالسلاح الروسي، وأن المشافي والمدارس والمجمعات السكنية تقصف بالسلاح الروسي، وأن روسيا تتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية لقاء ذلك، كان جواب الوزير أن تلك الأسلحة تصل إلى السلطة بناء على عقود قديمة، فكان ردنا عليه: ولكن حتى هذه العقود القديمة لا بد أن تُراجع، طالما أن السلاح يستخدم في غير محله، فهو يستخدم ضد الشعب السوري نفسه.
وبمناسبة زيارتنا إلى موسكو، أذكر في ذلك الحين أنه كان من ضمن برنامجنا أن نلتقي مع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ومع المفتي العام للمسلمين في روسيا. اللقاء مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم يتم، وكانت الحجة أن البطريرك مشغول. أما اللقاء مع المفتي، فقد حل محله اللقاء مع نائبه الذي استقبلنا مع وفد من مجلس الإفتاء، وكان الاستقبال ودوداً. وحينما بدأنا بالحديث عن معاناة السوريين، وما كانوا يواجهونه من قتل وتشريد وتعذيب وتدمير كان الرجل يعبر عن تعاطفه معنا لدرجة أن الدموع كانت تترقرق في عينيه، ويسجل كل كلمة نقولها. ولكن حينما بيّنا له في نهاية المطاف أن كل ذلك بفعل بدعم روسي، وأن السوريين يُقتلون بالسلاح الروسي، توقف الرجل عن الكتابة، وتحول إلى شخص جامد، ينتظر بشغف موعد مغادرتنا للمكان.
لكن الأنكى من هذا وذاك، أن بعض المعارضين السوريين ممن اعتبروا انفسهم «معلمين» من خارج المجلس الوطني، وقسما ممن كانوا في صف النظام طوال حياتهم، وتحولوا بقدرة قادر إلى معارضين، كانوا يتحفوننا بالنصائح والإرشادات العامة المبهمة التي لم يتمكن أصحابها، رغم ايحاءاتهم بأنهم من الملمين بكل شيء، من تقديم أفكار ملموسة، أو آليات واضحة تبين كيفية التنفيذ، لتصبح تلك النصائح واقعاً على الأرض يمكن الاعتماد عليه. فهؤلاء، إلى جانب بعضهم ممن سوقوا أنفسهم باسم «معارضة الداخل» كانوا يسخرون من إلحاحنا على مطلب ضرورة تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين من أبناء شعبنا، ولكننا لم، ولن، نخجل أبداً في المطالبة بحقنا المشروع في تلك الحماية. فلو حصل السوريون على 100 صاروخ فاعل مضاد للطيران لتغيرت المعادلة بصورة كاملة في سوريا ومنذ منتصف عام 2012، ولكن يبدو أن الإرادات الدولية كانت تراعي الحسابات الخاصة بها لا تطلعات السوريين.
واللافت اليوم أن الرئيس الأوكراني يطالب اليوم بإصلاح منظمة الأمم المتحدة، بما في ذلك تغيير القواعد ضمن مجلس الأمن أو إخراج روسيا منه، أو تجميد عضويتها فيه، كما حدث مع عضويتها في مجلس حقوق الإنسان. وهذا ما طالبنا به باستمرار. فروسيا استخدمت الفيتو سواء مع الصين، أم بمفردها أكثر من 15 مرة لتعطيل أي قرار في صالح الشعب السوري، وهي اليوم تعطل مجلس الأمن تهرباً من الإدانة الدولية.
وما أذكره في هذا المجال، انه خلال لقاء وفد من المجلس الوطني السوري مع الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند صيف 2012 طرحنا الرأي التالي: ما فائدة التمسك بالشرعية الدولية إذا كانت هذه الأخيرة عاجزة عن حماية المدنيين السوريين؟ فمثل هذه الشرعية ستكون في هذه الحالة مجرد شرعية ورقية لا قيمة لها بالنسبة إلى الشعوب التي تعاني من حكوماتها.
اليوم نلاحظ أن الموقف الدولي، والغربي على وجه التخصيص هو أكثر تشدداً في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا أمر جيد ومطلوب.
ولكن علينا أن نشير هنا إلى التساهل الغربي الأمريكي تحديداً مع الروس، والتفاهم الشهير الذي كان بين بوتين وأوباما في خريف 2015 حول توزيع ميدان العمليات بين شرق وغرب الفرات تحت شعار: الأولوية لمحاربة الإرهاب وليس لحماية السوريين من إرهاب سلطة الأسد.
ونشير أيضاً إلى سياسة غض النظر التي أتبعتها الدول الغربية إزاء دخول ميليشيات «حزب الله» والميليشيات العراقية التي استخدمها نظام ولي الفقيه الإيراني أذرعاً في قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم وبلداتهم.
معركة أوكرانيا مستمرة، وهي ستترك من دون شك آثاراً عملية على التحالفات الدولية والإقليمية سواء في المدى المنظور، أم على المدى البعيد. ولكن المؤكد هو أن الأنظمة الديمقراطية إذا كانت حريصة على مستقبلها ومستقبل شعوبها، لا يمكنها أن تحافظ على نفسها من دون مساعدة الشعوب التواقة إلى الحرية في مختلف أنحاء العالم، وإلا فإن بلدان تلك الشعوب ستصبح قواعد ونقاط استناد لصالح الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن القوة العسكرية هي أساس كل شرعية، وهذا مؤداه العودة إلى شريعة الغاب.
القدس العربي