مضى أكثر من أربع سنوات على انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق البرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من اعتراف الرئيس الأميركي، بايدن، في حملته الانتخابية إبّان انتخابات الرئاسة التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 بأن قرار الانسحاب الأميركي، والذي اتخذه الرئيس السابق، دونالد ترامب، عام 2018، كان خطأ كبيرا، وعد بتصحيحه إذا أصبح رئيسا للولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يحدُث بعد، على الرغم من مضي أكثر من عام على دخول بايدن البيت الأبيض. صحيحٌ أن إدارة بايدن دخلت بالفعل في مفاوضاتٍ غير مباشرة مع إيران، عن شروط العودة الأميركية إلى هذا الاتفاق وإجراءاتها، وصدرت تصريحاتٌ رسميةٌ تؤكّد اكتمال الجوانب الفنية لهذه المفاوضات، غير أن القرار السياسي بالعودة لم تتّخذه بعد إدارة بايدن. فما السبب؟
إيرانيًا، ذكرت منصة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إن القضايا العالقة في مفاوضات فيينا الرامية لإنقاذ الاتفاق النووي لعام 2015: «لا تقتصر» على إلغاء العقوبات المتعلقة بـ«الحرس الثوري»، وذلك في مقال طرح تساؤلات حول احتمال فشل مفاوضات فيينا، في رد ضمني على تقارير كشفت عن توجه أوروبي لمطالبة إيران بتوقيع اتفاق فيينا، دون تلبية شرطها برفع «الحرس الثوري» عن قائمة الإرهاب، بينما يخشى الغربيون من انهيار المحادثات المتعثرة منذ نحو شهرين.
وألقت وكالة «نور نيوز» التي تعكس مواقف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أمس، باللوم على الإدارة الأميركية؛ لأنها «تعاند» في «التغاضي» عن حل العقبات المتبقية في المفاوضات.
ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأحد، عن مصدرين، أن المنسق الأوروبي لمحادثات فيينا، إنريكي مورا، يترقب دعوة إيرانية لزيارة طهران، في محاولة لكسر الجمود وإقناع المسؤولين الإيرانيين بالتوقيع على النص النهائي دون شطب «الحرس الثوري» من قائمة المنظمات الإرهابية.
وشككت وكالة «نور نيوز» في تقرير الصحيفة الأميركية، قائلة: «لم تؤكد مصادر مستقلة هذه المعلومات»، واعتبرته «محاولة لإظهار عدم تغيير الموقف الأميركي المتغطرس الذي يصر على هذه الفرضية الخاطئة بأن على إيران التراجع عن موقفها المبدئي للتوصل إلى اتفاق».
وأضافت الوكالة التي تنشر عادة تعليقات دون أن تحمل أسماء، أن «إيران أعلنت مراراً: يجب على الطرفين السعي لاتفاق قوي وعادل ومستدام، لكي يقلل من مخاوف الغرب إزاء البرنامج النووي الإيراني السلمي، وتهيئة الظروف المناسبة لاستفادة بلدنا من المصالح الاقتصادية للاتفاق». وتابعت: «على هذا الأساس تم تحديد الخطوط الحمر للفريق المفاوض النووي». وأكدت: «مجموعة تعامل الفريق النووي مع الأطراف الأخرى في المفاوضات تجري وفق الخطوط الحمراء».
ورفع «الحرس الثوري» من قائمة الإرهاب أمر يواجه معارضة داخلية أميركية، من الديمقراطيين والجمهوريين، وشاهدنا جلسات استماع قاسية للمسؤولين الأميركيين حيال الملف الإيراني. كما قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ: «إن (فيلق القدس) التابع لـ (الحرس الثوري) الإيراني منظمة إرهابية، ولا أؤيد شطبه من القائمة».
وهناك معارضة شديدة من الدول المحورية في منطقتنا، ورغم محاولة الأوروبيين لإيجاد مخرج لذلك من باب الحديث عن جناح عسكري وآخر سياسي لـ«الحرس الثوري»، وعلى غرار ما فعلته بعض الدول الأوروبية، سابقاً، تجاه «حماس» و«حزب الله».
ورغم كل ذلك فإن الإدارة الأميركية في حالة تردد حقيقة خشية تداعيات رفع «الحرس الثوري» من قوائم الإرهاب على نتائج الانتخابات النصفية القادمة، وهناك تسريبات إعلامية بأن إدارة بايدن لن ترفع «الحرس الثوري» من القائمة.
إسرائيليًا، لم تُخف إسرائيل قط انزعاجها وقلقها من الاتفاق الذي وقعه الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما، عام 2015، ما دفعها إلى ممارسة كل ما يمكن وما لا يمكن تصوّره من وسائل الضغط لحمله على التراجع، قبل التوقيع عليه وبعده، إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في ذلك الوقت، قرّر الذهاب بنفسه إلى مبنى الكابيتول، لإلقاء خطاب أمام أعضاء الكونغرس، بمجلسيه، هاجم فيه الاتفاق الذي وصفه بأنه ينطوي على “تهديد وجودي” لإسرائيل، كما هاجم أوباما شخصيا في الوقت نفسه! صحيحٌ أن حملته للضغط على أوباما فشلت، لكن نتنياهو سرعان ما حصل على الجائزة الكبرى، حين تمكّن ترامب من الفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016. وبالتالي، لم يكن في حاجةٍ إلى ممارسة ضغوط كبيرة على القادم الجديد للبيت الأبيض، لإقناعه بالانسحاب من الاتفاق.
يبدو أن اندلاع الأزمة الأوكرانية، وتصدّرها قائمة الأولويات على جدول أعمال إدارة بايدن في الشهرين الماضيين، صبّ في مصلحة الحكومة الإسرائيلية، فقد تظاهرت إسرائيل، في البداية، باتخاذ موقف الحياد من الأزمة، بل وسعت حكومة بينت إلى القيام بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذي أزعج الإدارة الأميركية كثيرا، ودفعها إلى ممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيلية، لحملها على تغيير موقفها والاستجابة للطلبات الأوكرانية بتزويدها بأنواع متقدّمة من الأسلحة، ومنها القبة الحديدية وأنظمة التجسّس المتطورة. ويبدو أن حكومة بينت وجدت في هذه التطورات المتسارعة للأزمة الأوكرانية، خصوصا بعد أن تبيّن لها أن الإدارة الأميركية مصمّمة على إلحاق هزيمة قاسية بالرئيس الروسي، بوتين، على الساحة الأوكرانية، فرصة للمساومة والعمل على إقناع إدارة بايدن، في المقابل، بعدم التعجّل في العودة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني. وإذا صحّ هذا الاستنتاج، فقد يفسّر ذلك جانبا من أسباب حالة الجمود التي طرأت فجأة على مفاوضات فيينا، بعد احتدام الأزمة الأوكرانية.
أما إيرتيًا، فتحت الأزمة الأوكرانية من مسارات جديدة في السياسات الدولية على المستويين السياسي والاقتصادي، قد تكون عززت حظوظ الإجابة بالنفي عن السؤال/ العنوان، أي أن إيران ما عادت ترغب في العودة إلى الاتفاق النووي. مثل هذه الإجابة تمثل تياراً له حضوره في الموقف من عموم المفاوضات النووية مع الغرب حتى قبل التوصل إلى اتفاق عام 2015. فالتصريحات الشهيرة المسربة لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف توحي بأن قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، الذي قتلته واشنطن مطلع عام في العراق، لم يكن متحمساً للاتفاق، بل ويتهمه ظريف بأنه دفع إيران للتضحية بـ«الدبلوماسية وكثير مما كان من الممكن تحقيقه في الملف النووي من أجل التقدم في ساحة المعركة»، مشتكياً من وجود «جماعة في إيران ترى كل شيء من منظور أمني».
الأزمة الأوكرانية عززت عبر رسالتين بعثت بهما، موقف غير المتحمسين للاتفاق،
1- جاء قرار واشنطن بتجميد الأصول الروسية ومنع موسكو من الوصول إلى احتياطاتها خارج روسيا، وما تبعه من قرارات مماثلة من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وغيرها، ليعزز قناعة الإيرانيين بأن أي مكتسبات يمكن أن تحققها طهران عبر تنازلات استراتيجية، كالتنازل في الملف النووي، هي مكاسب هشة وغير محمية وعرضة «للقرصنة» عند أول خلاف جدي مع المجتمع الدولي. وبالتالي تفضل إيران انخراطاً أقل في النظام الاقتصادي والمالي الدولي وليس العكس.
كما أن تجربة إيران مع نتائج اتفاق 2015، لا سيما الاقتصادية، لا تقنع طهران، أو أقله الفريق غير المتحمس للاتفاق، بأن العائدات التي تحققت فعلياً تساوي ما كانت تراهن عليه الإدارة الإيرانية بغية إخراج البلاد من أسر الأزمة الاقتصادية التي عانتها على مستوى التضخم وانهيار العملة وتردي الخدمات.
2- تراقب طهران بدقة ردود الفعل الدولية على خطوات واشنطن وحلفائها وترصد استعدادات أكبر عند عواصم رئيسية في العالم، كبكين ونيودلهي، لمقاومة الهيمنة الغربية على قواعد عمل الاقتصاد الدولي، وتجرُّئِها على تحدي هذه القواعد من خلال عدم الالتزام بما يتقرر في واشنطن والعواصم الحليفة لها. تعتقد إيران أنه بوسعها الاستفادة من هذه الاتجاهات لتحدي الغرب وإيجاد مخارج لها من فخ العقوبات المفروضة عليها.
الملاحظ أن المسار الإيراني الإسرائيلي في تصعيد مستمر ميدانيًا وتفاوضيا تمارسه إسرائيل عبر حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة حالة من التحسن أو الانفتاح أو الانفراج الدبلوماسي على صعيد العلاقات الإيرانية السعودية ، وعلاقة تركيا بدول الخليج العربي وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، لذلك وحسب معلومات خاصة حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فإنه من المقرر خلال هذا الشهر أن يزور أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل الثاني، إيران، وحسب المعلومات الخاصة زيارة الأمير ستكون بمثابة وساطة إقليمية لاحداث انفراجة في مفاوضات فيينا، وقضايا العربية والإقليمة الأخرى وفي مقدمة تلك القضايا الشأن العراقي.
الحرب الكونية الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية لم تفصح بعد عن كل أسرارها وتداعياتها. لكن يبدو واضحا من المسار الذي سلكته أن لها أبعادا جيوسياسية واستراتيجية هائلة تهم مختلف القوى العالمية والإقليمية المتفاعلة على رقعة الشطرنج الدولية. لذا تبدو الولايات المتحدة مصرّة على الحيلولة دون تمكين روسيا من تحقيق أي نصر، ولو محدود، في الحرب على أوكرانيا، بل والعمل، بكل الوسائل الممكنة، لإلحاق الهزيمة بها إن أمكن. ولدى إسرائيل، أقرب حلفاء الولايات المتحدة إلى قلبها، ما يمكن أن تقدّمه لأوكرانيا، وما من شأنه إرضاء الولايات المتحدة في الوقت نفسه، غير أن لديها، في الوقت نفسه، مصالح على جانب كبير من الأهمية مع روسيا، خصوصا في سورية، ما سيحملها على التردّد كثيرا قبل أن تحزم أمرها وتقرّر الانحياز إلى أوكرانيا والانضمام إلى التحالف الغربي المعادي لروسيا في المرحلة الراهنة. ومع ذلك، ليس من المستبعد كليا أن تتخذ إسرائيل هذا القرار الصعب، خصوصا إذا ضمنت أن الثمن سيكون ضمان تغيير الولايات المتحدة لموقفها من العودة إلى البرنامج النووي الإيراني. وإذا حدث ذلك، يتوقع أن تدخل منطقة الشرق الأوسط في دوّامة جديدة قد تدفعها نحو حافّة حرب إقليمية شاملة، فهل الحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية هي الجزء الصغير الطافي من جبل الثلج، وأن ما خفي منها أعظم؟
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية