اجتماعات فيينا: تلازم المسارين السياسي والعسكري في الصراع السوري

اجتماعات فيينا: تلازم المسارين السياسي والعسكري في الصراع السوري

441

بعد ثلاثة أسابيع فقط على التدخل العسكري الروسي، تحرّك المسار السياسي المجمّد في المسألة السوريّة منذ فشل مؤتمر “جنيف 2” مطلع عام 2014؛ فقد شهدت العاصمة النمساوية فيينا في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 اجتماعًا يعدّ الأول الذي يجمع الدول الأربع الفاعلة في المسألة السورية، وهي: الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا. وأسفر هذا الاجتماع، الذي فشل أطرافه في التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا الأكثر استعصاءً وعلى رأسها مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد، عن توافقٍ على عقد اجتماعٍ موسعٍ آخر في فيينا في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 يضمّ جميع الدول الفاعلة أو ذات العلاقة بالمسألة السوريّة، بما فيها إيران. كما تمّ التوصّل إلى بيانٍ من تسع نقاطٍ عدّه بعضهم تطورًا مهمًا باتجاه ظهور إجماعٍ دولي وإقليمي على أسس الحل السياسي، فيما عدّه آخرون غير ذي قيمةٍ لأنه لم يتمكن من حسم مصير الأسد؛ إذ جرى تأجيل البحث في شأنه إلى اجتماعٍ ثالث يعقد في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

تحريك المسار السياسي

مع التصعيد الميداني الذي رافق التدخل العسكري الروسي في سورية، ازدادت المخاوف من تداعيات تحوّل المسألة السورية إلى صراع إرادات إقليمي ودولي قد يخرج عن نطاق السيطرة مع تعدّد الفاعلين من دول وتنظيمات وميليشيات. فالغطاء الجوي الروسي الداعم للنظام السوري والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه ذات الإدارة والإرادة الإيرانية، قابلهما زيادة في مستوى الدعم العسكري لقوات المعارضة على الأرض؛ ما أفشل الخطط الروسية في استعادة نقاط إستراتيجية في جبهات الشمال الغربي أو في محيط العاصمة دمشق. وكانت معارك ريف حماة التي اندلعت بعد أسبوع فقط من التدخل العسكري الروسي واستخدمت فيها صواريخ تاو (الأميركية الصنع) المضادة للدبابات على نطاق واسع أبرز دليل على مدى إصرار المعارضة السورية والدول الداعمة لها على إفشال أهداف موسكو الرامية إلى فرض معادلات ميدانية جديدة وحلٍ سياسي يبنى عليها. وهكذا اختزل أثر التدخل الروسي في هدفه الأصلي وهو إنقاذ النظام من السقوط.

وزادت المخاوف من حصول صدامات غير مقصودة بين قوات جوية لدول عديدة تحلّق في الأجواء السورية تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” احتمالات التصعيد، وبخاصة بعد أن وقعت بعض الحوادث مثل إسقاط تركيا طائرة من دون طيار (يعتقد أنها روسية) على حدودها مع سورية، واختراق الطائرات الروسية الأجواء التركية أكثر من مرة؛ ما زاد الحاجة إلى فتح مسارٍ سياسي يمنح جميع الأطراف فرصةَ التواصل لاحتواء أي تصعيد محتمل.

وربما دفعت خشية موسكو أيضًا من الانجرار إلى حرب استنزاف غير واضحة الأفق في سورية نحو تحريك مسار التسوية، في وقت بدأ فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السعي لإظهار مدى النفوذ والتأثير الذي بات يتمتع به في الشأن السوري نتيجة وجوده عسكريًا في قلب الصراع. وقد اتضح ذلك من الطريقة التي استدعى بها بوتين رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى موسكو لاطلاعه على أفكاره حول التسوية قبل أيام من اجتماع فيينا الرباعي.

تفاعلات اجتماع فيينا الموسّع

اتضحت خلال اجتماع فيينا الأخير ملامح جديدة لتفاعلات الصراع السوري، يمكن إجمالها بالآتي:

  • في ظل غياب أي طرفٍ سوري عن اجتماعات فيينا، سواء من النظام أو المعارضة، بدا واضحًا أنّ الحلّ لم يعد في متناول السوريين، بل أصبح شانًا إقليميًا ودوليًا. ويُرجّح أن ينتج هذا الحلّ، إن جرى التوصّل إليه، من توافق إرادات بين المحورين اللذين تكرّس وجودهما خلال الاجتماع. ويضم المحور الأول السعودية وتركيا وقطر، ويصرّ على وثيقة “جنيف 1” كإطار وحيد للحل، وعلى تسوية “عادلة” تفضي إلى هيئة أو إدارة انتقالية تقصي الأسد من المشهد السياسي ومن مستقبل سورية، وتبدأ بإعادة الإعمار. ويضم الثاني كل من روسيا وإيران، ويقترح وقفًا لإطلاق النار، ومفاوضات تفضي إلى حكومة تضم النظام وشخصيات معارضة تتولى إجراء انتخابات برلمانية، وأخرى رئاسية تضمن للأسد الترشّح فيها. إنّ إجراء أي انتخابات بوجود الأسد وهو يتحكم بأجهزة الأمن، وتقتصر على المناطق التي يسيطر عليها النظام، لن تختلف كثيرًا عن سابقاتها.
  •  اضطلعت الولايات المتحدة خلال اجتماع “فيينا 2” بدور “الوسيط” بين المحوريين السابقين. وبخلاف موقفها المعلن، نأت بنفسها عن السجالات أو ممارسة الضغط على روسيا لإقناعها إبداء مرونة تجاه القضايا الخلافية. وعلى المنوال ذاته، سارت أغلبية الدول العربية المشاركة؛ إذ تنتظر أية تسوية تتمخض عن مفاوضات الجانبين، بغض النظر عن شكل التسوية النهائية وتفاصيلها.
  • تمكّن حلفاء المعارضة من انتزاع تنازلٍ مهم في فيينا؛ إذ نص البيان الختامي الذي وقع عليه ممثلون عن سبع عشرة دولة على تسع نقاط، كان أبرزها الاتفاق على إجراء انتخابات “بإشراف الأمم المتحدة”، على أن يكون لكلّ السوريين، في الداخل والخارج، حقّ المشاركة فيها. وقد أثار هذا البند قلق النظام بعد أن وافق عليه أبرز حلفائه؛ أي روسيا وإيران والصين، الذين كانوا من الدول الموقعة على البيان، لأنّ مشاركة الأغلبية العظمى من السوريين الموجودين في الخارج في الانتخابات سوف تساهم في ترجيح كفة المعارضة إذا جرى الاتفاق على إجراء انتخابات. وتشير معظم التقديرات إلى أنّ نصف السوريين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حين يعيش النصف الآخر في مناطق المعارضة أو في بلاد اللجوء.
  • أظهر اجتماع فيينا مواقف أوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) أكثر حدّة تجاه التدخل العسكري الروسي مقارنة بمواقفها السابقة، أو بالموقف الأميركي التي اعتادت الدول الأوروبية السير على خطاه. ويعود ذلك إلى اقتناعٍ أوروبي بأنّ غارات موسكو لا تستهدف تنظيم الدولة، ولن تساهم إلا في إطالة أمد الصراع، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وفي هذا السياق، تشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ الضربات الروسية أجبرت أكثر من 120 ألف سوري معظمهم من ريف حلب على النزوح من مناطقهم إلى الحدود السورية – التركية، وينتظر كثير من هؤلاء فتح المعابر مع تركيا للانتقال إلى أوروبا والاستقرار فيها[1].

عودة إلى فيينا من بوابة حلب

بالتوازي مع المسار السياسي في فيينا، استمر حلفاء النظام في محاولة تحسين مواقعهم التفاوضية قبل العودة للاجتماع مجددًا منتصف هذا الشهر؛ وذلك عبر التصعيد ميدانيًا في حلب. ويعدّ ازدياد عدد القتلى من الضباط الإيرانيين وعناصر الحرس الثوري في ريف حلب الجنوبي مؤشرًا على شدة المعارك وضراوتها، واندفاع طهران وموسكو لتحقيق حسم عسكري في المحافظة بأي ثمن للاستفادة من الواقع الميداني الجديد وفرض رؤيتهما للحل في فيينا. وكان لافتًا تزامن هجوم تنظيم الدولة على ريف حلب الجنوبي ضد قوى المعارضة السورية، مع الهجوم الروسي – الإيراني في محافظة حلب نفسها.

تنبهت الدول المناوئة للمحور الروسي – الإيراني لأهداف الحملة العسكرية على حلب، وقدّمت دعمًا نوعيًا لفصائل المعارضة مكّنتها من إيقاف القوات المهاجمة عند خان طومان، واستعادت عددًا من القرى التي خسرتها في ريف حلب الجنوبي. كما وفّر سلاح الجو التركي، لأول مرة، غطاءً جويًا لبعض فصائل ريف حلب الشمالي، مثل جيش الشام وحركة نور الدين الزنكي وكتائب السلطان مراد، لصدّ هجمات تنظيم الدولة واستعادة بعض المواقع المهمة التي خسرتها مؤخرًا أمامه. وأكسب الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنميّة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فصائل المعارضة في إدلب وريف حماة الشمالي زخمًا معنويًا وسياسيًا دفعها إلى البدء بهجوم مضادّ ألحق خسائر كبيرة بقوات النظام، وأجبرها على الانسحاب من مواقع عديدة سيطرت عليها خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي مستفيدة من دعم ناري كبير قدمته روسيا عبر الجو والبحر.

خاتمة

على الرغم من الصعوبات التي تكتنف المفاوضات، يمكن أن يمثل مسار فيينا إطارًا جديًا لحل الأزمة يحظى بإجماع دولي وإقليمي، وبخاصة بسبب الصعوبات التي يواجهها المحور الإيراني – الروسي في تحقيق أي نتائج مهمة على الأرض بعد أكثر من شهر على بدء عمليات القصف الروسي، وبعد أن أرسلت إيران أعدادًا كبيرة من قوات الحرس الثوري للمشاركة في المعارك، خاصة في حلب. لكنّ الدول الرئيسة الداعمة للمعارضة تواجه تحديات بسبب محاولة روسيا وإيران زجّ مزيد من القوات لتغيير الوقائع على الأرض استباقًا للتسوية المحتملة، وكذلك بسبب “حيادية” الإدارة الأميركيّة ونزوعها لقبول أي حل يتماشى مع سياساتها في سورية وحربها ضد تنظيم الدولة؛ وهو ما يمنح روسيا وإيران هامش مناورة أكبر خلال جولات التفاوض القادمة. وحتى لا تصبح المفاوضات غطاءً سياسيًا لاستمرار العمليات العسكرية الروسية والإيرانية في سورية، لا بدّ من التوافق على نقاط أوليّة ضرورية أقلها تحييد المدنيين عن القصف خلال مرحلة التفاوض. من جهة أخرى، يبدو جليًا أنّ التدخل العسكري الروسي قد نجح في إحداث تقارب سعودي – تركي كبير، وهو معطى يمكن البناء عليه خاصة بعد فوز حزب العدالة والتنمية، لمساعدة المعارضة السوريّة بشقيها السياسي والعسكري على تنظيم صفوفها وتنسيق جهودها لمواجهة التدخل الروسي – الإيراني. ويمكن أن يكون الردّ الوحيد على مطلب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخير بتعريف “من هي المعارضة المعتدلة؟” هو توحيد المعارضة السورية المسلحة والسياسية باتجاهاتها كافة في قوة واحدة، تمنع عزل أي من مكوناتها، وتغيّر موازين القوى على الأرض، وتشكّل طرفًا يمثل الشعب السوري في أي مفاوضات قادمة.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات