يمر العالم أجمع بمرحلة دقيقة وحساسة سوف تؤثر لا محالة على مستقبل العالم، الأمر الذي يجعل الحكومات والأنظمة والشركات والمنظمات والقوى غير الحكومية حذرة وقلقة من أي قرار أو اصطفاف تقوم به اليوم، فلكل قرار نتائجه المستقبلية الإيجابية أو السلبية وفق شكل النظام العالمي المستقبلي وتوازنات القوة به.
العلاقات المتوازنة
في حين تتضاعف المخاوف والتحذيرات لدى الأنظمة ذات العلاقات المتوازنة أو شبه المتوازنة مع طرفي الصراع، كما في دول آسيا الوسطى وكذلك في الدول الإسكندنافية وأخيرا كما في الحالة الإيرانية والتركية وبدرجة أقل كما في حالة بعض الدول الخليجية.
ففي حين نلحظ حسم الدول الإسكندنافية لموقفها نحو الانضمام لحلف الأطلسي، نجد ترددا واضحا في توجهات سائر المجموعات والدول الأخرى التي أشرنا لها ولاسيما إيران، التي سوف تسلط المقالة الضوء عليها وحدها نظرا لصعوبة الحديث عن جميع هذه الدول في سياق واحد.
ترفع إيران شعارات سياسية شعبوية حاسمة وواضحة لها تفسير واحد ووحيد كما في شعاري “الموت لأمريكا” و”الشيطان الأكبر”، اللذين يعبران عن عداء ضارب في الجذور بين النظام الإيراني المسيطر من جهة، والنظام الأمريكي من جهة أخرى.
وعليه قد يعتقد البعض أن خيارات إيران المستقبلية واضحة وجلية دون أدنى شك، لاسيما بعد الغزو الروسي وتصاعد العداء والصدام بين روسيا والمعسكر الغربي بقيادة أمريكا، وتصاعد المعركة الاقتصادية التي تحاصر روسيا اليوم والمفتوحة على إمكانية ضغط روسيا على أوروبا عبر النفط والغاز والكربون.
فتحالف أو تعاون إيران مع روسيا سوف يضيق خيارات أوروبا البديلة عن مشتقات روسيا النفطية، لاسيما إن عملت إيران على إثارة المخاوف الأمنية في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي، الأمر الذي يهدد سلامة صادرات المنطقة النفطية والغازية، وهو ما يشكل ضغطا إضافيا على دول الاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن مصادر توريد نفطية وغازية آمنة ومضمونة بأسرع وقت ممكن، كي يقاطع الصادرات الروسية ويشدد محاصرة الاقتصاد الروسي.
المشهد الإقليمي والعالمي
بنظرة متأنية للمشهد الإقليمي والعالمي السابق، نلاحظ طبيعة العلاقة الإيرانية- الأمريكية المعقدة منذ سيطرة الخميني على الحكم، التي مرت بموجات من الصدام في أحيان كثيرة لكنها لم تخل من التنسيق والدعم غير المباشر لاسيما في مرحلة الحرب العراقية- الإيرانية، وفي المرحلة التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق، وأحيانا في قضايا إقليمية أخرى. وكذلك نجد أن العلاقة الإيرانية- الروسية مضطربة وغير مستقرة أيضا، لدرجة مربكة جدا، فمثلا رفضت إيران المبادرة الروسية بشأن المساعدة في القضاء على تنظيم الدولة في العراق كبديل للمساهمة الأمريكية عقب تدخل روسيا في سوريا، في مقابل مطالبتها بدور واضح في سوريا، وإن لم تخل علاقتهما في سوريا من الصدام والتنافس الشديد في أحيان كثيرة أيضا رغم اتفاقهما على دعم النظام السوري. وكذلك نجد من خلال التدقيق في المباحثات حول التفاهمات الدولية السابقة والراهنة حاجة إيران لدعم روسي من ناحية أولى وقلقها وحذرها من الأهداف الروسية من ناحية ثانية، وهو ما كشفت عنه تصريحات وزير خارجية إيران السابق المسربة محمد جواد ظريف، حين اتهمها بالسعي لإفشال المباحثات. الأمر ذاته حدث في المفاوضات الراهنة لاسيما بعد رهن روسيا عودة التفاهمات النووية بحصولها على ضمانات تحمي بها مكتسباتها من الاتفاق، الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة الإيرانية.
لذلك تبدو إيران كأنها مترددة في اتخاذ موقف يضعها في تحالف أو تعاون مرحلي مع روسيا، حتى لو كان الهدف تقويض مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كمركز أوحد للنظام العالمي، فمن ناحية تبعث إيران برسائل متباينة لدول المنطقة والدول الفاعلة فيها، وخصوصا الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، من خلال تصعيد مضبوط على الحدود السعودية وانفتاح على هدنة مؤقتة وربما طويلة الأمد في اليمن، وكذلك من خلال التقارب السوري- الإماراتي، وفي عودة الحديث عن إمكانية استئناف المحادثات السعودية- الإيرانية في الفترة المقبلة.
كما تبعث إيران برسائل دولية بذات الوقت، تعبر بشكل غير مباشر عن مسعى إيراني يهدف إلى تحسين علاقاتها مع المعسكر الغربي والولايات المتحدة ضمنا، الأمر الذي يجعل إيران طرفا فاعلا أو مساهما في النظام العالمي ولو اقتصاديا فقط، كما في تصريحات وزير النفط الإيراني جواد أوجي التي يتحدث بها عن قدرة بلاده على تحقيق طاقتها الإنتاجية القصوى خلال شهر أو شهرين من رفع العقوبات عنها، وهو ما يساعد في ضبط أسعار النفط ويعوض النقص المحتمل منها نتيجة العقوبات المفروضة والمحتملة على روسيا. وأيضا نلاحظها في تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن تواصل المحادثات (الرسائل) غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بهدف حل الخلافات بينهما. وهو ما أكدته كذلك تصريحات وكالة الأنباء الإيرانية “إيرنا” وبعض المصادر المواكبة للمفاوضات النووية في فينا عن توصل أو قرب التوصل إلى اتفاق إيراني- أمريكي خارج الاتفاق النووي لإدارة المرحلة الراهنة، يمنح إيران جزءا من أموالها المحتجزة في كوريا الجنوبية ويمكنها أيضا من رفد الأسواق العالمية بمشتقاتها النفطية.
الخيارات الخارجية
إذا لا تبدو خيارات إيران الخارجية متطابقة مع تصريحاتها الشعبوية الرنانة، أو على الأقل لا يبدو الموضوع محسوما بشكل بديهي، وكأن النظام الإيراني يحاول استثمار أو استغلال هذه المرحلة، من أجل دمج إيران بالنظام العالمي الاقتصادي بالحد الأدنى وربما السياسي أيضا، ضاربا بعرض الحائط عشرات الشعارات والتصريحات المعادية لأمريكا وحلفائها على مستوى العالم. لكن وعلى صعيد مواز تبدو إيران مربكة قليلا، الأمر الذي يفسر ترددها حتى اللحظة أو على الأقل تقاربها البطيء مع الولايات المتحدة، فتقاربها معهم قد يعني طوي صفحة التقارب الإيراني- الروسي والإيراني- الصيني بشكل نهائي، لاسيما في ظل تصاعد الصدام بين المعسكرين، في ظل احتمال دخول الصين على خط الصراع مستقبلا عبر دعم روسيا أو عبر فتح ساحة مواجهة جديدة في منطقة المحيط الهادئ، وهو ما قد يخلط الأوراق ويعدل كفة الطرف المنتصر المائلة اليوم بقوة صوب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين.
بالمحصلة تؤدي الأحداث العالمية المتسارعة إلى تضييق هامش المناورة، الأمر الذي يفرض على إيران حسم خياراتها الخارجية بالقريب العاجل، فمرحلة المراوحة بين المعسكرين الشرقي والغربي شارفت على الانتهاء، وحان وقت حسم الخيارات شبه النهائية مع ما تحمله في طياتها من مخاطر ومكاسب، وهو ما قد يعجل من القرار الإيراني وربما تلحقها أو تسبقها دول أخرى لم تحسم اصطفافها بعد.
في الختام لابد من التأكيد على وجود خيار ثالث مستقل بجوهر تحرري ونضالي، يرفض تبعية الدول لأي من المعسكرين ويعمل على تشييد دولة وطنية تقدمية وبناء اقتصاد منتج متطور ومستقل حكما عن منظومة السيطرة العالمية شرقا أو غربا، لكنه خيار مستبعد من قبل غالبية؛ يمكن القول جميع؛ الأنظمة المسيطرة إقليميا وعالميا ومنها النظام الإيراني، كونه يتناقض مع مصالح الأنظمة (الطبقات) المسيطرة المتمثلة في زيادة ثرواتها الشخصية ونهب ثروات البلاد عبر توريدها بأسعار رسمية بخسه للمركز الاقتصادية الأكبر وبعمولات ضخمة سرية، الأمر الذي يحكم عليها بناء أنظمة تابعة لهذا الطرف أو ذاك.
القدس العربي