أبريل (نيسان) هو شهر الأعياد ومن معانيه الربيع والزهور والسنابل، ويطلق اسماً على الإناث اللواتي يتّسمن بالحيوية وحب الحياة. وفي إقليم عربستان، مفردة نيسان مرادفة لموسم حصاد القمح، المكون الرئيس لقطاع الزراعة في الإقليم، ولهذا يُعرف عند عامة الناس بشهر الخير والبركة. وبإنتاجه من 5 إلى 17 مليون طن سنوياً من المحاصيل الزراعية، يتصدر عربستان إنتاج هذه المحاصيل في إيران، التي تشمل القمح والرز والذرة والسكر.
نيسان وسقوط مملكة عربستان
كانت مملكة عربستان وعاصمتها المحمرة تتمتعان بوضع متميز بين الاتحاد التقليدي الذي كان يضم ممالك عدة، تمثل قوميات مختلفة في الدولة القاجارية، يصل إلى حد شبه الاستقلال، إلا أن جيش الشاه رضا البهلوي هاجم مملكة عربستان واحتل الأحواز، ومن ثمّ ذهب أحد ضباطه إلى المحمرة واختطف الأمير خزعل بخدعة ليلة العشرين من نيسان 1925. وقد تم ذلك على الرغم من وعود الشاه رضا للبريطانيين بالحفاظ على حكم الأمير خزعل بعد تسديده إيرادات جمارك المحمرة للدولة الإيرانية.
فعلى الرغم من كل الملاحظات التي يمكن أن نبديها إزاء حكم الشيخ خزعل الذي دام 28 عاماً، إلا أنه تمكّن للمرة الأولى بعد مرور قرنين من الزمن أن يوحد الإمارات الأربع التي كانت تشكل مملكة عربستان، وأعني إمارة البوكاسب في الجنوب وبني كعب في الشرق والحويزة وبني طرف في الغرب وإمارة آل كثير في الشمال.
وفي يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول) من ذلك العام، أي بعد الإلحاق القسري لمملكة عربستان إلى الدولة الإيرانية، ارتكبت قوات الجيش البهلوي مذبحة ضد المنتفضين الطامحين لإعادة الحكم العربي، قُتل خلالها 240 أحوازياً في مدينة المحمرة، وفق وثائق وزارة الخارجية الإيرانية الواردة في كتاب “كزيدة إسناد خليج فارس”. وقد عُرفت تلك الانتفاضة في القاموس السياسي الشعبي الأحوازي بـ”ثورة الغلمان”.
وتبعت تلك المذبحة، مجازر متتالية ضد العرب، أهمها عام 1979 بنحو 300 قتيل في المحمرة، وعام 2005، وحصيلتها 53 قتيلاً في مدينة الأحواز وبعض المدن الأخرى، وعام 2019 بنحو 400 قتيل في مدن الأحواز والمحمرة والغالبية من مدينة معشور.
- وهنا سنلقي نظرة على انتفاضة 15 أبريل 2005 والمذبحة التي تلتها، إذ اندلعت إثر نشر رسالة سرية منسوبة لمحمود أبطحي، مدير مكتب الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي، تنص على ضرورة العمل لتغيير عدد سكان إقليم عربستان (خوزستان رسمياً) خلال فترة 10 أعوام لصالح غير العرب ليصبح العرب أقلية هناك، ونحن نعيش حالياً ذكراها الـ17. انطلقت تلك الانتفاضة من الأحواز العاصمة وشملت مناطق الحميدية والكورة ومناطق أخرى، وأربكت النظام الإيراني الذي اعتقل الألوف من العرب، بل وقام باعتقالات وقائية في المحمرة وعبادان للحيلولة دون التحاق هاتين المدينتين بالانتفاضة الشعبية.
وكان الشعب الأحوازي وسائر الشعوب في إيران يأملون وعقب ثمانية أعوام من رئاسة خاتمي في أن يتم تطبيق بعض بنود الدستور التي تنص على تعليم لغاتهم القومية في المدارس بعد إهمال دام عقوداً، غير أن ذلك لم يحصل، ما أسفر عن انتشار حالات يأس وإحباط بين مختلف فئات المجتمع الأحوازي، وجاءت رسالة أبطحي لتزيد الطين بلّة، لكن لم يمضِ شهر على الانتفاضة السلمية والجماهيرية، إلا أن وقعت سلسلة عمليات تفجير في مؤسسات حكومية بمدينتي الأحواز ودسبول أدت إلى عسكرتهما. وقد تم إعدام أكثر من 30 شخصاً بحجج علاقتهم بتلك الأحداث خلال الفترة ما بين عام 2006 وعام 2009. وبسبب هذا الوضع المتأزم في عربستان، لم يجرؤ، لا الرئيس الإيراني آنذاك محمود أحمدي نجاد ولا مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي أن يزورا الإقليم إلا بعد مرور عام ونيف من وقوع تلك الأحداث.
تأثير الانتفاضة داخل عربستان وخارجه
وقعت انتفاضة نيسان 2005 بعد مرور ربع قرن على قيام ثورة فبراير (شباط) 1979، وما أعقبها من حراك جماهيري سياسي وثقافي للشعب الأحوازي وكذلك القمع الدامي لذلك الحراك في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من ذلك العام، وهذا يعني أن انتفاضة نيسان لعبت دوراً توعوياً مهماً لجيل لم يعِش فترة الثورة وما بعدها، وأصبحت أساساً لاحتجاجات وتظاهرات وانتفاضات لم تهدأ خلال الأعوام الـ17 الماضية.
وفقاً لنشطاء من القوميات غير الفارسية، فإن الشعب الأحوازي يُعدّ الأكثر حراكاً اجتماعياً خلال هذه الفترة، وهذا ما تشهد عليه شوارع وساحات وأحياء مدن عربستان، من دست ميسان والحميدية والسوس، مروراً بالأحواز وتستر والفلاحية والخلفية إلى معشور وعبادان والمحمرة. فلم ينحصر تأثير انتفاضة نيسان على الكفاح القومي والوطني، بل أثر في حراك الطبقة العاملة في الإقليم، بما فيها الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات التي فاقت نظيراتها في أي مكان آخر في إيران. وعلى المستوى الثقافي، شهدت عملية النشر باللغة العربية في الإقليم نسبة لا بأس بها، تجاوزت السيطرة شبه التامة للغة الفارسية، واتسعت رقعة القراءة باللغة العربية أكثر فأكثر، بل أصبحت هناك ثقة بالنفس لدى المثقف والمتلقي الأحوازي، المتفاعل مع الأدب والفكر والفن والسياسة في العالم العربي، بعدما كانت عينه في السابق على ما يُنتج في طهران. كما نشاهد العودة إلى الزي الوطني والثقافة الأحوازية وكل ما يتعلق بالهوية القومية. واجتماعياً، تجلى هذا الأمر في تعاضد مختلف المناطق مع المدن والقرى التي تعرّضت للفيضانات المتعمدة في مارس (آذار) 2019، إذ شاهدنا فرق الإغاثة والمساعدات من عبادان ومعشور والمحمرة ورامز ودسبول والخلفية للمنكوبين في الأحواز والحميدية والخفاجية، وهذا ما أثار خوف النظام الإيراني الذي لم يتحمل مثل هذه المشاهد من التضامن الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد، بل وصلت بعض المساعدات إلى المنكوبين من مناطق الساحل الشرقي للخليج.
وفي خارج الإقليم، لم تمضِ ثلاثة أشهر على انتفاضة نيسان الأحوازية، إلا وشاهدنا احتجاجات وتظاهرات تعمّ معظم مدن كردستان الإيرانية إثر اغتيال أحد نشطائهم الموصوف بـ”شوانة قادري”، أدت إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى. كما انطلقت انتفاضة عارمة في إقليم أذربيجان يوم 22 مايو 2006 واستغرقت أياماً عدة، احتجاجاً على إساءة صحيفة “إيران” الرسمية للشعب التركي الأذري، سقط خلالها نحو تسعة أشخاص وجُرح المئات وتم إحراق عدد من البنوك والدوائر والمؤسسات الحكومية، بخاصة تلك التي تحمل اسم “بارس” و”بارسيان” أي فارس والفرس. كما انعكست أخبار انتفاضة نيسان في الإعلام الإقليمي والعالمي، وطُرح اسم الأحواز على مستوى لم يسبق له مثيل ببركة التلفزة والإنترنت.
وللشعب الأحوازي فضل على سائر الشعوب في نضالها ضد الاضطهاد والقهر خلال العقدين الأخيرين، لا يقتصر على انتفاضة نيسان، بل كان هذا الشعب سبّاقاً أيضاً في انتفاضة نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 عندما خرجت الجماهير في معظم المحافظات والمدن الإيرانية، احتجاجاً على رفع أسعار الوقود، راح ضحيتها 1500 شخص، إذ أشعل الأحوازيون شرارة التظاهرات في الأحواز العاصمة أولاً، ولم تنتهِ إلا باغتيال نحو 400 عربي في ميناء معشور.
ما الأسباب؟
ربما يسأل سائل لماذا كل هذا الجهد الكفاحي الذي يبذله الشعب الأحوازي وكل هذه التضحيات؟ والجواب هو: أن هذا الشعب فقد مملكة كان لها مَلِك، وفق ما وصف به المفكر والمؤرخ اللبناني أمين الريحاني، الأمير خزعل مصنفاً إياه ضمن “ملوك العرب” في كتابه الذي يحمل هذا الاسم. وكذلك هناك حوافز أخرى منها، العنصرية المعادية للعرب المترسخة في عقلية المواطن الفارسي ومن كل الطبقات والفئات الاجتماعية، اللهم إلا الاستثناء منهم. وهذا هو إسماعيل بخشي، الزعيم العمالي المعروف وابن مدينة دسبول العربستانية الذي يقول في ذكرياته إن “هناك سريراً في سجن الأحواز خاص لتعذيب العرب، فلم يشملني ذلك التعذيب بصفتي غير عربي”.
كما تطرقت سبيدة قوليان، الناشطة النسائية المعروفة وبنت دسبول أيضاً، إلى التعذيب الخاص بالعرب في سجن “الهويرة – سبيدار”، لا سيما ضد الأحوازيات، واصفة إياه بأنه الأبشع في كل سجون إيران. وثالث نموذج أذكره من الأعوام الأخيرة فقط وهو تعامل السلطات الأمنية مع احتجاجات المواطنين الفرس في أصفهان والأخرى في عربستان عام 2021 حيث لم يُقتل أحد في الأولى، بل وتم بث احتجاجاتهم ضد تجفيف الأنهر من التلفزيون الرسمي، فيما قتلت قوات الأمن 13 واعتقلت ثلاثة آلاف عربي في مختلف مدن عربستان، احتجوا للموضوع ذاته.
هذا يعني أن العربي في جنوب إيران، وعلاوة على التمييز السياسي والاقتصادي والبيئي والثقافي واللغوي، يواجه تنكيلاً سيكولوجياً يتمثل في صراعه اليومي مع الأقلية غير الفارسية المتشبعة بعدائه في الإقليم، وكذلك تعرّضه للإساءة والتحقير في الكتب والإعلام والملاعب والمناسبات والتظاهرات في طهران، التي يُردد فيها وبصراحة هتاف “الموت للعرب”. فإن كل هذه الأمور، وعلى الرغم من مرارتها، تشحذ الإحساس القومي والوطني لدى المواطن الأحوازي كي يتحرك ويناضل باندفاع أكثر من أجل حقوقه المغصوبة.
اندبندت عربي