قد يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغدائية في الشرق الأوسط، إلى جانب تزايد عدد السكان، إلى إثارة اضطرابات اجتماعية، كما حدث خلال فترة “الربيع العربي”.
- * *
تستمر الحرب في أوكرانيا في مفاقمة انعدام الأمن الغذائي عالمياً، ولا سيما في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقبل اندلاع الحرب، كانت روسيا وأوكرانيا تصدران معاً أكثر من ربع كميات القمح العالمية، فضلاً عن حصة كبيرة من سلع أساسية أخرى توفر الغذاء للعالم. وأصبح الشرق الأوسط على وجه الخصوص يعتمد على روسيا وأوكرانيا لاستيراد المواد الغذائية، مقارنة بمناطق أخرى.
وقد سلطت العديد من التقارير السابقة الضوء على الانقطاعات الكبيرة في الإمدادات الغذائية الناتجة عن ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية ونقص الإمدادات الغذائية. وللأسف، يقلل المحللون من شأن نطاق الأثر السلبي الذي ستخلفه الحرب على الوضع الغذائي، في حين تبدو الحكومات غير مستعدة لما يحمله المستقبل.
أولاً، لا يتعلق الأمر بالقمح وغيره من المحاصيل فحسب. فروسيا هي أيضاً أكبر مزود للأسمدة في العالم، وهذه المواد أساسية للزراعة. وبعد غزو أوكرانيا، أوقفت روسيا هذه الصادرات. وبدأ حالياً موسم الزراعة في أوروبا، ويشمل ذلك أوكرانيا. ومن الصعب تصور قدرة المزارعين الأوكرانيين على الزراعة بطاقة كاملة بسبب الحرب، إذ تقع معظم مناطق إنتاج الحبوب في أوكرانيا في وسط البلاد وشرقها وجنوبها، أي في المناطق التي تسعى موسكو إلى السيطرة عليها بشكل أساسي. وبالفعل، ارتدى المزارعون الأوكرانيون سترات واقية من الرصاص من أجل القيام بأعمالهم.
وليست المسألة مجرد وضع البذور في الأرض. فالتربة بحاجة إلى عناية دائمة بالأسمدة وغيرها من المواد الكيميائية الزراعية لضمان سلامة المحاصيل. ولذلك، فإن غياب الأسمدة يعرض الزراعة للخطر.
كما أن روسيا ليست الوحيدة التي أوقفت صادرات الأسمدة. فوفقاً لبيانات “معهد بيترسون للاقتصاد الدولي”، “أمرت الصين شركاتها بالتوقف عن بيع الأسمدة لدول أخرى، من أجل الحفاظ على إمداداتها للاستخدام المحلي”.
ثانياً، هناك الواقع العسكري على الأرض. وقد يترافق على الأرجح إعلان روسيا الأخير عن نيتها الاستيلاء عسكرياً على جنوب وشرق أوكرانيا مع حملة مركزة لمنع أوكرانيا من الاستفادة من أراضيها الزراعية الخصبة. ومن المرجح أن تشن روسيا حملة تدمير كامل للقطاع الزراعي في أوكرانيا. وفي موازاة ذلك، من المرجح أن يستمر الجيش الروسي في التدمير المركز للبنية التحتية الاقتصادية المادية في أوكرانيا، مستهدفاً البنية التحتية اللوجستية الضرورية لتصدير أي محاصيل يمكن للمزارعين الأوكرانيين جنيها. وهذا من شأنه أن يحرم أوكرانيا والمجتمع الدولي من أي صادرات زراعية محتملة قد تساعد على التخفيف من انعدام الأمن الغذائي.
ويلي ذلك مسألة أسعار الطاقة. فقد ركز الكثيرون على ارتفاع أسعار الغاز، وهذه المشكلة خطيرة بالفعل. غير أن أسعار الديزل ارتفعت رويداً حتى أعلى من أسعار الغاز منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وفي الولايات المتحدة، بقي سعر الديزل عند 5 دولارات للغالون أو أكثر منذ بداية الحرب، في حين تقلبت أسعار الغاز حول مستوى 4 دولارات للغالون. ويبقى الديزل المصدر الأكبر لوقود الشاحنات والجرارات وغيرها من وسائل النقل التي تحمل المواد الغذائية. وسيضاف هذا الوضع إلى التكلفة الإجمالية لإنتاج المواد الغذائية وسيؤدي بالتالي إلى ارتفاع الأسعار.
وينقلنا ما تقدم إلى البعد العالمي لهذه الأزمة. ففي وقت سابق من هذا الشهر، فرضت إندونيسيا، أكبر دولة مصدرة لزيت النخيل في العالم، حظراً على هذه الصادرات لإبقاء أسعار المواد الغذائية في البلاد تحت السيطرة، “في خطوة أدت إلى ارتفاع أسعار جميع الزيوت الصالحة للاستهلاك وأثارت الارتباك والقلق في أوساط مصدري ومستهلكي زيت النخيل على حد سواء”، كما أفادت وكالة “رويترز”. ومن المتوقع أن يكون الحظر قصير الأجل، ولكنه ينذر على الرغم من ذلك بإقدام دول أخرى على وقف صادراتها من المواد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى في محاولة للسيطرة على التضخم الداخلي. وبالتالي، من المحتم أن تزداد أزمة الغذاء سوءاً.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للشرق الأوسط؟ أولاً، من المحتم أن تزداد الاضطرابات الاجتماعية في المنطقة إذ من شأن ارتفاع أسعار الوقود وازدياد عدد السكان وتضخم أسعار المواد الغذائية وارتفاع الأسعار الأخرى أن تؤدي مجتمعة إلى ضغوط تضخمية. وبالفعل، لعبت أسعار المواد الغذائية دوراً مهماً في التظاهرات الحاشدة التي اندلعت خلال “الربيع العربي”، وقد تشهد المنطقة موجة أخرى من الاضطرابات، وربما أعمال العنف. وقد تواجه أوروبا موجة مضاعفة من اللاجئين -من أوكرانيا وكذلك من الشرق الأوسط مع تزايد الضغوط الاقتصادية في هذه البلدان.
وفي هذا السياق، أوضح الأستاذ في جامعة توسون، روبرت روك، المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، أنه من الناحيتين السياسية والاقتصادية، ستنمو هذه الأزمة “بشكل تصاعدي”، ونحن الآن في بدايتها فقط.
ولن يترك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أزمة لاجئين تمر من دون استخدامها كسلاح، ومن المرجح أن يستفيد من الوضع لتحقيق مصالحه الخاصة. وهو ما يزال ملتزماً بتقطيع أوصال أوكرانيا. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي مُني بها الجيش الروسي، تواصل موسكو هجومها على شرق أوكرانيا وجنوبها. وإذا نجحت روسيا في السيطرة على الأراضي الزراعية الخصبة في أوكرانيا وعلى المناطق الصناعية الساحلية على نهر دنيبر، فمن المحتمل بمرور الوقت أن تكتسب مكانة أفضل في سوق الحبوب. وتكتسي هذه المكانة أهمية خاصة بالنسبة للشرق الأوسط.
مع ذلك، ليس من الواضح ما هي الخطط التي وضعتها الحكومات الغربية لمعالجة أزمة الغذاء المقبلة. ويُذكر أن اثنتي عشرة دولة من أكبر 20 دولة مصدرة للقمح في العالم هي أعضاء في حلف “الناتو”. وبالتالي، من الضروري أن يتخطى جزء من رد الحلف على غزو روسيا لأوكرانيا فرض العقوبات وأن يتمثل في اتخاذ خطوات جماعية لزيادة محاصيل القمح في مسعى للتعويض عن الخسائر المترتبة على العدوان الروسي، وكذلك التصدي لمحاولات موسكو إلقاء اللوم على الغرب.
من المؤكد أن الاقتراح الأخير من الحكومة الهندية للمساعدة على إطعام العالم يبدو إيجابياً من حيث المبدأ، ولكن ما يزال من غير الواضح كيف يمكن للهند وحدها، بالنظر إلى عدد سكانها الكبير وعدم الاستقرار الغذائي فيها، أن تساعد على تجنب الأزمة المقبلة. فقد قلب غزو روسيا لأوكرانيا العالم رأساً على عقب. ولسوء الحظ، قد يكون ما ينتظرنا في المستقبل أسوأ مما رأيناه حتى الآن، خاصة إذا سيطر بوتين حتى جزئياً على الأراضي الزراعية في أوكرانيا. - الغد