يشهد الشرق الأوسط سباقا باردا بين الدبلوماسية والرصاص، في سياق صراع شديد بين القوى الإقليمية الرئيسية المتنافسة على ملء الفراغ الناتج عن تراجع الدور الأمريكي. تلك القوى تسعى لتحقيق «تموضع استراتيجي جديد» يحقق لكل منها مزايا أفضل في توازن جديد للقوى داخل الإقليم، يحل محل التوازن القديم القائم على الهيمنة الأمريكية. القوى المتصارعة الرئيسية هي إسرائيل وإيران وتركيا، وتأتي بعدها بمسافة المملكة السعودية، وتمثل هذه القوى الأقطاب الأربعة الرئيسية المتنافسة على النفوذ في الشرق الأوسط حاليا. ميزان السباق بين الدبلوماسية والرصاص على الصعيد الإقليمي أصبح يميل أكثر لصالح الدبلوماسية، خصوصا مع النهج الجديد الذي تحاول تركيا أن تنتهجه، والهدنة السعودية اليمنية، والحوار السعودي- الإيراني الذي يجري في بغداد، ومحاولات تطبيع العلاقات بين الدول العربية وسوريا، واحتمالات حدوث انفراجة سياسية في لبنان بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
القوى التي تتنافس على النفوذ في الشرق الأوسط تتفق على أن تحقيق الاستقرار يستلزم «الوفاق السياسي» وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون تغليب الدبلوماسية على الرصاص
لكن هذا الميل لصالح الدبلوماسية لا ينفي استمرار اللجوء إلى الرصاص في العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية، واستعادة داعش لجزء من قوتها في سوريا والعراق ومصر وأفغانستان وليبيا، واستمرار استخدام السلاح لمحاولة تحقيق مكاسب سياسية لصالح الميليشيات في العراق، مع عرقلة محاولات تشكيل حكومة جديدة، واستمرار حدة الأزمة السياسية – العسكرية التي تحول دون تشكيل حكومة موحدة في ليبيا، مع تفاقم الانقسام المؤسسي الإداري والسياسي بين شرق ليبيا وغربها.
هذه الصورة المركبة تعكس ملامح عملية سياسية ما تزال قيد التشكل، ولم تكتمل بعد، تسعى خلالها القوى الإقليمية الرئيسية لبناء مراكز سياسية جديدة، تؤهل كل منها لأن تلعب دورا إقليميا أكبر مع استمرار تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وتتصف بتمرد قوى تقليدية حليفة مثل السعودية وإسرائيل وتركيا على الهيمنة الأمريكية، وانشغال روسيا في الحرب الأوكرانية التي تتحول تدريجيا إلى حرب استنزاف فعلية. القوى التي تتنافس على النفوذ في الشرق الأوسط تتفق أيضا على أن تحقيق الاستقرار يستلزم «الوفاق السياسي» وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون تغليب الدبلوماسية على الرصاص. ومن أجل أن تلعب كل من القوى الإقليمية الرئيسية دورا أكبر في مرحلة «ما بعد إعادة التموضع العسكري الأمريكي في المنطقة»، فإن كلا منها تحتاج للعمل على تحقيق ما يلي:
1- زيادة وزنها الإقليمي في معادلة القوة الاستراتيجية.
2- تخفيض حدة الأزمات السياسية والعسكرية التي تحول دون زيادة وزنها النسبي إقليميا.
3- بناء تحالفات جديدة تسهم في تعزيز قوتها الاستراتيجية، الخشنة أو الناعمة.
4- تحقيق أكبر قدر ممكن من الانسجام السياسي الداخلي، وتعزيز مصادر القوة المحلية.
ومن شأن تحقيق كل أو بعض هذه المتطلبات أن تصبح القوة الإقليمية الأكثر نجاحا أكبر من غيرها نفوذا، وأكثر قدرة على التأثير في التحولات المقبلة على المستوى الإقليمي، بمعنى آخر فإن تحقيق تلك المتطلبات يساعد القوى الإقليمية على بدء عملية «إعادة تموضع إقليمي» لملء الفراغ الدفاعي والاستراتيجي في المنطقة.
إيران
إيران وإسرائيل هما الأكثر قوة بين أقطاب التنافس الإقليمي الأربعة، سواء من حيث مقومات القوة الذاتية الناعمة والخشنة، أو قوة ومدى النفوذ الإقليمي، أو قوة التحالفات خارج الإقليم وعلى مستوى العالم ككل. وقد زادت إيران مجهودها على خطوط الهجوم في السنوات الأخيرة، فطورت قوتها الصاروخية والبحرية، واستطاعت تحقيق تفوق ملموس في صناعة الطائرات المسيرة أو المفخخات الطائرة، وأظهرت تقدما ملموسا أيضا في تقنيات الحروب السيبرانية، واستهدفت إسرائيل على وجه الخصوص، كما أنها تحافظ على استمرار التقدم في برنامجها النووي، بصرف النظر عن نتيجة مفاوضات العودة إلى الاتفاق الأصلي لعام 2015.
وعززت إيران قوة حلفائها المحيطين بكل من إسرائيل والسعودية، وهو ما أدى إلى استعراض هؤلاء الحلفاء لقدراتهم على تسخين خطوط المواجهة، خصوصا في جنوب لبنان في شمال إسرائيل، وفي قطاع غزة في الجنوب وعلى الحدود اليمنية – السعودية. وعلى الرغم من شدة الغارات الإسرائيلية على مواقع الميليشيات العسكرية الإيرانية، أو الحليفة لإيران في سوريا، فإن تنظيمات الحرس الثوري الإيراني أظهرت ديناميكية كافية لإحلال طاقات قتالية جديدة محل الخسائر التي تتعرض لها.
ومن الصعب جدا أن نتصور حلولا للأزمة السياسة الحالية في العراق أو اليمن أو لبنان، من دون تعاون إيران، فقد برهنت نتائج الانتخابات العراقية، وتوزيع القوة على الأرض بين الأجهزة الحكومية والميليشيات، أن القوى السياسية والتنظيمات المسلحة الموالية لإيران تستطيع أن تمارس دور «القوة المُعَطِّلة» للعملية السياسية. كما أنه ليس من المتوقع أن يفقد حزب الله والقوى المتحالفة معه القدرة على ممارسة الدور نفسه في لبنان. وتسعى إيران إلى زيادة وزنها الإقليمي من خلال الدخول في تحالف دولي مع كل من الصين وروسيا، ما يمنحها دورا رئيسيا في استراتيجية القوتين العالميتين على الصعيد الإقليمي. وفي حال انتهاء مفاوضات فيينا بشأن الاتفاق النووي نهاية ناجحة، فإن هذا من شأنه أن يعزز نفوذ إيران إقليميا، وهو ما تعمل إسرائيل على إجهاضه مبكرا بقدر ما تستطيع.
إسرائيل
أما بالنسبة لإسرائيل فإنها لم تتوقف يوما عن تحقيق تقدم في سباق التسلح الإقليمي يضمن لها مع ما تعهدت به الولايات المتحدة من التفوق العسكري النوعي الكامل في مواجهة كل خصومها الإقليميين. وقد حققت إسرائيل نقلة نوعية في الأسابيع الأخيرة بنجاح التجارب الميدانية لاستخدام «أسلحة الليزر» ضد الطائرات المسيرة والمفخخات الجوية، وغيرها. هذا النجاح يمكن اعتباره تغييرا في قواعد اللعبة الجوية التي تستخدم فيها الطائرات المسيرة لأغراض الهجوم أو الاستطلاع، وينقل المنطقة إلى سباق جديد من سباقات التسلح في ميادين «أسلحة الطاقة» التي يمثل الليزر واحدا منها، وتشمل أيضا أسلحة الموجات الكهرومغناطيسية، التي يمكنها إصابة الشبكات الكهربائية والإلكترونية بالشلل. ومن دون الدخول في تفاصيل القوة الخشنة الإسرائيلية؛ فإنها تملك أحدث وأقوى آلة عسكرية في المنطقة، وواحدة من أكثر القوى العسكرية تدريبا وكفاءة في العالم. وعلى الرغم من أن إسرائيل تتمتع بمقومات قوة ناعمة كبيرة على المستوى العالمي، خصوصا في الولايات المتحدة، من خلال منظمات الضغط وأجهزة الإعلام والتمويل، فإن نقطة ضعف إسرائيل الأساسية هي أيضا في ميدان القوة الناعمة، وهو ما يفسر الفزع الإسرائيلي مما تدعيه من زيادة وانتشار موجة عداء للسامية في العالم، التي تعكس في جوهرها عداء للسياسة الإسرائيلية، وفي القلب منها سياسة التمييز ضد الشعب الفلسطيني.
وقد استطاعت إسرائيل تحقيق اختراق كبير على الصعيد الإقليمي بتكوين كتلة سياسية إقليمية حليفة لها بعد توقيع ما يسمى «اتفاقيات إبراهام»، التي تهدف إلى إنشاء حلف معادٍ لإيران في المنطقة العربية تحت قيادتها.
تركيا
تحاول تركيا العودة إلى ممارسة النفوذ في الشرق الأوسط عبر أكثر من بوابة، وعلى أساس الانطلاق من سياسة خارجية جديدة تتجاوز خطوط الخلافات الحمر التي استمرت لمدة 7 سنوات تقريبا. وخلال الفترة منذ عام 2013 وحتى 2020 لعبت تركيا دورا رئيسيا في عدد من مراكز الصراع في الشرق الأوسط مثل سوريا وليبيا والعراق وشرق المتوسط، وقد طورت صناعة عسكرية مهمة خصوصا في إنتاج الطائرات المسيرة، لكن حدة الاستقطاب التي شهدها الشرق الأوسط خلال الفترة منذ عام 2013 حتى الآن لم تعد تحتمل استمرار سياستها الإقليمية السابقة، وهو ما أدركه الرئيس التركي أردوغان. وقد بدأت تركيا مراجعة سياستها الخارجية في الشرق الأوسط خلال العامين الأخيرين مراجعة جدية. وتأسيسا على الوعي بحقائق الوضع الحالي، فإنها تسعى لتبني سياسة جديدة في الشرق الأوسط من خلال إطلاق حوارات سياسية مع كل من إسرائيل والسعودية والإمارات، كما تدعو أيضا إلى حوار جاد مع مصر، لإعادة بناء علاقة صحية لمصلحة الطرفين. ومن خلال هذا الحوار تمكنت، إلى حد كبير، من تصحيح مسار العلاقات مع الإمارات، وحصلت منها على مساعدات مالية واقتصادية، وما يزال عليها أن تقطع خطوات أكبر لتصحيح علاقاتها مع إسرائيل والسعودية ومصر. وسوف يتطلب ذلك مزيدا من الخطوات لتصحيح مسار السياسة التركية تجاه العراق وسوريا وليبيا، من أجل تحقيق المزيد من القبول لها في العواصم العربية الرئيسية، ولا شك في أن التزام السياسة الإقليمية والعمل على حل الخلافات الثنائية بالطرق الدبلوماسية، يساعد على تحسين صورتها، وزيادة قبول سياستها، خصوصا في أبوظبي والرياض والقاهرة. وكلما سارت الأمور في الشرق الأوسط باتجاه تغليب الدبلوماسية فإن ذلك من شأنه أن يساعد على تقريب حلم «الوفاق السياسي» البعيد المنال، أما إذا استمر اللجوء إلى الرصاص فإنه ينذر بتكريس حالة الانقسام الإقليمي واستمرار الحروب بالوكالة، وإشعال سباق التسلح، ونشوب حرب باردة طويلة الأمد.
القدس العربي