شهد شهرا مارس/آذار وإبريل/ نيسان سلسلة عمليات فدائيةفلسطينية ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، عمليات أربكت سلطات الاحتلال وأجهزته الأمنية. فعلى الرغم من أن الفعل المقاوم الفلسطيني لم يتوقف نهائياً منذ ما قبل النكبة وإلى الآن، لكنه يمر بحالات مد وجزر مختلفة، حيث يمارس الاحتلال اعتداءاته بكل أريحية في حالات الجزر، كالتطهير العرقي والتمييز العنصري تجاه الشعب الفلسطيني سواء في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ أو في الضفة الغربية وغزة، كما يتمادى في القتل والاغتيالات والتوسع الاستيطاني، إضافة إلى مصادرة الأراضي وتقطيع أوصال الجغرافيا الفلسطينية وتحويل التجمعات الفلسطينية إلى منعزلات منفصلة بعضها عن بعض، كي يصعب على سكانها التواصل في ما بينهم ويسهل على الاحتلال السيطرة والتحكم.
كل احتلال هو حالة عنفية تقوم بشتى أنواع العنف المتاحة وتحاول السيطرة على المُحتَل، ما يستوجب رد فعل عنفي (مقاوم) من المُحتَل لا يكافئه بالشدة، لكنه يتغلب عليه بالتأثير، فالمُحتَل يتفوق بقدرته على التحمل نظرا لتمسكه بحقوقه الطبيعية. بحالتنا الراهنة يغيب عن الشعب الفلسطيني وجود جسم سياسي يدافع عن قضيته ويحمل مشروعه الوطني التحرري الشامل لكل فلسطين، نظرا لعجز الفصائل الفلسطينية قاطبة عن تحقيقه أو على الأقل محاولتها وسعيها لتحقيقه، كما يعاني المُحتَل الفلسطيني من سعي عديد الأنظمة العربية والدولية إلى تصفية قضيته الوطنية التحررية.
نتيجة كل ذلك كان لا بد من تنفيذ العمليات الأخيرة، حالها حال العمليات الفردية السابقة أو اللاحقة لها. لكن ورغم تشابه أسباب وظروف عمليات المقاومة الأخيرة ولا سيما ذات الطابع الفردي منها، لكن هناك ما يميز العمليات الأخيرة عن نظيرتها السابقة لها، بمجموعة من المعطيات التي تجتمع لأول مرة بعضها مع بعض، وأهمها:
نفذت بعض العمليات الأخيرة من قبل فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، ففي ٢٢ مارس/ آذار أسفرت عملية طعن ودهس نفذها الأسير المحرر محمد غالب أبو القيعان في بئر السبع عن مقتل 4 إسرائيليين، ثم استشهد عقب إطلاق مستوطن مسلح النار عليه وسط المدينة. وتبعتها عملية فدائية نفذها كل من أيمن وإبراهيم اغبارية من مدينة أم الفحم في ٢٧ مارس، عبر استخدام الأسلحة الرشاشة في بلدة الخضيرة، جنوب مدينة حيفا، وأدت إلى مقتل اثنين من شرطة الاحتلال وجرح عشرة، وانتهت باستشهاد المنفذين. صحيح أن مشاركة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ بالمسار النضالي التحرري أمر معتاد وليس بجديد، إلا أنه انتقل من دور الإسناد والدعم وتقديم التسهيلات إلى التنفيذ المباشر، نتيجة سياسات الاحتلال القديمة والمستمرة القائمة على التهميش والإذلال والتطهير العرقي والفصل العنصري الممارس ضد مجمل الشعب الفلسطيني بما فيه حاملو “الجنسية الإسرائيلية”. وهذا ما بات الاحتلال يدركه من جهة وينكره من جهة أخرى، ويظهر ذلك واضحاً بحديث الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) يوفال ديسكين حول العمليات المسلحة الأخيرة بقوله: “الجمهور ملزم بفهم كيف نشأت هذه الأجواء المشجعة على تنفيذ عمليات. لا يوجد حافز أقوى من اليأس من أجل تنفيذ عمليات فردية، الشعور بـ’لا يوجد مستقبل’، وخصوصا أنه ليس ثمة ما يمكن خسارته بعد الآن”. وأضاف ديسكين أن “يأسا كهذا يميز الواقع في الضفة الغربية، وفي المجتمع العربي في إسرائيل، حيث يضاف هناك الشعور بأنهم لا يريدونني في الدولة، إلى جانب مشاعر التمييز والظلم، و غالبيتها مبررة ومثبتة”.
ثانياً: اتسمت جميع العمليات الست الأخيرة بالطابع الفردي واقتصر دور جميع الفصائل الفلسطينية على الإشادة والثناء على العمليات (باستثناء السلطة الفلسطينية المحافظة على موقفها المندد بأي عمل مقاوم منذ أوسلو وإلى الآن)، ولم يتبنَ أي فصيل من الفصائل أي عملية من العمليات، وهذا يعكس عجز الجسم السياسي الفلسطيني بمختلف تمثيلاته الفصائلية، وغياب إرادة مواجهة الاحتلال لديهم، بناء على حسابات التبعية المختلفة والقبول بالضغوط الممارسة عليهم، ما يجعلهم غير قادرين على تمثيل إرادة الشعب الفلسطيني بالأفعال وليس بالأقوال. نتيجة ذلك حاول الشباب الفلسطيني إيجاد حلول بأنفسهم، وهو ما يفضح عجز الفصائل التي تتمتع بإمكانيات تفوق إمكانيات الفلسطيني الفردية بأضعاف مضاعفة. كما أن نمط العمليات الفردية التي لا ترتبط بالعمل الفصائلي يفاجئ الاحتلال ويصعب على أجهزته الأمنية توقعها وتتبعها، فمن المستحيل على أجهزة الاحتلال اختراق كل المجتمع الفلسطيني فردا فردا.
على خلاف العمليات الفردية السابقة (كما في انتفاضة السكاكين ٢٠١٥ مثلاً)، اتسمت معظم العمليات الحالية باستخدام السلاح الناري، الذي يتطلب حالة من الإعداد والتخطيط أكثر من عمليات الطعن، بدءا من تأمين السلاح والقدرة على إيصاله رفقة منفذ العملية إلى موقع التنفيذ، خصوصا في ضوء التعقيدات الأمنية والمراقبة الحثيثة والإمكانيات التقنية التي يمتلكها ويستخدمها الاحتلال، وفي ظل دور السلطة الأمني في حماية الاحتلال. وهو ما يظهر قدرة عالية على التخطيط والتنفيذ الفردي.
رابعاً: موقع العمليات الجغرافي ضمن الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، وبمواقع محددة بهدف إيصال رسائل واضحة للاحتلال بشكل رئيسي إضافة إلى الأنظمة العربية المطبعة معه. حيث أوقفت العمليات الحياة في كافة المدن، وفي مقدمتها تل أبيب، التي يفاخر الاحتلال بها كمدينة لا تنام وتنبض بالحياة. إن الوصول إلى هذا العمق أظهر عجز الاحتلال بكامل أجهزته الأمنية عن التصدي لها، ما دفعه إلى تشديد إجراءاته الأمنية المشددة أصلا، فبعد أن كان يتفاخر بحالة الهدوء التي وصل إليها وبقدرته على السيطرة والتحكم رغم وجود ثغرات في جدار الفصل العنصري (التي يغض النظر عنها لرغبته في الحصول على عمالة فلسطينية رخيصة لا تتمتع بأي حقوق، وإثباتا لقدرته على إخضاع الشعب الفلسطيني والسيطرة عليه)، نجحت العمليات الأخيرة في كسر وهم الاحتلال الذي سارع لإغلاق الفتحات في الجدار، مدركاً أنه فشل في إخضاع الشعب الفلسطيني.
من زاوية أخرى وعلى الرغم من مميزات العمليات الفردية، إلا أنها تحمل في صلبها سلبية قاتلة، فالفردية والعفوية تعني غياب الاستراتيجية، ما قد يؤثر سلباً على ديمومة هذه العمليات، ويبقيها بحالة رد الفعل العفوي دون الوصول إلى رد الفعل التحريري، القائم على استراتيجية واضحة وتكتيكات متنوعة قادرة على تحقيق الهدف المنشود. فالجسم السياسي الفلسطيني بمختلف أشكاله، سواء السلطة الفلسطينية أو حماس أو الفصائل الفلسطينية الأخرى التي تدور بفلك السلطة وحماس، لم يعد قادرا على حمل المشروع الوطني التحريري، لا بل أصبح عائقا أمام هذا المشروع. بالنسبة للسلطة أصبح واضحاً للجميع أنها أنشئت بأهداف ومصالح صهيونية وإمبريالية، كي تكون أحد الأجهزة الأمنية الرديفة لأجهزة الاحتلال، وهو ما تؤكده السلطة وتتفاخر به على لسان رئيسها محمود عباس، الذي تفاخر في مناسبات عديدة بقيام الأجهزة الأمنية الفلسطينية بإحباط عمليات فردية مقاومة. أما حماس، فإن ارتباطها بشكل من الأشكال بالقرارين المصري والإيراني يجعلها تخضع للضغوطات الممارسة عليها من قبلهما، خدمة لمصالحهما وأحيانا خدمة لمصالح الاحتلال. أما باقي الفصائل، وتحديداً فصائل منظمة التحرير، فقد باتت مرتبطة ماليا بالمنظمة وغير مستعدة للاستغناء عن الفتات الذي تتلقاه منها، وعليه فهي تفضله على حمل مشروع تحرري، لذا اقتصر دورها على المطالبة الحثيثة والدورية بضرورة إحياء الميت (منظمة التحرير).
إن الوضع الفلسطيني المعقد يدفع الشعب الفلسطيني إلى خلق بدائل مبتكرة، لذا قد تكون العمليات الفردية بديلا مؤقتا، يضمن استمرار شعلة النضال، ويدفع إلى خلق جسم سياسي فلسطيني قادر على حمل المشروع التحرري المتصادم مع الاحتلال وداعميه الإقليميين والدوليين، رغما عن أشباح الجسم الفلسطيني القديم الذي ضاق أفقه وفقد بوصلته.
العربي الجديد