منذ بلوغي، نظرت إلى حرب الاتحاد السوفييتي الوطنية الكبرى ضد ألمانيا النازية (1941 – 1945) على أنها “حربي”. هكذا، في يوم النصر السوفييتي في هذه الحرب، مثل اليوم 9 أيار، شاهدت فيه يوم نصر شخصي وعائلي لي. الذكريات العائلية عن والدها وعن جدي الذي تمكن من إرسال عائلته في القطار الأخير نحو الشرق قبل احتلال كييف، في الوقت الذي بقي هو نفسه ليقاتل في الجبهة وسقط في المعركة بعد بضعة أيام، وعن أجدادي الذين أصيبوا إصابات بالغة وبقوا معاقين، كانت بالنسبة لي من صور الماضي الأولى والتأسيسية التي شكلت وعيي الخاص، إنما هي ذكريات أساسية وجودية كانت من نصيب كل عائلة سوفييتية في النصف الثاني من القرن الماضي.
الجانب العائلي والشخصي ليوم النصر في الحرب السوفييتية ضد النازيين، سرعان ما يضاف إليه، لديّ أيضاً، الجانب القومي اليهودي، حيث إن ذكرى الإبادة الجماعية ليهود الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب، بدون الإشارة إلى مفهوم “كارثة”، كانت من الميزات الأساسية الوحيدة للهوية اليهودية السوفييتية. لذلك، ذكرى النصر على من أرادوا إبادة اليهود نقشت في وعيي مثلما في وعي يهود سوفييت آخرين كانتصار للشعب اليهودي.
لكن إلى جانب البعد الشخصي العائلي والإثني اليهودي، فإن 9 أيار بالنسبة لي رمز قوي جداً بالمعنى العالمي له، تجاوز سياقات السيرة الذاتية، المحلية والوطنية. مثلما في نظر ملايين الناس في أرجاء العالم، فانه في الفضاء السوفييتي وخارجه، وفي نظري أنا، اعتبر 9/5/1945 يوم نصر الضوء على الظلام. رغم أن إمبريالية ستالين السوفييتية كانت مملكة شر وحشية وقاتلة جبت حياة ملايين الأبرياء، إلا أن حرب الاتحاد السوفييتي ضد النازية مثلت لحظة نقية من السمو الأخلاقي، معركة شاملة لإنقاذ الإنسانية من الشر المطلق.
أحسن الشاعر فلادمير فيزوتسكي وصف المعنى الأخلاقي الوجودي العميق لهذه الحرب، وهو من كبار المثقفين الروس في القرن الماضي، في أحد قصائده المشهورة عن الحرب، “نحن نلف الكرة الأرضية”. فيزوتسكي، الذي كان من المنتقدين الأشداء للنظام السوفييتي بشكل عام والستالينية بشكل خاص، عرض المعركة في الجبهة الشرقية كحدث عالمي يرتبط به وجود قوانين الطبيعة الأساسية. إذا انسحب الجيش السوفييتي أمام تقدم الجيش الألماني، فإن الكرة الأرضية تدور إلى الخلف، والشمس ستغرب في الشرق. عندما نهض الجيش الأحمر وبدأ بالهجوم المضاد، وأثناء صده لجيش الفرماخ، وجعل جنوده يتراجعون نحو الغرب، عادت قوانين العالم إلى المسار السليم، وعادت الشمس تشرق من الشرق وتغرب في مكانها.
يجلس في الكرملين الآن ديكتاتور مثير للاشمئزاز وحقير، يقوم بتدنيس وتلويث ذكرى يوم النصر السوفييتي على حثالة البشر، النازيين، في حين يعرض بدون خجل حملة الدمار والقتل الروسية في أوكرانيا كاستمرارية للحرب ضد النازية (“العملية الخاصة للقضاء على نازية أوكرانيا”). يصعب وصف قوة الألم والاشمئزاز التي أشعر بها في الوقت الذي أرى فيه كيف أن حربي وحرب شعبي وحرب كل الإنسانية ضد القومية الاشتراكية الألمانية تتحول إلى فأس يحفر بها القوميون الروس. هل يمكن النظر إلى يوم النصر، 9 أيار، دون أن تظهر أمام ناظرينا مرة أخرى فظائع بوتشا وايربين وبوروديانكا وماريوبيل وكرمتورسك؟ يبدو أنه لا. نعم، من الآن فصاعداً 9 أيار، الذي كان بالنسبة لي فعلياً آخر الخيوط التي ربطتني بماضيي السوفييتي، بات محذوفاً كلياً من رزنامتي الخاصة. الحديث يدور عن أزمة هوية داخلية قاسية جداً، ويشاركني في هذا الشعور جميع المهاجرين من الاتحاد السوفييتي.
مع ذلك، هناك طريقة رمزية واحدة ووحيدة لترميم المكانة الأخلاقية الخاصة ليوم النصر السوفييتي على النازية، وهي هزيمة ساحقة ونهائية لمن يسحقونه ويخربونه في الكرملين. صحيح أن بوتين ليس هتلر، وبوتشا ليست “بابي يار”، إلا أنه لا شك بأن جيش أوكرانيا الآن، بالمعنى الأخلاقي العميق، هو وريث ومواصل درب الجيش السوفييتي من أيام النصر على ألمانيا النازية. في هذه الأيام، جنود أوكرانيا هم الذين يلفون الكرة الأرضية.
بقلم: ديمتري شومسكي
القدس العربي