التقارب والزيارات ومبادرات نزع الخلاف غطاء لتنافس مستمر في الشرق الأوسط

التقارب والزيارات ومبادرات نزع الخلاف غطاء لتنافس مستمر في الشرق الأوسط

زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي والتقى بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.

وجاءت هذه الزيارة بعد تأكيد وسائل إعلام إيرانية في أواخر أبريل الماضي أن مسؤولين أمنيين كبارا من السعودية وإيران اجتمعوا في جولة خامسة من محادثات التطبيع برعاية الحكومتين العراقية والعمانية.

وزار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوغ تركيا في مارس. وكانت أول زيارة لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى إلى البلاد منذ أربعة عشر عاما. كما شارك الرئيس السوري بشار الأسد خلال نفس الشهر في معرض إكسبو 2020 في دبي والتقى بقادة إماراتيين. وزار أردوغان الإمارات العربية المتحدة في فبراير الماضي بعد أن سافر ولي عهد أبوظبي إلى تركيا خلال نوفمبر 2021. وتبادل الإماراتيون والإيرانيون وفودا تجارية واستثمارية خلال الشتاء.

وجعل كل هذا النشاط الدبلوماسي بعض الملاحظين في واشنطن يتحدث عن “خفض التصعيد” الإقليمي و”إعادة الاصطفاف”. وتعدّ هذه نقطة بيانات لمناصري انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، حيث يقول المنطق إنه إذا تصرفت الجهات الفاعلة الإقليمية بمسؤولية وسوّت خلافاتها، فسيمكن للولايات المتحدة الانسحاب دون العودة سوى في حالة حدوث أزمة

ويبدو هذا رائعا، لكن الباحث ستيفن كوك لا يتوقع أن يحدث انسحاب أميركي من المنطقة.

ويرى كوك في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن الحجج المؤيدة لتقليص النفقات والتوازن في الخارج منطقية على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تنجح في سبعينات القرن العشرين عندما حاولت، مما أدى إلى التزام أميركي طويل الأمد بأمن الخليج. لكن ما لا ينتظره الباحث هو أن تبشّر هذه الموجة الدبلوماسية الأخيرة بعهد جديد من السلام والحب والتفاهم في الشرق الأوسط. ويتوقع أن تكون العمليات المختلفة الجارية في المنطقة مجرد وسيلة أخرى يمكن للقادة الإقليميين من خلالها متابعة المنافسة والصراعات نفسها التي حدثت في العقد الماضي.

ويقول كوك “حتى بالنسبة إلى شخص كثير الشكوك مثلي، فمن الجيد أن تتواصل القوى الإقليمية مع بعضها البعض. لكن الحكمة التقليدية تقول إن المال يقود مناخا إقليميا جديدا يقوم على التعاون الاقتصادي بدلا من الحروب بالوكالة وجيوش التصيد”.

ونظرا إلى أن أنقرة تدفع من أجل إعادة ضبط المنطقة، فإن هذا منطقي للغاية. وساهم سوء إدارة أردوغان الاقتصادية في أزمة الليرة التي استمرت لسنوات، ومع بلوغ التضخم نحو 70 في المئة، تعهد الزعيم التركي بتنمية الاقتصاد للخروج من كارثة صنعها بنفسه. وبهذا، فقد تخلى عن الخطاب العدائي إزاء الإماراتيين. كما نقل أردوغان المحاكمة (غيابيا) للأشخاص المتهمين بقتل جمال خاشقجي إلى السعودية، منهيا بذلك أيّ احتمال لمحاسبتهم. وهذه هي النسخة الجيوسياسية من العمل على أمل الحصول على بعض الاستثمارات من صناديق الثروة السيادية الخليجية الهائلة، والصفقات التجارية، ومقايضات العملات، وربما مبيعات الطائرات دون طيار.

ستيفن كوك: اللحظة الحالية للتقارب الظاهري لن تدوم طويلا

ولكي نكون منصفين، فإن تقارب الحكومة التركية مع إسرائيل لا يتعلق بالمال، أو حتى حول إسرائيل، كما قد يعتقده الكثيرون. ويرى المسؤولون في أنقرة أنهم إذا تواصلوا مع الحكومة الإسرائيلية فسيخفف ذلك الضغط عليهم في واشنطن. حيث أن هناك منطقا ثلاثيا يدعم علاقات مصر مع الولايات المتحدة والتي تلعب فيها إسرائيل دورا. ويبدو أن الأتراك يعتقدون أن المنظمات اليهودية الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة ستدافع نيابة عنهم إذا رحب أردوغان بنظيره الإسرائيلي وتبادل المكالمات الهاتفية معه.

وبغض النظر عن وجهة النظر الفظة فيما يتعلق بتأثير هذه الجماعات، لا تتعدد الأدلة القائلة إن الجماعات المدافعة عن اليهود الأميركيين أو أنصار إسرائيل تريد مساعدة أردوغان، سواء لإخراج تركيا من العقوبات الأميركية بسبب شراء أنقرة لصواروخ إس – 400 روسية الصنع أو لإلغاء تحقيق وزارة العدل الأميركية في مزاعم انتهاك العقوبات وغيرها من الاحتيالات التي تورّط فيه بنك خلق الحكومي التركي.

وعندما يتعلق الأمر بخفض التصعيد مع إيران، أفادت التقارير أن الإماراتيين عبّروا عن اهتمامهم بفرص الاستثمار هناك، ولاسيما مشروع الطاقة المتجددة. ولم يصل السعوديون والإيرانيون إلى هذا الحد. حيث أن أفضل ما يمكن للمرء أن يقوله عن تلك الاجتماعات هو أنها مستمرة في الحدوث.

ومع ذلك، يؤكد كوك وهو زميل قديم في زمالة “إيني أنريكو ماتي” لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في “مجلس العلاقات الخارجية”، أنه حتى مع كل الابتسامات والحديث عن التعاون، يصعب عدم تصديق أن أمرا ما يجري خلف الكواليس. فبعد عقد من تبادل الاتهامات بالإرهاب والتسبب في عدم استقرار إقليمي وتسليح معارضي الأنظمة الخليجية، فإن التصريحات الحالية عن حقبة جديدة في العلاقات الأخوية تثير الشكوك.

ويحاول القادة الإقليميون الآن اتباع نهج مختلف بعد أن أثبتوا عدم قدرتهم على فرض إرادتهم على خصومهم بالقوة. ويمكن أن نضرب مثل الإماراتيين غير الواقعين في شباك أردوغان، وابتسامة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في إحدى الصور التي التقطت خلال زيارة الرئيس التركي الأخيرة والتي تشير إلى أن السعوديين يدركون موقع أردوغان الذي يواجه الاقتصاد الفاشل وأرقام استطلاعات الرأي الضعيفة.

ويخلق هذا للدول الخليجية فرصة اكتساب بعض النفوذ على حساب أنقرة من خلال قوتها المالية، وهو ما لم تتمكن من تطويره من خلال دعم قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر في ليبيا، الذي سعى للإطاحة بالحكومة في طرابلس التي تدعمها تركيا.

ويبقى الإسرائيليون، من جانبهم، حذرين من الأتراك. فهم لا يثقون بأردوغان، لكن يبدو أنهم يلعبون معه، خاصة إذا كان بإمكانهم الحصول على شيء من حاجة الزعيم التركي إلى تحسين وضعه في واشنطن. لكن حمل أردوغان على تضييق الخناق على إرهابيي حماس الذين ينطلقون من تركيا، على سبيل المثال، سيكون بمثابة فوز لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت.

◙ الأتراك يعتقدون أن المنظمات اليهودية الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة ستدافع نيابة عنهم إذا رحب أردوغان بنظيره الإسرائيلي

وفي نفس الوقت، ليس الإسرائيليون على استعداد للتخلي عن علاقاتهم الاقتصادية والأمنية القوية مع اليونان وجمهورية قبرص، وهما خصمان لتركيا منذ فترة طويلة، من أجل تحسين العلاقات مع أنقرة. وهذا مشابه لنهج مصر تجاه جهود تركيا المنسقة وغير الناجحة حتى الآن لمغازلة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

فكر في ذلك للحظة: تريد الحكومة التركية إعادة علاقاتها مع إسرائيل ومصر. لماذا تغيّر الرأي؟ يقول كوك في هذا الصدد إن الجواب يكمن في كلمتين: اليونان وقبرص، حيث متّن الإسرائيليون والمصريون واليونانيون والقبارصة جميعا علاقاتهم مع بعضهم البعض ردا على الموقف العدواني الذي لا داعي له لتركيا في شرق البحر المتوسط. وفي خضم الحديث عن خفض التصعيد وإعادة الاصطفاف يبدو أن تركيا تحاول إبعاد صديقين قويين عن أثينا ونيقوسيا. ومع اجتياح روسيا لأوكرانيا، الذي خطف اهتمام الجميع، لم يلاحظ الكثيرون الزيادة المتسارعة الأخيرة في التوغلات التركية في المجال الجوي اليوناني فوق بحر إيجه. ويبدو أن تركيا تريد وقف التصعيد في بعض الأماكن حتى تتمكن من التصعيد في أماكن أخرى.

ثم نجد حوار إيران مع الإمارات والسعودية. حيث يعتبر ستيفن كوك أنه عندما يجلس الإماراتيون والسعوديون للتحدث مع الإيرانيين يكون ضعفهم أمام طهران وصواريخها ووكلائها واضحا. وبالتالي، فإن لديهم سببا وجيها لتقليل التوترات، خاصة أنهم يعتقدون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر للأمن والاستقرار الإقليميين.

ولنكون واضحين، يهدف خفض التصعيد هذا إلى شراء المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الوقت لمعرفة أفضل السبل لمواجهة التهديد الإيراني، سواء كان ذلك عن طريق الاقتراب من إسرائيل، أو العمل مع الحكومتين الصينية والروسية، أو تطوير الطاقة النووية. وليست مشاركة المنطقة مع إيران هي ما يميل إليه جيرانها على الجانب الغربي من الخليج (باستثناء قطر).

ويذكّر كوك في تقريره بأن الولايات المتحدة اتبعت خلال العقدين الماضيين سياسات تستند إلى افتراضات خاطئة حول الشرق الأوسط. وسيكون استنتاج أن اللحظة الحالية للتقارب الظاهري هي أيّ شيء آخر غير المنافسة بوسائل أخرى افتراضا آخر غير سليم يمكن تبرير التراجع فيه. ولن تدوم لحظة الوئام هذه.

صحيفة العرب