عاد موضوع اللاجئين السوريين إلى صدارة النقاش السياسي في تركيا، وتشارك في هذا النقاش جميع الأحزاب السياسية، في السلطة والمعارضة، وكذلك عموم الناس من خلال وسائل التواصل الاجتماعي واستطلاعات الرأي.
رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان تطرق إلى الموضوع أربع مرات في غضون شهرين، تغيرت فيه وجهة كلامه في كل مرة. من «نحن لن نعيد أخوتنا اللاجئين» إلى «لا بد من عودة قسم منهم» إلى «سنعيد مليون لاجئ سوري بصورة طوعية» إلى «لن نتخلى عن أخوتنا السوريين»! وفي أعقاب كل تصريح تأتي ردود الفعل من المعارضة والرأي العام اكثر تشنجاً باطراد، وصولاً إلى التحذير من «احتلال صامت» للأراضي التركية بواسطة اللاجئين السوريين.
قبل أسبوعين نشر فيلم وثائقي على إحدى قنوات يوتيوب حمل هذا العنوان» «الاحتلال الصامت» أعلن زعيم حزب النصر أوميد أوزداغ أنه هو الذي موّل الفيلم ووافق على نص السيناريو.
«يتنبأ» الفيلم بأن العرب هم الذين سيشكلون الأكثرية في تركيا 2043، ويشكلون الطبقة الحاكمة والمالكة فيها، في حين ستكون «الأقلية التركية» في مرتبة الخدم وعمال النظافة في مؤسسات يملكها عرب، وسيختبئ الشبان الأتراك من مطاردة قبضايات الحارات العرب تجنباً لأذيتهم.
على رغم سذاجة وفقر المحتوى الفني للفيلم، فقد حقق نسبة عالية من المشاهدات، والأهم من ذلك أنه استطاع أن يفرض على الرأي العام تعبير «الاحتلال الصامت» الذي أخذ يتردد على ألسنة صناع رأي يظهرون على شاشات التلفزيون، ولا يخطر في بالهم أن يتذكروا أن جيش بلادهم موجود في مناطق شاسعة من بلد هؤلاء اللاجئين. بل أكثر من ذلك: أحزاب المعارضة التي تنتقد الحكومة ليلاً ونهاراً لأنها ابتلت تركيا بعبء اللاجئين، صوتت في البرلمان على قرارات تخوّل الجيش التركي التوغل داخل الأراضي السورية، فهي لا ترى أي تناقض بين الموقفين!
وحده حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) يربط بين الأمرين لأسباب مفهومة، وهو أكثر اعتدالاً في موقفه من اللاجئين السوريين. أما حزب المعارضة الرئيسي «الشعب الجمهوري» فهو كان ضد التدخل التركي في الصراع السوري منذ البداية، وموقفه أقرب إلى موقف نظام بشار، وأرسل إليه وفوداً اجتمعت به في دمشق منذ العام 2011. لكنه أيد الحكومة في استهداف مناطق «الإدارة الذاتية» لكنه في آخر مرة صوت فيه البرلمان على «تمديد مهمات الجيش التركي خارج الحدود» صوّت بالرفض للمرة الأولى، في مسعى منه للإبقاء على جسور تواصل مع حزب الشعوب الديمقراطي. أما في موضوع اللاجئين السوريين فرئيس الحزب كمال كلجدار أوغلو يعد ناخبيه في كل مناسبة بإعادتهم «الطوعية» إلى بلادهم، و«سنودّع أخوتنا السوريين بالطبل والزمر»!
أما حزب المعارضة الرئيسي «الشعب الجمهوري» فهو كان ضد التدخل التركي في الصراع السوري منذ البداية، وموقفه أقرب إلى موقف نظام بشار، وأرسل إليه وفوداً اجتمعت به في دمشق منذ العام 2011
غير أن أوميد اوزداغ الذي انشق عن «الحزب الخيّر» ذي التوجه القومي، وأسس حزبه الخاص، حزب النصر، قد تفوق على جميع المطالبين بترحيل اللاجئين السوريين لأن البرنامج السياسي لحزبه يكاد يقتصر على هذا الهدف! ويرى مفوّهو هذا الحزب أن الموضوع لا يتعلق بنزعة عرقية أو قومية بل بإنقاذ البلاد من احتلال أجنبي يتم تنفيذه عن طريق إغراقها بملايين اللاجئين، سوريين وعراقيين وأفغاناً وباكستانيين وغيرهم. فهم يخرّبون «النسيج الاجتماعي» ويشكلون خطراً على «البنية الثقافية والأخلاقية للمجتمع التركي». ولا يكمن الحل في إدماجهم بل في ترحيلهم حتى لو كانت غير طوعية وفي شروط غير آمنة.
لم يمض على تأسيس الحزب عام واحد بعد، لكنه تمكن في فترة قياسية من إشغال الرأي العام بخطابه المعادي للاجئين، السوريين خصوصاً نظراً لأنهم يشكلون القسم الأكبر منهم. هو إذن حزب صغير لكن فعله كبير كما يقال. أحد أسباب نمو تأثير الحزب هو أنه يتنافس في موضوع اللاجئين مع أحزاب أخرى لا تتمتع بصراحته في استهداف اللاجئين وإن كانت تشاركه في الهدف، أي انه الأكثر شطارة في هذا الملعب. السبب الآخر هو أن السلطة تتصرف وتتكلم في موضوع اللاجئين كطرف أضعف وبخطاب تبريري غالباً، بدلاً من أن تمسك بزمام المبادرة وتنتج حلولاً بدلاً من إدارة الأزمة. بل أكثر من ذلك نراها تخضع لضغوط المعارضة أحياناً وعينها على استطلاعات الرأي التي تُجمِع على تراجع شعبيتها، فتتصرف برائز الانتخابات القادمة بعد عام.
نادرون هم المثقفون أصحاب الضمير الحي الذين يتناولون موضوع اللاجئين بموضوعية، فيربطون بين عبء اللاجئين بتدخل تركيا في الصراع السوري من جهة، وبالرضوخ لمطالب الدول الأوروبية من جهة أخرى. وهم قبل هذا وذاك يطالبون بالاعتراف بحقيقة أن القسم الأكبر من اللاجئين سوف يبقى في تركيا، فقد مضى على وجودهم ما بين 11 ـ 8 سنوات، وأسسوا حياة جديدة، وثمة جيل كامل ولد في تركيا ولا يعرف غير اللغة التركية، ولم ير البلد الأصلي لأهله أبداً.
بعد هذا الاعتراف، على تركيا أن تنهي اتفاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن احتجاز اللاجئين السوريين مقابل تقديم مساعدات، وتنقل هذا الموضوع إلى المجتمع الدولي الذي يجب أن يتشارك هذا العبء إضافة إلى التشارك في إيجاد خل سلمي للصراع في سوريا. وعليها أيضاً سحب قواتها من الأراضي السورية. بمجموع هذه الخطوات يمكن أن يوضع موضوع اللاجئين على سكته الصحيحة. أما ما تطرحه السلطة والمعارضة حول مختلف صيغ ترحيل اللاجئين السوريين فمن شانه أن يزيد الأمور تعقيداً ويفتح الباب أمام توترات اجتماعية داخل تركيا لن يخرج منها أحد رابحاً.
الجزيرة