مبادئ كيسنجر”.. هل تنقذ ما بقي من أوكرانيا؟

مبادئ كيسنجر”.. هل تنقذ ما بقي من أوكرانيا؟

نقاش كبير وتكهنات مختلفة تعجّ بها واشنطن فيما يتعلق بمستقبل أوكرانيا بعد تعرضها للغزو الروسي قبل أكثر من شهرين. وفي الوقت الذي لا يعرف فيه أحد كيف للحرب أن تنتهي وسط محاولات الطرفين الروسي والأوكراني تحسين وضعهما الميداني عسكريا لأهمية ذلك في أي مفاوضات جادة لوقف القتال والاتفاق على تسويات مستقبلية، يغيب اليقين عن أي تقدير لتوقيت أو ظروف وقف القتال. ويستمر القتال بهدف تحسين الموقف التفاوضي لكل طرف، وهو ما عبّر عنه بصراحة ووضوح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقوله لوكالة “إنترفاكس” قبل أيام إن “كل شيء سينتهي بالطبع بتوقيع اتفاق، لكن شروط هذا الاتفاق ستعتمد على الوضع القتالي على الأرض”. من المؤكد أن الولايات المتحدة ستضطر إلى قبول تسويات ستراها النخبة الأميركية غير عادلة، وإن كانت واقعية للجانب الأوكراني ولم يتغير الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا مع تبنّي إدارة جو بايدن موقفا واقعيا يستبعد أي مخاطرة بمواجهة مباشرة مع روسيا، وحساب درجات الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا كي لا يدفع إلى صراع عسكري مباشر مع موسكو بما يحمله ذلك من مخاطر التصعيد تجاه مواجهة نووية لا يسعى إليها أحد. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستضطر إلى قبول تسويات ستراها النخبة الأميركية غير عادلة، وإن كانت واقعية للجانب الأوكراني.

ومثّل الرفض الأميركي الحاسم لمطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وضغوط لفرض منطقة حظر جوي فوق سماء بلاده أو مدّ جيشه بطائرات مقاتلة هجومية مقدمة لواقعية واشنطن تجاه سيناريوهات وقف الحرب، وذلك على الرغم من استمرارها في دعم أوكرانيا عسكريا واقتصاديا لتكبيد روسيا أكبر خسائر ممكنة.

وسيعكس أي اتفاق ينتج عن محادثات السلام بين أوكرانيا وروسيا نهجا واقعيا في السياسة الأميركية، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر عام 2014، وخيّب آمال مؤيدي أوكرانيا داخل الولايات المتحدة وخارجها حينذاك، وتتجاهله النخبة الأميركية في سياق الصراع الجاري.

وفي الوقت الذي تلقي فيه واشنطن كل اللوم في الحرب على شخص واحد هو الرئيس الروسي بوتين، يمكن استرجاع رؤية هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق، الذي حذر من الانزلاق لمواجهة غير مفيدة مع روسيا وإمكانية تجنب أي صراع حول أوكرانيا أو فيها.

كتب كيسنجر عقب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 مطالبا إدارة الرئيس باراك أوباما بضبط النفس، فأكد أن المواجهة المباشرة مع روسيا ليست في مصلحة الولايات المتحدة، وأن القيمة الإستراتيجية لأوكرانيا محدودة.

ولم تتغير أي من هذه الحقائق لدى واشنطن على مدار السنوات الأخيرة أو بسبب التطورات الجارية، حيث إن مخاطر التصعيد ضد روسيا لا تزال مرتفعة جدا على الرغم من عدم أهمية أوكرانيا إستراتيجيا للمصالح الأميركية.

ومن دون انخراط الولايات المتحدة وحلف الناتو عسكريا في الحرب، من المرجح أن تضطر أوكرانيا إلى تقديم تنازلات وقبول بعض الشروط التي تريدها روسيا في أي اتفاق سلام. وقد يشمل ذلك أوكرانيا ذات الحدود الإقليمية المختلفة والعلاقة الأمنية مع روسيا التي لا يرغب فيها الأوكرانيون، وهو ما لن يختلف كثيرا عما اقترحه كيسنجر من مبادئ عامة لضبط علاقات أوكرانيا بروسيا في المستقبل.

وأقرّ كيسنجر أن مهارات السياسة الحقيقية تظهر في كيفية إنهاء الحروب وليس في إشعالها، وقال كيسنجر إنه “إذا كان لأوكرانيا أن تبقى على قيد الحياة وتزدهر، فيجب ألا تكون موقعا متقدما لأي من الجانبين ضد الآخر، الغرب أو روسيا، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما”، وأضاف “يتعين على الغرب أن يدرك أن أوكرانيا في نظر روسيا لا يمكن أبدا أن تكون مجرد دولة أجنبية عادية”.

وآمن كيسنجر أن روسيا لن تتمكن من فرض حل عسكري على أوكرانيا من دون عزل نفسها في وقت أصبحت فيه العديد من حدودها محفوفة بالمخاطر بالفعل

وانتقد كيسنجر شيطنة أميركا والغرب للرئيس فلاديمير بوتين، وعدّها عملا غير سياسي، بل رآها دليلا على غياب السياسة.

وعرض كيسنجر رؤية رباعية الأبعاد للحفاظ على أوكرانيا، وحفظ ماء وجه روسيا والغرب في الوقت ذاته معا على النحو الآتي:

أولا: أن يكون لأوكرانيا الحق في أن تختار بحرية توجهاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك السعي للانضمام للاتحاد الأوربي.

ثانيا: لا ينبغي لأوكرانيا أن تنضم إلى حلف الناتو على الإطلاق.

ثالثا: أن تتبع أوكرانيا نموذج فنلندا الحيادي الذي تقترب فيه من الغرب في كل المجالات، لكنها تتجنب بعناية استعداء روسيا.

رابعا: أن تقرّ روسيا بسيادة أوكرانيا على جزيرة القرم مع تمتعها وتمتع أسطولها بوضع خاص في قاعدة سيفاستوبول البحرية.

وأقرّ كيسنجر أن رؤيته هذه ما هي إلا مجموعة مبادئ عامة لن ترضي أيا من أطراف الأزمة، لكنها قد تعكس رضاء متوازنا بينهم.

قبل حرب 2014 كان أمام أوكرانيا خيار حاسم، إما اختيار الانضمام إلى حلف الناتو، أو اتباع سياسة الحياد. اختارت النخبة الجديدة في كييف حلف الناتو، واليوم تدفع أوكرانيا ثمنا باهظا نتيجة الاختيار الخاطئ لنخبتها، وتواجه دمارا كبيرا وربما فقدان مزيد من أراضيها.

ويبدو أنه كان من الممكن تجنب المأساة الأوكرانية التي تتكشف حاليا لو أن كييف ونخبتها الغربية الهوى اتبعت نصيحة شخص بخبرة هنري كيسنجر وواقعيته

الحزيرة