خلال الحرب الباردة، كان التجسس أهم مصدر للمعلومات عن العدو، إلى جانب التنصت وغيره من الوسائل. وكانت المعلومات الدقيقة نادرة، سواءً في الكم أو النوعية.
أما اليوم، فإن كمية «الداتا» المتوفرة في العالم الافتراضي أصبحت قادرة على إغراق المستهلك، بحيث إنه لم يعد قادراً حتى على معالجة هذه المعلومات وتنقيتها، ومن ثم توزيعها للاستعمال واستغلال مضمونها. لكن المشترك بين الأمس واليوم فيما خص روسيا، أو الاتحاد السوفياتي، هو تلك الصورة التي كانت تنشر عمداً أو بهدف البروباغندا، والتي تعبر أو تعكس توزيع القوة والتوازنات داخل الكرملين.
فعلى سبيل المثال، إذا نشرت صورة لاجتماع المكتب السياسي السوفياتي في حقبة الحرب الباردة، فهي كانت تدرس من قبل الغرب على أنها مصدر معلومات مهم جداً.
– لكن كيف؟
كانت الصورة تعبر عن التراتبية في المكتب السياسي، وذلك حسب القرب أو البعد لمسؤول ما عن القائد العام على طاولة الاجتماع. فكلما بعد كرسي هذا المسؤول عن كرسي الزعيم، كانت أهميته أقل، مقارنة بالمسؤول الأقرب. أما إذا غاب مسؤول معروف عن الاجتماع ككل، فهذا يعني أن دوره قد انتهى ضمن المجموعة الحاكمة.
تساءل كثيرون، مؤخراً، عن غياب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عن الصورة العامة للحرب، خاصةً بعد تعثر العمليات العسكرية حول كييف. وفجأة، عاد بشكل مختلف مع دور خجول.
– هل لا يزال النمط القديم السوفياتي ساري المفعول مع روسيا اليوم؟
الإجابة نعم، وهناك حالتان مهمتان وهما:
• الأولى، خلال تجربة الصاروخ العابر للقارات «سارمات». يجلس الرئيس بوتين يراقب الإطلاق ويوجه التهديدات للغرب، مع أنه كان قد أبلغ سابقاً الولايات المتحدة بموضوع التجربة. وفي نفس الوقت، كل ضباط الأركان مع وزير الدفاع يتابعون الإطلاق. تذكرنا هذه الصورة بتجارب كوريا الشمالية للصواريخ الباليستية تحت أنظار كيم جونغ أون. كما أننا لا نجد هذه الصورة في دول العالم الغربي.
• الثانية، وهي الأهم، والتي تعكس عملية اتخاذ القرار العسكري والسياسي في روسيا ومركزيته في يد بوتين، وهي التي قد تكون أحد أهم أسباب تعثر عملية الهجوم على أوكرانيا، أي القيادة من فوق، من المستوى الاستراتيجي إلى المستوى التكتيكي، مروراً بالعملي. وقد تفسر هذه الصورة سبب مقتل أكثر من جنرال روسي في الحرب. في الصورة الثانية – الفيديو – يقول الرئيس بوتين لوزير دفاعه، بعدما تخلى عن حذره تجاه خطر جائحة «كوفيد – 19»، حين جلس على مسافة لا تزيد عن المترين عن شويغو، ما يلي: «يجب إيقاف عملية السيطرة على معمل آزوفستال في ماريوبول. طوقوا المعمل بطريقة لا يدخل إليه أو يخرج منه حتى الذبابة». فهل هذا خطأ؟ عادة، يجب على وزير الدفاع أن يشرح حالة مسرح الحرب للقيادة السياسية، ويقدم لها مقترحاته والتي قد تكون عبر 3 سيناريوهات ممكنة، ليختار منها الرئيس ما يراه مناسباً، أو حتى قد يبتكر الرئيس حلاً لم يقدم له.
– أين كل هذا من المعركة الفاصلة في إقليم دونباس؟
عين قائد جديد للعملية في دونباس، وتم تحضير القواعد اللوجيستية في الداخل الروسي الملاصق للحدود مع أوكرانيا – بلغورود. ويتم تحضير العديد اللازم لشن المعركة الفاصلة، وفي نفس الوقت تقصف تقريباً كل المدن الأوكرانية المهمة (لفيف، خاركيف وأوديسا).
فهل ستتكرر الأخطاء القيادية في المعركة القادمة كما كانت في المرحلة الأولى؟ وهل يمكن للقائد العسكري الجديد، ألكسندر دفرنيكوف، أخذ المبادرة على مستوى المسرح دون الرجوع إلى من هم فوق؟
الجواب على هذه التساؤلات هو كالتالي: لا يمكن تغيير الثقافة الاستراتيجية بين ليلة وضحاها لجيش من المفروض أن يكون الأحدث في العالم. إلا إذا كانت سياسة الأرض المحروقة هي الوسيلة الوحيدة للتعويض.
الشرق الاوسط