بعد 12 عامًا من الجفاء، حطَّت طائرة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في أنقرة تلبية لدعوة نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، الذي تتجه بلاده نحو إعادة ترميم العلاقات مع تل أبيب، وإحياء التعاون المشترك في عدد من الملفات في الإقليم، خاصة ملف الطاقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
وإن بدت إسرائيل متحفظة بعض الشيء في التجاوب مع الإشارات الإيجابية التي أرسلتها أنقرة، إلا أن الأخيرة استبقت الزيارة وأعقبتها بجملة من التصريحات التي أشارت إلى الرغبة بالتعاون في ملف الطاقة، وأن تركيا ما زالت الخيار الأمثل لنقل الغاز الإسرائيلي للتصدير نحو أوروبا، وفقًا لأكثر من تصريح للرئيس أردوغان في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين(1). وقد أكد هذا المسعى تصريحات أخرى نُقلت عن وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو، حول الترتيب لزيارتين له ولوزير الطاقة إلى إسرائيل مطلع أبريل/نيسان، بهدف إعادة تعيين السفراء، وبحث ملف غاز شرق المتوسط(2).
خلفية تاريخية
مرَّت العلاقات بين البلدين بالعديد من محطات التوتر منذ القطيعة التي أعقبت قتل إسرائيل لعشرة نشطاء أتراك على سفينة مافي مرمرة في مايو/أيار 2010. وبالرغم من إعادة تطبيع العلاقات، عام 2016، إلا أن الاعتداء الإسرائيلي على مسيرات العودة، عام 2018، قاد إلى طرد أنقرة للسفير الإسرائيلي، لترد تل أبيب بالمثل، وتبقى الحال كما هي عليه حتى يومنا هذا. لم تتسم الفترات الماضية بالقطيعة الدبلوماسية والسياسية فحسب، بل شهدت عديدًا من التصريحات الحادة بين الطرفين، إضافة إلى توقف التنسيق الاستخباري والأمني بينهما بعد أن كان لهما تاريخ طويل من الشراكة الاستراتيجية(3).
وقد عزَّز من هذا التباعد حالة الاستقطاب الحاد الذي يعيشه الإقليم، وانقسامه على ثلاث من القضايا، هي: الموقف من القضية الفلسطينية، والموقف من الثورات العربية، إضافة إلى الأزمة الخليجية، ليجد الجانبان نفسيهما على طرفي نقيض في القضايا الثلاث. تزامن هذا التناقض بين البلدين مع الاكتشافات المتلاحقة لحقول الغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط منذ 2010، والتي قُدِّرت بقرابة 122.4 تريليون قدم مكعب (4)، تقع غالبيتها ضمن جغرافيا معقدة ومساحات مائية متنازع عليها.
وكما هو معلوم فإن الشركات المنتجة للغاز وكذلك الدول المستهلكة لن ترغب بالاستثمار في حقول متنازع عليها أو منطقة تفتقر للاستقرار؛ مما أغرى مجموعة من دول المتوسط بالتكتل تحت مظلة مشروع منتدى غاز شرق المتوسط، عام 2018، بهدف البحث في فرص الاستفادة من الغاز عبر الالتفاف على النزاعات لا حلها، وعقد صفقات ترسيم ثنائية للحدود البحرية، والبحث عن أبواب دولية للتمويل والدعم. ويضم المنتدى في عضويته كلًّا من مصر، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، والأردن، وفلسطين بالإضافة إلى فرنسا وإيطاليا(5)، مع استبعاد تركيا التي تمتلك أطول شاطئ يطل على البحر المتوسط، وغياب سوريا ولبنان.
تبنَّى المنتدى منذ تأسيسه مشروع خط أنابيب “إيست ميد”، الذي يهدف لتصدير غاز المتوسط إلى أوروبا بمسافة تمتد لقرابة 1900 كم، انطلاقًا من الشواطئ الإسرائيلية نحو جمهورية قبرص ثم إلى جزيرة كريت اليونانية باتجاه إيطاليا، وبسعة نقل أولية تبلغ 10 مليارات متر مكعب/سنويًّا قابلة للزيادة، وبتكلفة تقديرية تتراوح بين 7-12 مليار دولار(6).
لم تخْفِ أنقرة امتعاضها من المشروع إذ يمر المسار المقترح من المياه التي تعتبرها كل من تركيا وجمهورية شمال قبرص حقوقًا مائية خاصة بهما، كما سيسهِّل في حال إنجازه على اليونان وقبرص استغلال حقول غاز متنازع عليها عبر سياسة الأمر الواقع. وكانت المفوضية الأوروبية قد أدرجت “إيست ميد” في قائمة “المشاريع ذات الاهتمام المشترك”(7) التي تحظى بحصة وافرة من ميزانيتها. لكن جملة من التحديات والصعوبات التمويلية واجهت المشروع منذ اعتماده، وقد جاءت رسالة وجهتها الولايات المتحدة لأثينا في 10 يناير/كانون الثاني الماضي، تخطرها فيها بعدم حماسها لخط أنابيب “إيست ميد”(8) لتزيد من العقبات أمامه.
التقطت تركيا الموقف الأميركي سريعًا؛ إذ وجدت فيه نافذة تستطيع من خلالها كسر جدار العزلة وسياسة الأمر الواقع التي أراد “إيست ميد” فرضهما عليها، فعمدت إلى توجيه دعوة رسمية للرئيس الإسرائيلي لزيارتها، وملف الغاز على رأس أولوياتها.
دلالة التوقيت
ولئن كان سحب الدعم الأميركي لمشروع “إيست ميد” هو الدافع المباشر خلف الدعوة التركية، إلا أن جملة من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية كانت قد أنضجت فكرة إحياء العلاقات مع إسرائيل، والولوج منها نحو محاولة كسر العزلة في شرق المتوسط.
داخليًّا، تشهد البلاد أزمة اقتصادية هي الأولى في حدَّتها منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، خسرت خلالها الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها ووصلت نسب التضخم إلى حدود 54%(9). كما تنتظر البلاد انتخابات حاسمة بعد عام، وترى أنقرة أن من شأن التقارب مع تل أبيب، والإعلان عن تقوية موقفها بخصوص غاز المتوسط إرسال إشارات إيجابية تسعف الاقتصاد من جهة، وتقوِّي موقف الحزب الحاكم من جهة أخرى. وتقليديًّا، تنظر أنقرة إلى العلاقة مع إسرائيل كمدخل معقول للتقرب من الإدارة الأميركية لاسيما في ظل التراجع النسبي في العلاقة مع إدارة جو بايدن.
أما إقليميًّا، فيأتي التقارب في ظل مراجعة للسياسة الخارجية التركية، أسفرت خلال العام الأخير عن حوارات وزيارات متبادلة مع كلٍّ من الإمارات ومصر والسعودية. وكان لافتًا أن أنقرة حاولت أكثر من مرة استمالة الجانب المصري للتنسيق معها في شرق المتوسط عبر طرح رؤى لترسيم حدود بين البلدين، وعلى الرغم من أن تركيا طرحت على القاهرة صفقة أكثر سخاء مما وقَّعته الأخيرة مع أثينا، عام 2020(10)، إلا أن القاهرة لم تُبْدِ حتى الآن أية رغبة بالتوافق.
وقد كانت القاهرة أدانت بلهجة شديدة اتفاقية ترسيم الحدود الليبية-التركية التي وُقِّعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2019(11)، بينما التزمت تل أبيب الصمت حيالها، في محاولة لترك الباب مواربًا لإمكانية التفاهم مع أنقرة ضمن صفقة شاملة لإعادة تطبيع العلاقات، وقد ازدادت حظوظ مثل هذه الصفقة بعد فشل نتنياهو المتكرر بتشكيل حكومة إسرائيلية؛ إذ حمَّلت تركيا في أكثر من مناسبة حكومة نتنياهو مسؤولية الفشل بترميم العلاقات(12).
أما على صعيد العلاقة مع اليونان، فيُلحظ جنوح الطرفين منذ مطلع 2021 إلى خفض التصعيد وتجميد خطوات التنقيب الأحادية عن الغاز(13)، إضافة لتلبية رئيس الوزراء اليوناني دعوة أردوغان للاجتماع على هامش المنتدى الدبلوماسي في أنطاليا في 12 مارس/آذار الجاري(14).
دوليًّا، تأثرت تركيا كغيرها من البلدان بارتفاع أسعار الطاقة إثر زيادة الطلب العام في الأسواق الآسيوية، وارتفاع الطلب عالميًّا بعد رفع إغلاقات كورونا، وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي لتزيد من ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة منذ 2008(15)، كما تجددت معها المخاوف الأوروبية من الاعتماد على الغاز الروسي والحاجة الماسَّة لتنويع مصادر الطاقة.
كل ما سبق جعل من اللحظة الآنية التوقيت الأكثر مناسبة لتقارب إسرائيلي/تركي لا تأمل أنقرة من خلاله بإعادة فتح السفارات فحسب، إنما يشمل تنسيقًا استراتيجيًا شاملًا بما في ذلك محاولة التأثير في توازنات شرق المتوسط، بطريقة تضمن ألا يبقى الغاز محبوسًا لسنوات أخرى في البحر.
حلف إسرائيلي/تركي شرق المتوسط؟
تنطوي الرؤية التركية للتعاون مع إسرائيل في ملف غاز المتوسط على اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: يتمثل بإنشاء خط أنابيب بحرية ينقل الغاز الإسرائيلي من حقل ليفيثيان إلى البر التركي، بحيث تشتري تركيا حصة منه للاستخدام المحلي، وتصدِّر حصة أخرى إلى أوروبا مستفيدة من خطوط أنابيب الغاز العابرة للأناضول الموجودة أصلًا.
لا تبدو هذه الفكرة جديدة كليًّا؛ إذ كانت موضوعة على طاولة النقاش بين تركيا وإسرائيل، عام 2013، حيث خاضت شركة “زورلو” القابضة المقربة من الحكومة التركية شهورًا من المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية لبناء خط أنابيب بتكلفة 2-2.5 مليار دولار، وبسعة نقل تتراوح بين 8-10 مليارات متر مكعب/سنويًّا، وبطول 130 كيلو مترًا، يمتد من حقل ليفيثيان مقابل شواطئ تل أبيب إلى ميناء جيهان التركي(16)، حيث يتصل مع خط أنابيب TANAP الذي ينقل الغاز الأذربيجاني نحو أوروبا، والذي كان مقترحًا على الورق آنذاك، وجرى تشغيله عام 2019.
وحيث إن شركة النفط الحكومية لأذربيجان، التي تعد حليفة استراتيجية لتركيا، تمتلك 58٪ من أسهم TANAP بينما تمتلك شركة أنابيب البترول الحكومية التركية قرابة 30٪ منها، بالإضافة لوجود فائض بالسعة التشغيلية لا يبدو أن أذربيجان ستكون قادرة على استغلاله في المدى المنظور، فإن أنقرة تدفع باتجاه استخدام TANAP لنقل الغاز الإسرائيلي نحو أوروبا دون الحاجة لبنية تحتية إضافية(17)؛ مما يجعل هذا المسار أكثر منافسة من حيث الجدوى الاقتصادية من “إيست ميد”.
الاتجاه الثاني: تراهن تركيا على أن مشروعًا لاستهلاك وتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها سيقوِّي من موقفها من النزاع على الغاز، ولن يتركها وحيدة خارج حلف سياسي وأمني يتشكل في شرق المتوسط في معزل عنها، كما يأمل صانع القرار بأن يؤثر ذلك على موقف القاهرة المتجاهل للرغبة التركية بتوقيع اتفاقية ثنائية لترسيم الحدود البحرية.
لكن الأهم هنا أن بناء خط أنابيب يربط الحقول الإسرائيلية بالبر التركي، سيعني بالضرورة الحصول على موافقة جمهورية قبرص؛ إذ تفيد المادة 79(3) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بأن خطوط الأنابيب يجب أن تحصل على موافقة الدول التي تمر عبر المنطقة الاقتصادية الخاصة بها(18)، وهي الموافقة التي إن تمت، فستعني استعداد الجانب القبرصي ومن خلفه اليوناني للنظر في المطالب التركية، وهذا بالتحديد كما قد يكون -بقدرٍ ما- ضمانًا لتسوية الخلافات العالقة بين الجانبين، فإنه قد يكون أيضًا الصاعق الذي ينسف أية إمكانية لتحويل المشروع التركي-الإسرائيلي إلى حقيقة.
الرؤية الإسرائيلية
وفي مقابل الرؤية التركية نجد أن لدى إسرائيل منطلقات مغايرة للتعاطي مع ملف الغاز عمومًا، والتعاون مع أنقرة بشكل خاص. اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها على استيراد الطاقة من روسيا ودول الاتحاد السوفيتي سابقًا، ومؤخرًا مصر التي غذَّتها بالغاز الطبيعي(19). شكَّلت هذه الاعتمادية معضلة لدى صانع القرار الذي رأى فيها قيدًا سياسيًّا واقتصاديًّا في جوار معادٍ، وقد انعكس ذلك على سياسات الطاقة التي اعتمدتها إسرائيل منذ اكتشافها للغاز مطلع القرن الجاري، والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
أولًا: الاكتفاء الذاتي أولًا والتصدير ثانيًا: وضعت إسرائيل الكثير من القيود على عملية التصدير، وجعلت أولويتها سدَّ احتياجات السوق المحلية. فمنذ اكتشاف حقل “ماري-ب”، عام 2000، اتجهت حصرًا للإنتاج الداخلي، واستمرت في عمليات التنقيب والتطوير سعيًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز. وبعد توسع الاكتشافات بما يفوق بكثير الاحتياجات المحلية، اعتمدت، عام 2013، قرارًا يقضي بألا تتجاوز نسبة التصدير 40٪ من إجمالي الانتاج، وخصَّصت حقل تامار ثاني أكبر الحقوق المكتشفة للسوق المحلية(20).
ثانيًا: التصدير عبر الأنابيب وليس الإسالة: تدرك إسرائيل التحديات الأمنية التي تحيط بساحلها، لذلك اختارت ألا تقوم ببناء محطات إسالة برية أو عائمة، ورجَّحت تصدير الغاز عبر أنابيب وإسالة الفائض منه في محطتي إدكو ودمياط المصريتين، وذلك تجنبًا للمخاطر الأمنية والبيئية التي قد يسبِّبها استهداف محطات الغاز، وهذا أحد أسباب حماسها لمشروع “إيست ميد”؛ إذ يضمن تدفقًا بكميات جيدة من الغاز دون الحاجة لبناء محطات إسالة.
ثالثًا: الغاز كأداة للنفوذ الإقليمي: لم تنتقل إسرائيل لتصدير الغاز إلا بعد عقدين من الاكتشافات، فأبرمت صفقتين للتصدير مع كل من الأردن ومصر، عامي 2016 و2018 على التوالي، صادقت على أن تصدِّر بموجبهما ما مجموعه 10 مليارات متر مكعب سنويًّا من الغاز إلى البلدين ولمدة 15 عامًا(21) (22).
اعتبرت إسرائيل الصفقة مع مصر هي الاتفاق الأهم بين البلدين منذ اتفاقية السلام، عام 1979(23)، في تعبير يعكس توظيف تل أبيب للغاز أداةً للنفوذ؛ إذ قامت برهن سوق الطاقة لدول الجوار للغاز الإسرائيلي، كما استخدمت الغاز أداة لتعزيز التقارب مع دول الإقليم، لاسيما في المجالين الأمني والعسكري كما في الحالة مع اليونان، وذلك على الرغم من وجود حكومة يسارية لا ينظر جمهورها بدفء للعلاقة مع إسرائيل، وعززت عبره التقارب مع الإمارات بصفقة بيع 22٪ من حصة حقلي تامار وداليت لشركة مبادلة للبترول التابعة لحكومة أبوظبي أواخر 2021(24).
وقد نظرت إسرائيل بين عامي 2013-2014 إلى التفاوض مع أنقرة على نقل الغاز كفرصة لتعزيز التنسيق والتعاون الإقليمي المشترك، وهو الأمر الذي لم يتحقق؛ مما أفرغ المشروع من مضمونه وفقًا للرؤية الإسرائيلية. وتعكس تصريحات المسؤولين الرغبة في تنويع مسارات تصدير الغاز، فلا تكون مقتصرة على دول قد تتعرض التجارة معها لتقلبات السياسة أو ضغط احتجاجات الشارع، لذلك تضع التصدير المباشر للاتحاد الأوروبي عبر “إيست ميد” كأولوية، وذلك لـ”حرمان الدول العربية من فرصة وضع إسرائيل تحت ضغط سياسي”، وفق تعبير يوفال شتاينتس وزير الطاقة السابق(25).
حظوظ وفرص أنقرة من خط أنابيب إسرائيل-تركيا
الجدوى الاقتصادية
تبدو الميزانية المالية الضخمة التي يتطلبها “إيست ميد” أكثر العقبات أمامه، وتعود تكلفته الضخمة لطول المسار وللتحديات التقنية التي يتطلب تجاوزها بناء الأنابيب في أعماق بحرية سحيقة(26). وعليه، فإن ميزانية خط أنابيب إسرائيل-تركيا تبدو منافسة فعلًا، لكن هذا لا ينفي الشكوك حول مدى حماسة الأطراف المعنية لتغطية التكاليف، لاسيما أن توصية من معهد الأمن القومي الإسرائيلي نبَّهت إلى أن اتفاقًا للطاقة مع تركيا لا يمكن أن يتحقق إلا بمشاركة طرف ثالث يتولى التمويل(27). ولا يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد يكون متحمسًا للمشاركة في تمويل خط إسرائيل-تركيا؛ إذ ما زالت خيارات سياسته الخارجية ترجح دعم مسار “إيست ميد” الذي يلتقي مع رؤاه الأمنية للمنطقة، إلى جانب الانحياز الفرنسي الكامل للرواية اليونانية بشأن النزاع البحري مع تركيا، وغياب الدور القيادي لألمانيا في الاتحاد.
صحيح أن أوروبا معنية على الدوام، وبعد العدوان الروسي على أوكرانيا بالخصوص، بإيجاد بديل عن الغاز الروسي، إلا أن خط إسرائيل-تركيا من غير الممكن أن يلعب دور البديل، فقد تتمكن سعة نقله من تغطية نسبة تتراوح بين 6-12٪ من الغاز الذي تستورده أوروبا من روسيا والذي يبلغ 155 مليار متر مكعب سنويًّا وفق استهلاك عام 2021(28). ومن جهة أخرى، يرى تيار وازن من صنَّاع القرار في الاتحاد أن من مصلحة أوروبا عدم استنزاف ميزانيات ضخمة على مشاريع طويلة الأجل لاستيراد الغاز عبر الأنابيب بينما في مقدورها الاستعاضة عنها بشحنات الغاز المسال خلال خطة التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة، وهو الهدف الذي اعتُمد في خارطة طريق تهدف لتصفير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2050(29).
العامل القبرصي/اليوناني
عند النظر في خارطة شرق المتوسط، يلحظ المرء أن من شأن خط أنابيب إسرائيل-تركيا أن يمر إما عبر المياه الإقليمية السورية أو عبر ما تراه قبرص منطقتها الاقتصادية الخاصة. وقد كانت هذه المعضلة أحد أسباب تعثر مفاوضات المشروع عام 2014 إلى جانب العدوان الإسرائيلي على غزة في حينه.
ليس من الممكن فحص مشاريع خطوط الأنابيب دون النظر إلى البيئة السياسية والأمنية لدول العبور، وفي ظل غياب أي أفق منظور لحل الأزمة السورية بما يضمن استقرارًا نسبيًّا، إلى جانب الحضور القوي لكل من روسيا وإيران والمرجح استمراره لما بعد الحل، لا تبدو فكرة العبور من المياه السورية مجدية للنقاش.
أما جمهورية قبرص التي تتعدد ملفات النزاع بينها وبين تركيا، فلن تبدو مرحِّبة باستضافة خط الأنابيب، لاسيما أن ذلك يعني القضاء على آخر الآمال بتنفيذ “إيست ميد”. ولحل هذه المعضلة، كانت شركة تورجاس بترول التركية قد اقترحت، عام 2013، أن يشمل المشروع أيضًا تمويل منشأة لإسالة الغاز الطبيعي في جمهورية قبرص، في مقابل موافقة الأخيرة على استضافة خط الأنابيب(30)، لكن صفقة كهذه لم تعد مغرية اليوم حيث توصلت قبرص إلى صفقة مع مستثمر أجنبي مدعومة بتمويل أوروبي لبناء المحطة في ميناء فاسيليكوس، عام 2019(31).
تركيا مركز إقليمي للطاقة
تأمل تركيا أن تصبح مركز عبور للطاقة، وزيادة حظوظها لتكون قوة إقليمية في المنطقة باستخدام الطاقة أداة سياسية. لا تخفى هذه الرؤية على أي مراقب؛ إذ جرى التعبير عنها في تصريحات عدة لمسؤولين أتراك، اعتبرت أن “تركيا تقع في مركز الجغرافيا السياسية للطاقة” بين بحر قزوين والشرق الأوسط وأوروبا(32).
يعتمد بيع ونقل الغاز على السمعة الحسنة لدول العبور؛ إذ يمكن للدول الناقلة أن تعطِّل توصيل الغاز من المنتج إلى المستهلك عبر تدابير مختلفة، من بينها المراقبة غير القانونية لخط الأنابيب، أو التراخي تجاه التهديدات الأمنية لأغراض سياسية، وتمتلك دول العبور نفوذًا على المنتجين والمستهلكين، لاسيما إن كانت كميات الغاز المنقولة ضخمة، ولم تكن هناك طرق نقل بديلة؛ إذ قد تحاول مراجعة شروط الاتفاقيات طويلة الأجل للمطالبة برسوم عبور أعلى، وخصومات أكبر على الأسعار، وحقوق إعادة تصدير للغاز(33). لذلك، لا يمكن دراسة مشاريع خطوط الأنابيب دون التمحيص في السياسات المحلية لدول العبور والمخاوف المتعلقة بسياستها الخارجية.
يرتبط أمن الطاقة بشكل كبير بأمن الإمداد، لذلك تعد الاعتبارات السياسية عاملًا حاسمًا لدعم مشاريع خط أنابيب معين، أو قد تسهم في إحباطه تمامًا(34). صحيح أن الجدوى الاقتصادية تلعب دورًا حيويًّا أيضًا، لكن الدول قد تميل في كثير من الأحيان للجنوح نحو خيارات مكلفة اقتصاديًّا لكنها توفر حدًّا مريحًا من الاستقرار السياسي والأمني؛ إذ يُنظر لذلك على أنه استثمار مضمون وطويل المدى.
وفي ضوء ما سبق، يبرز التساؤل حول الرغبة الإسرائيلية في المضي قدمًا بمشروع استراتيجي يحصر تصدير غاز أكبر حقل إسرائيلي بالمسار التركي، وذلك بعد 12 عامًا من فقدان الثقة بين الجانبين، وقبل أن تجري البرهنة على جدية المصالحة هذه المرة، ولعل السؤال نفسه يبرز حول رغبة أوروبا بالاعتماد على تركيا كدولة عبور، في سياق مسعاها للانعتاق من الاعتمادية على روسيا.
فلئن كانت تركيا يُصطلح على اعتبارها “دولة تجارة”؛ بمعنى أن سياستها الخارجية تتشكَّل باطراد من خلال الاعتبارات التجارية والاقتصادية(35)، فإن المحرِّك الرئيس للسياسة الخارجية الإسرائيلية بشأن الغاز هو الأمن وأمن الطاقة وليس المكاسب الاقتصادية، ولعل ذلك ما جعل أنقرة تبدو مندفعة في تقاربها الأخير وتصريحاتها الواضحة حول التعاون في ملف الغاز، بينما تتسم تل أبيب بمزيد من الحذر.
وأخيرًا، إن كان شراء تركيا غاز حقل ليفيثيان وفتح الطريق لإسرائيل من أجل تصديره نحو أوروبا، لا يتناقض مع رؤية أنقرة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، واعتبار حل الدولتين وصفة لإنهائه، إلا أن الفلسطينيين يؤمنون بأن إسرائيل تستغل غازهم المنهوب بطريقة غير شرعية، وقد عمدت الذراع المسلحة لحماس إلى إرسال رسالة رفض لهذا الاستغلال عبر استهداف منصة استخراج حقل تامار خلال المواجهة بين الجانبين في مايو/أيار 2021، مما حدا بوزارة الطاقة إلى إغلاقها بضعة أيام رغم الخسائر الاقتصادية(36)، وهو السيناريو الذي يلقي بظلاله على مستقبل تأمين خطوط الأنابيب. ولئن كانت أنقرة تعتبر تصدير الغاز من إسرائيل إلى أوروبا وسيلة تعزز من حظوظ تحولها إلى قوة إقليمية، فإن هذا الدور قد يترك انطباعات سلبية لدى شعوب المنطقة، بطريقة تقوِّض من هذه الحظوظ، فما زالت اتفاقيتا الغاز، الأردنية والمصرية، مع إسرائيل محل رفض واستياء شعبي، ويشهد الشارع الأردني احتجاجات دورية على الاتفاقية منذ إبرامها عام 2016 وحتى اليوم(37).
خلاصة
ختامًا، لا يخفى أن الدافع الرئيس للحماسة التركية نحو إعادة تفعيل العلاقات مع إسرائيل، ينصبُّ على الآمال بأن تساعدها الأخيرة في كسر عزلتها شرق المتوسط، وذلك عبر تفعيل نقاش خط أنابيب إسرائيل/تركيا، الذي تراه أنقرة مسعفًا لاقتصادها واحتياجاتها المتنامية للطاقة، وفرصة لتعظيم قوتها الإقليمية بالتحول لمركز عبور للغاز، وورقة قوة في النزاع البحري مع اليونان وفي جزيرة قبرص.
غير أن مشروعًا بهذا الحجم من حيث الميزانية، وطول الأجل، والحاجة المسبقة للاستقرار السياسي والأمني، والبعد عن تقلبات السياسة الخارجية، تقف دونه العديد من العقبات؛ إذ يتطلب قبل التفاوض عليه، بناء حالة مستدامة من الثقة بين أنقرة وتل أبيب، واختبار متانة هذه الثقة أمام تناقض الانحيازات السياسية في الإقليم التي تفرِّق الطرفين أكثر مما تجمعهما.
وإن كانت توجهات السياسة الخارجية التركية تتأثر بالمحددات الاقتصادية، فإن إسرائيل تولي مسألة الأمن الاهتمام الأكبر، ولعل هذا ما يفسِّر تصدير تل أبيب لرئيسها، ذي المنصب الفخري، للقاء أردوغان، في حالة تعكس تحفظ إسرائيل. لذا، يبدو من المرجح أن تدفع تل أبيب نحو انتزاع المزيد من المكاسب من أنقرة، في سياق المطالبة بإثبات حسن النوايا، قبل التقدم بخطوات جدية بخصوص الغاز.
وإن كان مشروع خط أنابيب إسرائيل-تركيا يمثل مفتاحًا لعقدة الاضطرار التركية في ملف شرق المتوسط، فإن تل أبيب تبحث عن مفتاح لعقدة اضطرارها لدى الأوروبيين وليس الأتراك؛ إذ ترى أن مسار “إيست ميد” يوفر تجارة مباشرة مع أوروبا بطريقة تضمن تدفقًا سلسًا للغاز في حال عصفت التقلبات والاضطرابات الأمنية في محيطها العربي والاسلامي.
الثقة التي تحتاج إلى عملية بناء تسري أيضًا على العلاقة مع الأوروبيين، الذين لن يكونوا متحمسين لتمويل مشروع يحوِّل تركيا إلى نقطة عبور استراتيجية للطاقة، بطريقة تمنحها النفوذ على المستهلكين الأوروبيين، وتقوي موقفها وحضورها في العديد من ملفات الإقليم، لاسيما أن ارتباطات الاتحاد الأوروبي تستوجب نظريًّا أولوية دعم مصالح الدولتين العضوين؛ اليونان وقبرص.
وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من إبداء الولايات المتحدة، في يناير/كانون الثاني الماضي، عدم حماستها تجاه “إيست ميد” إلا أن هذا لا يعني موت المشروع، فقد تذرعت واشنطن بالمخاوف البيئية واحتمالات عدم الاستقرار التي يحملها، في إشارة ضمنية لاستثناء تركيا منه، إلا أن مقاربة التعاطي مع ملف الغاز من المنظور البيئي، أو من منظور بناء السلام والاستقرار بين الفرقاء، ستتراجعان على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية، وستعود مقاربة الأمن القومي الأوروبي وسياسة الردع ضد روسيا إلى الواجهة أكثر من أي وقت مضى، وهي المقاربة الواقعية لأمن الطاقة، والتي ترجح خيار التعاطي مع التحديات التقنية والاقتصادية، على خيار اللعب في بيئة تغيب فيها الثقة وتعصف بها تقلبات السياسة الخارجية.
مركز الجزيرة للدراسات