بإعلان كل من فنلندا والسويد تخليهما عن “الحياد العسكري”، وعزمهما الانضمام لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، تزداد سخونة الأجواء بين الغرب وموسكو المتوترة أصلاً منذ إعلان الأخيرة تنفيذ “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا، فبراير (شباط) الماضي، بدافع “مخاطر” توسيع الحلف وجوده على الأبواب الروسية.
القرار الذي يراه كلا البلدين الإسكندنافيين “تاريخياً” ونتيجة مباشرة للحرب في أوكرانيا، بحسب توصيف مسؤوليهما، وتعارضه موسكو بشدة، يأتي بعد قطيعة مع حيادهما العسكري في التسعينيات مع انتهاء الحرب الباردة عبر إبرامهما اتفاقات شراكة مع “الناتو” وانضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي، وستكرس عضوية البلدين في الحلف اندماجهما الكامل ضمن الكتلة الغربية، مع الحصول على ضمانات أمنية من دول تمتع بقدرات نووية، فضلاً عن زيادة الحدود المشتركة بين روسيا والتكتل العسكري بحوالى 1300 كيلومتر، لتصل لنحو 2600 كيلومتر، ما قد يطرح علامات استفهام حول الرد الروسي المرتقب، ويضاعف من سيناريوهات التوتر بين الغرب وموسكو.
لماذا الآن؟
وفق ما يقول المسؤولون الغربيون فضلاً عن مراقبين ومحللين عسكريين، فإن الحرب الروسية التي تجاوزت يومها الـ80 حتى الآن “غيرت المشهد الأمني في أوروبا بأكمله”، و”شكلت بشكل كبير نمط التفكير” في منطقة الشمال الأوروبي، مستندين في ذلك إلى تخلي كل من السويد وفنلندا عن “حيادهما العسكري” بعد سنوات من اعتبارهما أن الانضمام إلى “الناتو” سيمثل استفزازاً غير ضروري لموسكو، وطالما التزمتا لعقود بسياسات الحياد ثم عدم الانحياز لتجنب استعداء قوة إقليمية كبرى.
وفي معرض إعلانه قرار الترشح للانضمام للحلف، الأحد الماضي، قال الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو “إنه يوم تاريخي وبداية حقبة جديدة”، وفي اليوم ذاته قرر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في السويد دعم طلب العضوية، شرط ألا تستضيف البلاد قاعدة دائمة للحلف أو أسلحة نووية. وقالت رئيسة الوزراء ماغدالينا أندرسون بعد اجتماع طارئ للحزب في ستوكهولم، إن الترشح المشترك مع فنلندا هو “الأفضل للسويد وأمنها”، ما من شأنه أن يطوي صفحة سياسة عدم الانضمام إلى أحلاف عسكرية التي استمرت أكثر من 200 عام.
تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن الحرب الأوكرانية أججت المخاوف الأمنية “الواقعية إلى حد كبير” لدى كل من السويد وفنلندا، اللتين تشتركان في حدود طويلة مع الدولة الروسية، كما زادت نسبة دعم الفنلنديين والسويديين للانضمام إلى “الناتو”، إيماناً بأن الحلف سيساعد في الحفاظ على سلامتهم عندما يواجهون زعيماً روسياً لا يمكن التنبؤ بتصرفاته.
أحدث استطلاعات الرأي، ونشرته شبكة “يلي” الفنلندية، الأسبوع الماضي، يشير إلى أن التأييد الشعبي لعضوية “الناتو” زادت ثلاثة أضعاف لتصل إلى نحو 76 في المئة في فنلندا بعد أن كانت تتراوح منذ عشرين عاماً بين 20 و30 في المئة، وكذلك قفزت النسبة في السويد لتصل إلى حوالى 50 في المئة، مقابل 20 في المئة يرفضون ذلك.
ولفنلندا، التي كانت جزءاً من السويد قبل ضمها عام 1809 إلى الإمبراطورية الروسية كدوقية ذات حكم ذاتي، تاريخ دام مع الروس، فبعد إعلان استقلالها في ظل الثورة البلشفية عام 1917، عاود الاتحاد السوفياتي السابق احتلالها عام 1939 بعد بضعة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقاوم البلد طوال ثلاثة أشهر خلال ما عرف بـ”حرب الشتاء”، لكن ومع تجدد الأعمال الحربية عام 1941، اضطرت فنلندا إلى توقيع هدنة بعد معارك استمرت ثلاث سنوات.
وبموجب اتفاقية “صداقة” (وقعت عام 1948 بضغط من روسيا، وخسرت فنلندا بموجبها 10 في المئة من أراضيها لصالح موسكو) وافق القادة الفنلنديون على البقاء خارج التعاون العسكري الغربي والالتزام بنظام حيادي طوال الحرب الباردة عرف بـ”الفنلدة”، وإن كان البلد أفلت من ضمه إلى الاتحاد السوفياتي، لكن موسكو فرضت سيطرتها على سياسته الخارجية والعسكرية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، انتقلت فنلندا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في 1992، وأصبحت عضواً فيه عام 1995، لكنها ظلت غير منحازة عسكرياً وحافظت على علاقات العمل مع موسكو. كما حافظت في الوقت ذاته على إنفاقها العسكري وقواتها المسلحة الضخمة.
وعلى الرغم من أن السويد كانت ملتزمة رسمياً خلال قرنين بسياسة حياد موروثة من نهاية الحروب “النابوليونية”، ومن الحربين العالميتين، فإنها شاركت في مهمات عسكرية في أفغانستان وأخيراً في مالي، ولم تخض حرباً منذ نزاع مع النرويج عام 1814. وخلال التسعينيات، عدلت السويد سياسة الحياد إلى سياسة عدم انحياز عسكري “بهدف السماح” بالحياد في حال نشوب حرب.
خلال العقود الأخيرة، وعلى الرغم من بقائهما خارج الحلف، وطد البلدان الإسكندنافيان علاقاتهما بشكل متواصل مع “الناتو” الذي يعتبرهما أقرب دولتين غير عضوين. وأسهم البلدان في مهمات للحلف في البلقان وأفغانستان والعراق، كما شاركا في كثير من التدريبات العسكرية المشتركة.
أي سيناريوهات مرتقبة؟
مع موقف موسكو، التي أكدت على لسان أكثر من مسؤول أن الخطوة السويدية والفنلندية بإنهاء حيادهما ستكون “خطأ جسيماً”، وأن “العالم سيتغير جذرياً”، يخاف العالم الذي يعيش تداعيات حرب لم تهدأ بعد في أوكرانيا، من انزلاق التوتر بين موسكو والغرب إلى مستويات غير محسوبة، بما في ذلك احتمالات اللجوء إلى السلاح النووي، الذي سبق أن هدد به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غير مناسبة طوال الأسابيع الأولي من الحرب، في وجه تعرض أمن بلاده القومي للخطر.
فمن جانبه، يقول إيغور سابوتين، الصحافي الروسي المتخصص في الشؤون الدولية، إن “روسيا كجزء من استراتيجياتها الأمنية والعسكرية، تكثف تحركاتها نحو مواجهة ومنع توسع (الناتو) بشكل أساسي في دول الاتحاد السوفياتي السابقة، الذي تفكك رسمياً في ديسمبر (كانون الأول) 1991 إلى 15 دولة، حيث اعتادت روسيا اعتبار تلك الدول فضاء تقليدياً لنفوذها طوال العقود الماضية”.
سابوتين يضيف، لـ”اندبندنت عربية”، “يعد إعلان فنلندا والسويد التخلي عن حيادهما تغييراً جذرياً في معادلات الأمن والتوازنات القائمة في القارة الأوروبية منذ عقود، وقد يثير مزيداً من التوترات غير المتوقعة بين موسكو والغرب، لا سيما في ظل زيادة طول الحدود البرية لروسيا مع (الناتو) بعد انضمام فنلندا”.
بحسب سابوتين، الذى استبعد احتمالات توسيع روسيا عملياتها العسكرية ضد البلدين في الوقت الراهن على غرار الحالة الأوكرانية، “ستكون القضية الرئيسة بالنسبة للرد الروسي هي استضافتهما قواعد عسكرية دائمة أو أسلحة نووية بعد انضمامهما للحلف، ما يمثل خطراً مصيرياً على الأمن القومي الروسي، الأمر الذي تعتبره موسكو خطاً أحمر لا يمكن التنبؤ برد الفعل الروسي حال تجاوزه”.
وفي حين أكد الرئيس الروسي خلال المباحثات الهاتفية مع نظيره الفنلندي سولي نينيستو، السبت، على أن إنهاء الحياد العسكري لفنلندا سيكون “خطأ جسيماً”، شدد نائب وزير الخارجية الروسي سيرجى ريابكوف، الاثنين، على أن “العالم سيتغير جذرياً بعد قرار فنلندا والسويد”، محذراً بحسب تصريحات أوردتها وكالة “ريا نوفوستي” الروسية، من أن الخطوة “سينجم عنها تداعيات واسعة… ولا يجب أن تظن فنلندا والسويد أن روسيا ستتقبل قرارهما ببساطة”، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن رد موسكو “سيعتمد على النتائج العملية لانضمام” البلدين الإسكندنافيين إلى الحلف، وأن “مستوى التوتر العسكري سيرتفع.
كذلك حذرت “الخارجية الروسية” من أن الخطوة ستضطرها لـ”اتخاذ خطوات انتقامية، من أجل وقف التهديدات لأمنها القومي، وأن اقتراب (الناتو) من حدودنا لا يجعل العالم وقارتنا أكثر استقراراً وأمناً”.
من جانبها، ووفق ما تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، فإنه على الرغم من إعلان “الناتو” أن عملية انضمام فنلندا والسويد للحلف ستكون سريعة، فإن “إتمام الخطوات التي قد تستغرق عاماً يثير مخاوف من أن البلدين سيكونان عرضة لتهديدات روسيا أثناء وجودهما خارج التحالف”.
وبعد إعلان فنلندا والسويد عزمهما الانضمام إلى “الناتو” عليهما المرور ببعض الخطوات التي قد تأخذ أشهراً عدة، تبدأ بإرسال ملف الانضمام رسمياً إلى مقر الحلف في بروكسل لبدء مفاوضات، ثم انطلاق النقاشات بين الدول الأعضاء لقبول الأعضاء الجدد التي تتطلب إجماع الأعضاء الثلاثين الحاليين.
خلال الفترة الانتقالية الممتدة بين طلب الترشح والانضمام يبدى الحلف استعداده لتعزيز “الضمانات الأمنية” للبلدين، لا سيما من خلال ترسيخ وجود “الناتو” فيهما، إذ أكد الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، استعداد التكتل العسكري لتعزيز “الضمانات الأمنية” لفنلندا والسويد قبل انضمامهما من خلال ترسيخ وجود “الناتو” فيهما. وقال ستولتنبرغ في ختام اجتماع غير رسمي لوزراء خارجية الحلف في برلين، الأحد، إن “هلسنكي وستوكهولم تبديان مخاوف حيال الفترة الانتقالية… سنحاول تسريع العملية”، الأمر الذي دعمته الولايات المتحدة كذلك بقوة.
وذكرت الصحيفة الأميركية أن “دخول دولتين من بلدان الشمال الأوروبي غير منحازتين عسكرياً إلى حلف الأطلسي، يبرز كيف أدت التهديدات والحرب الروسية في أوكرانيا إلى زيادة المخاوف الأمنية في أوروبا وأجبرت الدول على الانحياز”، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تعد إحدى النتائج العكسية لتدخل الرئيس الروسي في أوكرانيا، “فبدلاً من تقسيم (الناتو) وعرقلة نموه، وحد بوتين تحالفاً وصفه بأنه تهديد لأمته”.
السيناريو النووي
عطفاً على تلويح الرئيس الروسي، في غير مناسبة أخيراً، باللجوء إلى ترسانته الاستراتيجية والنووية حال تهديد أمن بلاده القومي، لا يستبعد بعض المراقبين احتمال أن تقود التوترات بين الغرب وموسكو إلى اللجوء إلى ذلك السيناريو، الذي اعتبره مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في حواره قبل أيام مع “اندبندنت عربية”، “نهاية الجميع، وعلى المجتمع الدولي بأسره تجنبه”.
وبحسب ما نقلت صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” الروسية عن إيغور كوروتشينكو، رئيس تحرير مجلة “الدفاع الوطني”، فإن “انضمام فنلندا والسويد السريع إلى (الناتو)، بالنسبة لنا، من وجهة نظر الأمن وتوازن القوى في المنطقة، يعني تغييراً للوضع في منحى غير موات لروسيا”، مضيفاً، “يتعين علينا تحقيق التوازن بسرعة أمام تشكيل وحدات جديدة في الدائرة العسكرية الغربية، وستكون الوسيلة الوحيدة التي لا بديل لها عملياً لاستعادة التكافؤ في هذه الحال هي نقل الرؤوس الحربية النووية التكتيكية إلى قوات المنطقة العسكرية الغربية الروسية وأسطول البلطيق، وتزويد صواريخ (إسكندر) المتمركزة في المنطقة العسكرية الغربية بها، وكذلك صواريخ (كاليبر) الموجودة على السفن والغواصات برؤوس حربية نووية كرادع للحلف”. وتابع، “ستتطلب مثل هذه الإجراءات تغيير طبيعة العقيدة العسكرية الروسية، التي يجب أن تتضمن بشكل أوضح استخدام الأسلحة النووية التكتيكية”.
وتأسس حلف “الناتو” في أبريل (نيسان) 1949 في خضم الحرب الباردة، لمواجهة التهديد السوفياتي آنداك، وضم لدى تأسيسه 12 دولة، عشر منها أوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة وكندا، ورد الاتحاد السوفياتي في 1955 بإنشاء حلف “وارسو”، وهو تحالف عسكري مع الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، لكن في 1991 تم حل الحلف الأخير مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ووقع “الناتو” شراكة من أجل السلام مع أعضائه السابقين بما في ذلك روسيا في 1994، وبعد ذلك أقرت “وثيقة تأسيسية الناتو- روسيا” في 1997 لحفظ السلام والحد من التسلح.
في عام 2014، علق “الناتو” تعاونه مع موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم ودعم روسيا الانفصاليين في شرق أوكرانيا. وفي 2016، نشر الحلف أربع مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا في أكبر عملية تعزيز لدفاعه الجماعي منذ الحرب الباردة.
ويضم “الناتو”، الذي شهد موجات توسع عدة مع مرور الوقت، ثلاثين دولة في أوروبا وأميركا الشمالية، ويستند بالأساس إلى مبدأ التضامن المتبادل بين جميع أعضائه المحدد في المادة الخامسة من ميثاقه، وتنص على أنه “يتفق الطرفان على أن أي هجوم مسلح ضد طرف واحد أو أكثر يحدث في أوروبا أو أميركا الشمالية سيعد هجوماً موجهاً ضد جميع الأطراف”.
من سيبقى على الحياد؟
مع خروج فنلندا والسويد عن الحياد العسكري، ومضيهما نحو الانضمام لحلف “الناتو”، الذي يرجح مراقبون إقراره من قبل الدول الأعضاء للحلف، على الرغم من التحفظ التركي، تقلص عدد الدول المحايدة في أوروبا. لكن من بين تلك الدول المتبقية على الحياد، ولو انضمت للعقوبات الغربية على موسكو جراء الحرب الأوكرانية، تأتي سويسرا، التي رسخت مبدأ الحياد في دستورها منذ عقود، بالتالي بقيت خارج الاتحاد الأوروبي.
كذلك تأتي النمسا، التي أعلنت نفسها “محايدة عسكرياً” كجزء من شروط مغادرة قوات الحلفاء البلاد، واستعادة استقلالها في 1955، وخلال الأسابيع الأخيرة سعى المستشار النمساوي لتحقيق توازن جيد في تعاطيه مع أطراف الأزمة الأوكرانية، إذ زار موسكو وكذلك كييف بحثاً عن حلحلة الأوضاع والتوصل لوقف إطلاق النار، في حين أكد على أن بلاده “ليس لديها خطط لتغيير وضعها الأمني”.
أيضاً تبقى قبرص، الجزيرة المنقسمة بين تركيا والغرب، على حيادها، على الرغم من تطور علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إذ يعقد انقسام الجزيرة بعد “الغزو التركي” لشطرها الشمالي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، من أية خطوة مستقبلية بشأن الانضمام لـ”الناتو”. وبجوار قبرص تأتي مالطا، التي ينص دستورها على إبقاء الجزيرة على الحياد، ورفض المشاركة في أي تحالف عسكري.
أما إيرلندا، فقد أعادت الحرب في أوكرانيا فتح النقاش حول حيادها، مع فرضها عقوبات على روسيا، وإرسالها مساعدات غير قاتلة إلى كييف. وأخيراً لخص رئيس وزرائها ميشال مارتن موقف بلاده في هذا الشأن قائلاً، “لسنا محايدين سياسياً، لكننا محايدون على المستوى العسكري”.
اندبندت عربي