لا ينسجم صوت إسرائيل مع باقي الأصوات “الغربية” حول الأزمة الأوكرانية، حيث يرفض قادتها مواجهة فلاديمير بوتين الذي تربطهم معه مصالح استراتيجية واقتصادية، حتى لو كلفهم ذلك إغضاب الحليف الأميركي.
- * *
منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير)، تبنت إسرائيل موقفا سياسيا فريدا من نوعه وسط ما يسمى عادة بالـ”معسكر الغربي”. صحيح أنها صوتت (بعد تلكؤ) في الثاني من آذار (مارس) مع القرار الذي اعتمدته 141 دولة خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ومطالبة موسكو بسحب قواتها، لكنها رفضت تبني العقوبات الاقتصادية ضد موسكو وعدد من قادتها، كما رفضت مد كييف بمعدات عسكرية حتى وإن كانت “دفاعية”. بل لم تكن إسرائيل مستعدة حتى تاريخ كتابة هذه السطور لتزويد كييف بنظام الدفاع الجوي المسمى بـ”القبة الحديدية”، الذي تستخدمه ضد الصواريخ التي تستهدفها من قطاع غزة أو جنوب لبنان، ولم تقترح على الأوكرانيين أكثر من إرسال ملابس أو مستشفى ميداني. وأخيرًا، رفضت إسرائيل منذ بداية الحرب حتى كتابة هذه السطور دخول اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها.
بالتوازي مع ذلك، تسعى إسرائيل إلى أن تقدم نفسها على الساحة الدولية كوسيط بين موسكو وكييف. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، من بين الشخصيات الدولية النادرة التي استقبلها فلاديمير بوتين مطولا في موسكو، في الخامس من آذار (مارس). ووفق جريدة “فايننشال تايمز” في عددها الصادر في 16 آذار (مارس)، فقد قدمت إسرائيل لكل من الروس والأوكرانيين “خطة” من 15 نقطة لوضع حد لهذه الحرب(1).
غارات جوية على سورية
لا شك أن موقف إسرائيل متأثر جدًا بالمكانة التي تتمتع بها روسيا في الشرق الأوسط منذ العام 2015. وسبق وأن صرح وزير الخارجية (الذي سيصبح وفق اتفاق الائتلاف رئيسًا للوزراء) يائير لابيد، بأن “لإسرائيل حدودا مشتركة مع روسيا” منذ تدخل موسكو العسكري والقوي في الصراع الداخلي السوري، ما يفرض على إسرائيل عدم تجاهل هذه القوة السياسية. وعليه، تفاوضت إسرائيل على اتفاق تنسيق ضمني مع موسكو، يسمح لها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سورية، ومواكبة نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله في لبنان. وما يزال هذا الاتفاق قائماً حتى اليوم على الرغم من بعض العوائق الطفيفة، ما سمح لإسرائيل بشن مئات الغارات الجوية في سورية على مدار السنوات الخمس الماضية، ومؤخرًا، بتدمير مئات الطائرات الإيرانية من دون طيار في سورية.
هذا هو أساس الاتفاق الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ عليه من خلال رفض تبني العقوبات الدولية ضد موسكو. ويقول جيورا إيلاند، وهو لواء سابق ومدير سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي إنه “إذا قرر الروس قطع خط الهاتف الأحمر، فيجب أن نفكر في إمكانية مواصلة ضرباتنا في سورية من عدمها” (2). وقد تكون للخلاف مع موسكو عواقب وخيمة إذا قررت روسيا الرد على ذلك، على سبيل المثال، بالتشويش على إشارات الملاحة المخصصة للنقل العسكري، بل والأسوأ من ذلك، على تلك الإشارات الخاصة بالنقل المدني. كما تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية أن تؤدي استحالة استمرار إسرائيل في غاراتها الجوية على إيران في سورية إلى تحقيق “انتصار لحزب الله” اللبناني، الذي ستصل إمداداته من الأسلحة الإيرانية في تلك الحالة إلى مستوى لم تشهده حتى الآن. باختصار، لا يمكن لإسرائيل أن تخاطر بإغضاب الدب الروسي أكثر من اللزوم.
ثقل الأوليغارشية الروسية
لكن هناك سبباً آخر قد يفسر هذا التهاون الإسرائيلي تجاه موسكو. في الفترة بين 8 و11 آذار (مارس)، حلقت في سماء إسرائيل ما لا يقل عن 14 طائرة خاصة قبل أن تحط الرحال في مطار بن غوريون، قرب تل أبيب. وكان على متن هذه الطائرات عدد من الأثرياء الروس الذين ينتمون إلى الأقلية الحاكمة، برفقة عائلاتهم وأقاربهم، ولا شك أنهم كانوا يحملون في أمتعتهم أصولا مالية نجحوا في أخذها معهم. ونجد من بين هؤلاء رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي الإنجليزي، الذي نجح قبيل رحيله في الحصول على الجنسية البرتغالية، ليصبح بذلك أوروبياً، على أمل ألا تطاله العقوبات الأميركية والأوروبية. وفي الأثناء، قرر أبراموفيتش توخي الحذر وترك القارة الأوروبية للجوء إلى بيته في إسرائيل، علمًا بأنه تم فتح تحقيق ضده في البرتغال حول طريقة حصوله على جنسية هذا البلد من خلال شهادة زور.
يعود استقبال هذه الأقلية الثرية -التي تضم الكثيرين من المقربين إلى بوتين- إلى سببين؛ أولهما هو كون هؤلاء الأثرياء يهودًا، على عكس معظم عناصر الأوليغارشية الروسية، ما يجعلهم يستفيدون من “قانون العودة” الذي ينص على أن أي يهودي يحصل على الجنسية الإسرائيلية على الفور بمجرد استقراره في البلد. أما السبب الثاني، فهو بكل بساطة كون إسرائيل إحدى الدول “الغربية” القليلة التي لم تتبنّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات الأميركية والأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ذات بعد غير مسبوق حتى الآن، ولا العقوبات الموجهة بشكل خاص إلى الأوليغارشية الروسية.
روابط سياسية
غير أنه من غير الصعب تفهم دوافع القادة الإسرائيليين لحماية هؤلاء الأثرياء اليهود. فقد استقر بعضهم في إسرائيل بينما واصلوا امتلاك أصول مهمة في روسيا وحولها (في حين أن غيرهم يحملون الجنسية الإسرائيلية فقط ولديهم استثمارات في إسرائيل، وإنما من دون الإقامة فيها بشكل منتظم، مثل أبراموفيتش)، وقد جاؤوا بشكل أساسي من موسكو أو لينينغراد، ولكن أيضًا من كييف وطشقند وأماكن أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. وقد بلغ عدد هؤلاء العشرات، ودخلوا في علاقات تجارية مع العديد من السياسيين الإسرائيليين لما رأوا في ذلك من حماية إضافية، بينما وجد الإسرائيليون في هذه العلاقة صداقة مدفوعة الأجر -وبسخاء. فلو أخذنا مثلاً زعيم اليمين الاستعماري العلماني المتطرف في إسرائيل ووزير المالية الحالي ووزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، فإنه معروف بعلاقاته الكثيرة مع العديد من عناصر الأوليغارشية الروسية. وينطبق الشيء نفسه على وزير الإسكان الحالي زئيف إلكين. كما استفاد رئيس الأركان السابق بيني غانتس من مساعدة رجل الأعمال الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ لإطلاق شركته الأمنية الناشئة “البعد الخامس”.
على غرار فيكسيلبيرغ، استثمر أغلب عناصر الأوليغارشية الروسية الذين أصبحوا إسرائيليين في شركات محلية. لكنهم أسبغوا على العديد من السياسيين الإسرائيليين من كرمهم، إما من خلال تنصيب هؤلاء في مجالس إدارة شركاتهم، أو من خلال تمويل حملاتهم الانتخابية، أو كليهما. لكنهم اليوم -كما يشرح محامي الأعمال الإسرائيلي رام غاملئيل- يعيشون في “مناخ من الذعر” (3)، وليس شركاؤهم بمنأى عن التعرض إلى خسائر كبيرة. فحسب التقديرات، بلغ حجم مساهمة هؤلاء الأثرياء الروس خلال السنوات الثلاثين الأخيرة ما بين 5 و10 % من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ما يدفع إسرائيل إلى الحد قدر الإمكان من آثار العقوبات التي يتعرضون لها. وقبل يومين فقط من هجوم بوتين على أوكرانيا، منح أبراموفيتش مبلغ ثلاثة ملايين دولار لمتحف إسرائيل للهولوكوست، ياد فاشيم، وهو “توقيت من الصعب أن يكون مجرد صدفة”، كما كتب الصحفي الإسرائيلي أنشل بفيفر (4). حتى أن إدارة المتحف تواصلت في بادئ الأمر مع المسؤولين الأميركيين لمطالبتهم باستبعاد هذا الرجل المفيد للغاية للذاكرة اليهودية من العقوبات، قبل أن تغير رأيها في النهاية وترفض التبرع الذي قدمه أبراموفيتش.
“عمى أخلاقي وتاريخي”
لم يسفر موقف الحكومة من قضية العقوبات عن أكثر من ردود فعل قليلة لا تكاد تذكر في إسرائيل. وقد علق الصحفي نفسه، أنشل بفيفر، على ذلك بغضب، قائلا: “إن الموقف المخزي للقادة الإسرائيليين أمام ما قام به ديكتاتور من غزو لدولة مستقلة، والطريقة التي تجنب بها بينيت ذكر كلمة “روسيا” في خطاباته، والإدانات الضعيفة لوزير الخارجية يائير لابيد، جميع هذه المواقف تكشف عن عمى أخلاقي تاريخي” (5). وقد تجسد هذا الموقف المخزي وهذا العمى الأخلاقي أكثر من خلال موقف وزيرة الداخلية أييليت شاكيد (التي تنتمي إلى اليمين المتطرف العلماني)، والتي رفضت باستمرار قبول اللاجئين الأوكرانيين، خاصة أولئك الذين لا يستجيبون لمعايير اليهودية الأكثر صرامة. ثم غيرت الوزيرة رأيها، واقترحت قبول اللاجئين غير اليهود، شريطة أن تدفع العائلة الإسرائيلية المضيِّفة مبلغ 10 آلاف شيكل (حوالي 3.100 دولار) كضمان في حالة عدم مغادرتهم البلاد قبل انقضاء فترة ثلاثة أشهر. كما حرمت شاكيد اللاجئين من الحصول على الرعاية الصحية، باستثناء “حالات الطوارئ”. ومع بداية موجة استنكار أمام هذه التدابير -حيث وصف وزير الصحة نيتسان هورويتز (ينتمي إلى اليسار الصهيوني) هذه القرارات بـ”المخجلة”-، تم أخيرًا استقبال حوالي 12 ألفا و600 لاجئ أوكراني، ثلثاهم من غير اليهود، بينما رُفض استقبال ألف آخرين.
انتقد عدد قليل فقط من الشخصيات السياسية موقف الحكومة التصالحي تجاه بوتين، وظل الجدل السياسي في إسرائيل متواضعًا للغاية. فقد اعتبر وزير الدفاع السابق موشيه يعلون (الذي ينتمي إلى حزب الليكود) أن الحكومة بالغت في حجم المخاطر التي ستنجم عن إظهار الدعم لأوكرانيا، وأن إسرائيل تتمتع بوسائل عدة لتجاوز الدعم الروسي في سورية وتنفيذ ضرباتها هناك. كما أنكرت وزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، على الموقف الرسمي تقديمه للوضع على أنه خيار صعب تواجهه إسرائيل بين “مصالحها الأمنية” و”قيمها الديمقراطية”، وقالت: “يجب أن نكون على الجانب الصحيح من التاريخ، وهو ليس جانب بوتين”. ولكن، أمام انقسام المعارضة، لم يكن لهذه التصريحات سوى صدى قليل على المستوى السياسي.
“خطة للسلام” أم استسلام؟
سمح هذا الوضع لرئيس الوزراء بإحراز تقدم واقتراح “خطة للسلام” في 16 آذار (مارس). ومن دون الخوض في التفاصيل، كان من شأن هذه الخطة أن تضمن تخلي أوكرانيا عن انضمامها إلى حلف الناتو وعن تواجد أي قاعدة عسكرية أو قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي على أراضيها، في مقابل أن تحظى بحماية دول حليفة مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو تركيا، وهي كلها دول أعضاء في الناتو. وليست طبيعة الضمانات التي قدمتها هذه الخطة لأوكرانيا واضحة، كما أنها لم تتطرق إلى مستقبل الأراضي الأوكرانية التي ضمتها موسكو سابقًا (القرم ودومباس). ومن جهتها، استقبلت روسيا هذه “الخطة” بشكل إيجابي، ولكن من دون أي حماس. بيد أن أحد المقربين من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرح لصحيفة “فاينانشال تايمز” أنه لن يتم توقيع أي اتفاق من دون الإجلاء الكامل للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. وقبلها بأيام قليلة، كان نفتالي بينيت قد اقترح على الرئيس الأوكراني قبول اقتراح وقف إطلاق النار الروسي. لكن الأوكرانيين رأوا فيه “مطالبة بالاستسلام” (6)، وأبلغوا الإسرائيليين بأنهم يعتبرون وساطتهم غير مجدية ابتداءً من ذلك اليوم.
من جهتها، عبرت واشنطن عن امتعاضها -بل وحتى عن سخطها- من المسافة التي وضعتها “حليفتها المفضلة” في الملف الأوكراني. وقد راسل ثلة من نواب الحزب الديمقراطي -وهم ستيف كوهين وماريا إلفيرا سالازار وتوم مالينوفسكي- البيت الأبيض، قائلين “إن معاقبة أبراموفيتش باتت أمرا ملحاً” وإنه وجب “تكريس جميع الوسائل” للاستيلاء على الأموال التي يضعها رجل الأعمال الروسي في خدمة مصالح بوتين، حتى “يتم استعمالها في الدفاع عن أوكرانيا، وفي إعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وفي إعادة بناء البلد”. وجاء أكثر الانتقادات شدة على لسان فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، التي صرحت في حوار لها على القناة الإسرائيلية رقم 12، بقولها: “يجب علينا أن نضغط على نظام بوتين، وأن نحول بينه وبين جميع العائدات التي يحتاجها، وأن نضغط على الأثرياء المقربين منه”، مضيفة أنه من المؤكد أن إسرائيل “لا تريد أن تصبح آخر ملجأ للمال القذر الذي يغذي حروب بوتين”. وختمت نولاند حديثها قائلة إن التزام إسرائيل بالعقوبات الدولية هو أهم بالنسبة لواشنطن من جهود الوساطة التي يقوم بها رئيس وزرائها. ووفق آرون ديفيد ميلر، أحد العناصر البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هذه التصريحات تمثل “أقسى هجوم يشن من طرف واشنطن على السياسة الإسرائيلية منذ وقت طويل جدًا” (7). - الغد