في ما يلي، يناقش ثلاثة خبراء ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا قد تغير حسابات واشنطن بشأن التقارب مع تركيا، والانتشار العسكري في المنطقة، والتنافس الأوسع نطاقاً بين القوى العظمى. وكان معهد واشنطن قد عقد، في 3 آذار (مارس)، منتدى سياسياً افتراضياً مع آنا بورشيفسكايا، سونر جاغابتاي، وجرانت روملي. وبورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” التابع للمعهد حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”. وجاغابتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير “برنامج الأبحاث التركي” في المعهد. وروملي هو زميل أقدم في “برنامج مؤسسة غليزر” ومستشار سابق لسياسة الشرق الأوسط في البنتاغون. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم.
- * *
آنا بورشيفسكايا
يبدو أن هدف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا هو خوض حرب باردة جديدة، ولكن مع رسم نهاية مختلفة لها هذه المرة. ورغم الفرحة السائدة بشأن القدرة التي أظهرتها أوكرانيا على التصدي للهجوم الروسي، إلا أن الغزو سيستمر وقد تتحول كييف إلى حرب ثانية.
تشير ردود فعل دول الشرق الأوسط إزاء الحرب، حتى الآن، إلى أن بوتين قد نجح في بناء علاقات جيدة ونفوذ براغماتي في المنطقة. فالنظامان الإيراني والسوري ووكلاؤهما يدعمون الغزو الروسي في حين تتردد حكومات أخرى في الانحياز إلى أحد طرفي النزاع. على سبيل المثال، لا يستطيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إغضاب الرئيس الروسي، بينما تسير إسرائيل على خط دقيق. ومع ذلك، بغض النظر عن مدى المرونة التي سعى بوتين إلى أن يكون عليها، تبقى شراكاته الأقرب كانت مع الجهات الفاعلة المناهضة لأميركا.
وفيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة للحرب على الشرق الأوسط بحد ذاته، هناك عامل أساسي واحد يلعب دوره وهو ارتباط أوكرانيا بالبحر الأسود وبحر آزوف. وتعتبر موسكو هذين البحرين وشرق البحر المتوسط خطاً دفاعياً ثلاثي الجهات يحمي نقطة ضعف روسيا من جهة الجنوب، وبالتالي قد تؤثر نتيجة الحرب على الموقف المستقبلي لبوتين تجاه الدول المختلفة على طول هذه المياه وبالقرب منها. وقد تعرض الأزمة أيضاً الأمن الغذائي للخطر، لا سيما في لبنان ومصر وإسرائيل. وقد يؤدي هذا بدوره إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين عبر المنطقة. وقد استخدم بوتين مثل هذه التدفقات كسلاح في الماضي ولن يتردد في فعل ذلك مجدداً. إضافة إلى ذلك، نظراً للعلاقات التجارية لروسيا مع دول الشرق الأوسط، فإن تدفق العقوبات الدولية ضد موسكو سيصيب المنطقة مالياً. وقد تأثرت أساساً أسعار الطاقة.
وعلى الرغم من أن بوتين تجنب الوقوع في مأزق في سورية، إلا أنه قد لا يتمكن من النجاح بذلك في أوكرانيا. وسيستغل نفوذه الاستراتيجي في الشرق الوسط لمواصلة القتال، ولكن مثلما أكسبه نجاحه العسكري في سورية الاحترام في جميع أنحاء المنطقة، فإن عدم نجاحه في النهاية في أوكرانيا يمكن أن يهدد مكانته. ومع ذلك، لا ينبغي للمجتمع الدولي انتظار حدوث ذلك. وقد اتبع بوتين نهجا يقوم على إشراك الجهات الحكومية كافة للضغط على الغرب، لذلك على الغرب أن يفعل الشيء نفسه لتحديه.
ومن خلال القيام بذلك، على واشنطن ألا تقلل من شأن قدرة روسيا ورغبتها في اختبار القوات الأميركية. واستناداً إلى ما ستكشفه فصول الصراع الأوكراني، قد تعتمد القوات الروسية على مثل هذه الاختبارات في سورية، كما فعلت في الماضي.
وعموماً، يشوب نظرة قادة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الولايات المتحدة قدر كبير من عدم اليقين في الوقت الحالي، ويعمد الكثيرون إلى تنويع سياساتهم الخارجية لأنهم لا يعتقدون أنهم قادرون على الاعتماد على واشنطن. على سبيل المثال، أثر هذا التصور على دولة الإمارات خلال المداولات الأولية للأمم المتحدة حول كيفية الرد على الغزو. لذلك يجب على المسؤولين النظر بإمعان في النفوذ الأميركي، وتقييم ما نجح وما يمكن القيام به بشكل مختلف. وعلى الرغم من أن واشنطن لم تمنع الغزو، إلا أنها اتخذت الخطوة الفعالة التي تمثلت في الكشف عن معلومات حول خطط روسيا لخلق عملية خفية سرية كاذبة. وهذا ما ترك بوتين دون أي عذر مصطنع حتى للغزو، وقوض مصداقيته وسرديته.
وفيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني، غالباً ما كان المسؤولون الروس يدافعون عن طهران أثناء المفاوضات. وعلى الرغم من إشارتهم بأنهم يفضلون إيران غير نووية، إلا أنهم يستطيعون تحمل الانتظار في هذه القضية. لذلك، ينبغي أن يشك المسؤولون الغربيون في أي ادعاء روسي بأن التعاون في أوكرانيا مرتبط بالتعاون في الاتفاق الإيراني. - * *
سونر جاغابتاي
يمكن وصف سياسة تركيا تجاه الحرب بأنها “الحياد المؤيد لأوكرانيا”. وتوفر الأزمة فرصة استراتيجية لأنقرة في المرحلة المقبلة لتحسين علاقاتها مع واشنطن.
وبالنسبة للرئيس التركي أردوغان، فكان قد بنى رابطاً مشتركاً مع بوتين منذ تواصل الأخير معه عقب محاولة الانقلاب العام 2016، لكن البلدين ليسا حليفين. وعلى وجه الخصوص، ما يزالان متنافسين على البحر الأسود، حيث تم التركيز مؤخراً على “اتفاقية مونترو” للعام 1936 التي تنظم الوصول البحري. وبموجب شروطها، يمكن للدول الساحلية فقط الاحتفاظ بقوات بحرية كبيرة ودائمة على البحر الأسود، وتركيا هي “الحارس المُعيّن” لتحديد السفن التي يمكن أن تبحر عبر المضائق الغربية أثناء الحرب. ومع ذلك، هناك بعض الغموض حول هذه الجوانب القانونية، وما تزال روسيا القوة العسكرية المتفوقة.
وبالتالي، تعتبر أنقرة أوكرانيا حليفاً رئيسياً في إقامة قوة موازنة في وجه موسكو وستبذل جهدها لمنع سقوط كييف في قبضة بوتين. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لأردوغان أن يتحمل تكلفة تنفير روسيا إلى حد كبير لأن الكرملين يمكنه فعل الكثير لتهديد احتمالات إعادة انتخابه في 2023. على سبيل المثال، إذا استمرت الحرب وأدت المساعدة التركية إلى قلب ميزان القوى لصالح كييف، فبإمكان بوتين القيام بعمل عسكري في سورية يؤدي إلى تدفق اللاجئين نحو تركيا، و/أو تنفيذ عقوبات تجارية وسياحية تقوض انتعاشها الاقتصادي. حتى أنه قد يبدأ اشتباكات مباشرة مع القوات التركية أو وكلائها في سورية.
ومن الناحية العملية، يعني ذلك أن أنقرة ستدعم أوكرانيا دبلوماسياً ومادياً، لكن دون انضمامها إلى العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. كما ستنفذ “اتفاقية مونترو” بطريقة “محايدة” بل مفيدة في الغالب، خاصة إذا استمرت الحرب.
ونظراً لأن الحرب أضافت جرعة من الروح الواقعية إلى وجهات نظر تركيا بشأن روسيا، فقد حان الوقت لقيام واشنطن بإشراك أنقرة في محادثات إستراتيجية أعمق -وبشكل مثالي بصورة غير علنية. يجب أن تركز هذه المداولات على التوصل إلى صفقة كبرى تشمل العناصر الآتية: زيادة التعاون الثنائي بشأن أوكرانيا؛ إلغاء صفقة صواريخ “إس-400” التركية مع موسكو؛ إعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة تجاه القوات الكردية في سورية؛ إعادة دعوة تركيا إلى مشروع طائرات “F-35″؛ السعي للحصول على موافقة الكونغرس الأميركي على مبيعات طائرات “F-16” لأنقرة؛ وصياغة اتفاقيات صارمة تتمثل بعدم السماح لروسيا بمضايقة القوات التركية والوكلاء الأتراك في سورية. - * *
غرانت روملي
على المدى القريب، من غير المرجح أن يتأثر الموقف العسكري الأميركي في الشرق الأوسط بصورة مباشرة بالأزمة الأوكرانية. فمعظم القوات التي كان قد تم تغيير مواقعها لدعم الحلفاء في “الناتو” متمركزة أساساً في أوروبا، باستثناء عناصر الفرقة 82 المحمولة جواً. ومع ذلك، فإن استمرار الصراع لمدة طويلة يمكن أن يقيد بعض الجهود العسكرية الأميركية المهمة الطويلة الأمد في المنطقة.
ومن الأمثلة على ذلك البعثات الأميركية التي تركز على طمأنة الحلفاء. وقد يؤدي القتال طويل الأمد في أوروبا إلى سحب بعض هذه الأصول التي يكثر الطلب عليها من مناطق مثل الخليج العربي لدعم حلفاء “الناتو” بشكل أفضل.
وعلى نطاق أوسع، تشكل الحرب لحظة توفر الوضوح للولايات المتحدة وشركائها. فإسرائيل قلقة للغاية من زعزعة استقرار علاقاتها مع روسيا بشأن سورية. ويشعر الأردن بالقلق حيال الأمن على حدوده، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات. وتكترث الإمارات والسعودية لعلاقاتهما الوثيقة وطويلة الأمد مع روسيا، لا سيما في قطاع النفط باعتبارهما أعضاء في كارتل “أوبك بلس”. ومن ناحية أخرى، ينظر العديد من الشركاء إلى الولايات المتحدة على أنها قوة آخذة في الانسحاب (من الشرق الأوسط) وأن روسيا والصين هما ملاذ آمن في وجه هذا الواقع. وبالتالي، على واشنطن تعزيز موجة الدعم الدولي التي أطلقتها لأوكرانيا، ليتم مقارنة الحشد السريع للغرب للمساعدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية مع إجراءات اتخذتها (أو تقاعست عن اتخاذها) قوى عظمى منافسة أخرى في المنطقة وخارجها.
وفيما يتعلق بالعقوبات بحد ذاتها، سيكون للإجراءات المختلفة التي تستهدف اقتصاد روسيا وقطاعها الدفاعي آثار ثانوية على مبيعات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط. وعلى الرغم من المخاطر المستمرة لاحتمال الخضوع لعقوبات “قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات”، فقد لجأ شركاء الولايات المتحدة أحياناً إلى الكرملين لشراء معدات كانت إما أرخص ثمناً أو قُدمت بشروط أقل صرامةً. والآن مع ازدياد العقوبات المفروضة على روسيا، سيضطر هؤلاء الشركاء إلى تقييم المخاطر الإضافية عند التفكير في عمليات الشراء هذه. ومن شأن هذا التحول في الأحداث أن يمنح المسؤولين الأميركيين فرصة للتدخل وإعادة هؤلاء الشركاء في المنطقة إلى كنف أميركا -على الرغم من أنه قد يدفعهم أيضاً للتوجه إلى الصين أو جهات مزودة أخرى بدلاً من الولايات المتحدة. - الغد