سنجار ضحية الجغرافيا وتناقض المشاريع

سنجار ضحية الجغرافيا وتناقض المشاريع

منطقة سنجار، وتسمى بالكردية شنكال، هي من المناطق المتنازع عليها، وفق المصطلح المستخدم للإشارة إلى المناطق التي لم يتقرر بعد ما إذا كانت إدارياً ستتبع إقليم كردستان، أو تكون محافظة مستقلة، أو تتبع المحافظات العراقية المجاورة لها، التابعة لبغداد، وهي كغيرها من المناطق المتنازع عليها، تنتظر تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، وهي المادة التي ما زالت معلقة في الفضاء.
وقد تعرضت هذه المنطقة لهجوم وحشي من قبل تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل عام 2014، وكان ذلك بفعل مقدمات وأسباب أصبح بعضها معروفاً، في حين أن بعضها الآخر ما زال يثير الأسئلة حول دور السلطات العراقية في ذلك الحين والقوى الخارجية في المآسي التي كانت، وتبعاتها المستمرة إلى يومنا هذا.
وقد استغل حزب العمال الكردستاني «PKK» في سياق علاقاته الأمنية العسكرية مع النظامين الإيراني والسوري مأساة الإيزيديين في ذلك الحين، وتمكن من الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبها بعض مسؤولي الإقليم على صعيد إدارة المنطقة، والتعامل مع الهجوم الداعشي، ووجه كل ذلك، وبالتعاون مع الحشد الشعبي الموالي لإيران، ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني تحديداً، بل اتخذ من منطقة شنكال بالتعاون مع الحشد الشعبي الموالي لإيران قاعدة لتهديد أربيل، وإطلاق الصواريخ المناسباتية من حين إلى آخر عليها. وذلك في إطار لعبة الضغط، وطريقة إرسال الرسائل التي يعتمدها النظام الإيراني في التعامل مع مختلف أطراف العملية السياسية العراقية، لا سيما تلك التي لا تلتزم بمسارات سياسات التوسع والهيمنة الإيرانية في العراق وفي المنطقة.
منطقة سنجار/شنكال لها أهمية استراتيجية سياسية عسكرية، فهي محاذية للحدود السورية العراقية، كما أنها قريبة من المثلث الحدودي بين العراق وتركيا وسوريا. وهي تشكل عمقا للتواصل بين العراق والمحافظات الشرقية السورية، لا سيما الحسكة ودير الزور؛ كما أنها قريبة كما أسلفنا من أربيل، وتدخل ضمن إطار خطة التطويق والضغط التي تمارسها إيران في التعامل مع أربيل بغية دفع المسؤولين فيها نحو الالتزام بالسياسات التي تقوم على اعتبار العراق مجرد حديقة خلفية للإمبراطورية الإيرانية التي يتطلع نظام ولي الفقيه إلى إعادة بنائها.
وقد كان من اللافت معارضة فصائل الحشد الولائية للاتفاق الذي تم في تشرين الأول (أكتوبر) 2020 بين الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول دخول الجيش العراقي إلى منطقة سنجار، لضبط الأمن فيها، وإخراج المسلحين منها. وتولي الحكومة العراقية الاتحادية مسؤولية الأمن فيها بالتعاون مع إقليم كردستان؛ وعلى أن تتشكل لجنة ثلاثية مكونة من ممثلي الحكومة الاتحادية والإقليم ومحافظة نينوى، لتقديم الخدمات للمنطقة بهدف تمكين المهجرين من سكانها الذين يقدر عددهم بـ 350 ألفاً من العودة إلى منازلهم.
وقد تحركت قوة من الجيش العراقي الاتحادي في الأيام الأخيرة في المنطقة، ودخلت مدينة سنجار، غير أن هذه الخطوة جوبهت بالرفض والقتال من قبل قوات «PKK» وبعض الميليشيات المحلية الدائرة في فلكها أو التابعة لها، وحتى من جانب بعض فصائل الحشد الولائية التابعة لإيران، الأمر الذي أدى إلى وقوع ضحايا.
وفي خطوة تؤكد العلاقة العضوية التي تربط بين حزب الاتحاد الديمقراطي «PYD»و»PKK»، تحركت مجموعات مما تسمى بـ «قوات سورية الديمقراطية» (قسد)، وهي القوات التي يتحكّم فيها في واقع الأمر «PKK «، نحو الحدود السورية العراقية من أجل التدخل، والإسهام في عملية منع قوات الجيش العراقي من تطبيق الاتفاق المشار إليه بخصوص تطبيع الأمور في شنكال، وتهيئة المقدمات لعودة أهلها إلى ديارهم. وهذا ما يؤكد أن الولاء الأساس لهذه القوات هو لـ «PKK» وقيادته القنديلية التي تلتزم بتوجيهات وتعليمات النظامين الإيراني والسوري منذ بدايات ثمانينات القرن المنصرم، وذلك بناء على اتفاقيات أمنية أشرف عليها عبد الله أوجلان بنفسه أيام وجوده في سوريا في ذلك الحين.
أما تنسيق «قسد» مع الأمريكان في موضوع منطقة شرقي الفرات فهو يدخل في إطار التكتيكات الأمنية التي تخدم حاجة الطرفين بناء على اعتبارات أمنية عسكرية، وإعلامية، ومقتضيات الاستهلاك المحلي. فإلى جانب التنسيق المذكور، ينسق الحزب المعني هنا مع سلطة بشار الأسد نفسها؛ وكذلك مع الروس حول حدود التواصل والتفاصيل، ومجالات التعاون والتفاهم، وذلك في انتظار مآلات تطور الأحداث على مستوى الإقليم وفي سوريا.
أما حديث بعض المعارضين السوريين حول امكانيات التفاهم مع «قسد» أو «مسد»، فهو إما يدخل في باب الجهل بطبيعة وأبعاد مشروع «قسد» والقوى التي تتحكم فيه؛ أم أنه ينمّ عن توجه تجريبي عبثي، بدأ يتشكل بعد الإخفاقات الكبرى التي تسببت بها المعارضة السورية الرسمية، وهي المعارضة التي باتت راهناً مجرد حالة هلامية تعبر عن توجهات وأولويات القوى الإقليمية والدولية، ومنفصلة بصورة شبه كاملة، عن أولويات السوريين.
وفي سياق آخر، لم يعد سراً أن «PKK» قد تحول بفعل الجهود الإيرانية، ونتيجة الخلافات بين الأحزاب الكردية في إقليم كردستان خاصة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ونتيجة السلبيات وحالات الفساد، إلى لاعب فاعل في الإقليم على المستوى الشعبي ناهيك عن العسكري. ومن الأسئلة التي طُرحت، وتُطرح، باستمرار حول بواعث تنامي قوة الحزب المعني في الإقليم: ما هي الحكمة من غض النظر عن تمركز الحزب المعني في منطقة قنديل وغيرها من المناطق داخل إقليم كردستان؟ ومن هي الجهة أو الجهات التي تقف وراء ذلك؟ وإلى متى سيستمر وجود الحزب المعني في تلك المنطقة، وهو الأمر يفتح المجال أمام التدخلات الإقليمية سواء الإيرانية أم التركية، ويشكل ضغطاً مستمراً على الإقليم، بل يؤثر أيضاً في الحالة السورية؟
فقوات الحزب المذكور دخلت المناطق الكردية السورية قادمة من إقليم كردستان عام 2011، وكان ذلك في بدايات الثورة السورية، وبالاتفاق مع النظام السوري، ومع الجانب الإيراني، وبالتعاون مع بعض قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني من الذين وجدوا أن الحزب المذكور سيساعدهم في توسيع دائرة التأثير سواء على مستوى إقليم كردستان العراق أم على مستوى المناطق الكردية السورية؛ وقد انعكس هذا التوجه سلباً على واقع الإقليم نفسه، وعلى الأوضاع الكردية السورية، وتسبب في هجرة أكثر من مليون كردي سوري من الذين حاولوا إنقاذ أبنائهم وبناتهم من سياسة التجهيل المتعمدة التي اعتمدها الحزب المذكور تحت شعار التعليم باللغة الكردية. هذا إلى جانب التجنيد الإجباري الذي تفرضه السلطة التابعة لـ «PKK» على شباب المنطقة، وهي سلطة لا تمتلك أي مشروعية وطنية أو دولية، وإنما هي سلطة أمر واقع تؤدي مهام الشركة الأمنية المستعدة لتلبية مطالب الزبائن، مقابل الأموال والسلاح والامتيازات. هذا في حين أنها تمارس سياسة التحكم وقمع الحريات بحق سكان المنطقة خاصة الكرد منهم. وتستخدم أبناء وبنات المنطقة وقوداً في المعارك التي تعهدت بها لصالح الآخرين، وتستولي على موارد المنطقة، كما تستنزف مداخيل أهلها على ضآلتها ومحدوديتها. وهي تفعل كل ذلك تحت شعارات «المقاومة والبطولة والشرف»؛ وعبر تخوين المخلصين من أبناء المنطقة ممن يلتزمون بمصالح شعبهم وبلدهم الحقيقية بعيداً عن الأجندات الإقليمية والمهمات الدولية المدفوعة الأجر، والحسابات المافياوية.
قضايا تدخلات حزب العمال الكردستاني في كل من إقليم كردستان ومنطقة شرقي الفرات، والتدخل في سنجار/شنكال، لن تحل بسهولة من دون توافق كردي كردي على مستوى الإقليم، وتوافق عراقي عراقي على المستوى الوطني العراقي.
كما أنها لن تحل من دون ضغط أمريكي يدفع باتجاه فك العلاقة بين حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، ليتحول الأخير إلى حالة كردية سورية. كما أن الإسهام الأمريكي في محاولة إقناع الحكومة التركية بضرورة العودة إلى العملية السلمية مع مختلف الأطراف الكردية في تركيا، ومنها حزب الشعوب الديمقراطي، وأعضاء البرلمان التركي الكرد من ممثلي حزب العدالة والتنمية، وذلك لحل القضية الكردية بصورة عادلة في تركيا، سيساعد كثيراً في استقرار الأوضاع  في كل من تركيا والعراق وسوريا، ويمكّن من توفير المقدمات والشروط اللازمة للتعامل مع الاضطراب العام الذي تتسم به الأوضاع الدولية والإقليمية نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها على واقع الاصطفافات والاستقطابات الحاصلة، أو التي ستحصل في منطقتنا.
وهي استقطابات من شأنها أن تؤدي إلى تعقيد الأوضاع، وتوسيع دائرة النزاعات والحروب، وزيادة حدتها، ما لم تبذل جهود من أجل التهدئة والمعالجة حتى تتمكن شعوب المنطقة من التقاط أنفاسها، وتتفرغ للتركيز على عمليات إعادة البناء والتنمية، وتوفير فرص التعليم والعمل للأجيال المقبلة، وهذا كله يستوجب القطع مع جهود إثارة وتجييش العصبيات البغيضة، سواء الدينية المذهبية منها أم القومية.

القدس العربي