ليست الإشكالية أن يزور الرئيس الأمريكي إسرائيل، كما هو مخطط، وإنما في تحديد مستوى العلاقات المشتركة من الآن فصاعدا.
هذه الإشكالية تأتي في ظل تخوفات إسرائيلية من التعامل الأمريكي مع ما يجري إسرائيليا، رغم أن مستويات العلاقات الثنائية واضحة ومحددة، وتعمل في سياقات منضبطة، بعيدا عن مساحات التجاذب المعتادة في العلاقات، وأهمها مصادر التمويل المقررة لأنظمة الدفاع، وصفقات التسليح المتعاقد عليها، إضافة إلى الدعم الاستراتيجي، وإقرار المساعدات العسكرية، وبالتالي فإن الأمر ليس مرتبطا بمساحات من التباينات الشكلية، والتي يتم تسويتها في نطاق ثنائي، وعبر آلية أمنية وسياسية تعمل في الاتجاهين، وبعيدا عن دوائر الإعلام، بل وتتم أحيانا بعيدا عن تأثيرات “أيباك”/أقوى جماعات الضغط في واشنطن، اعتمادا على خصوصية العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، والتي تتجاوز الخلافات الجوهرية باعتبار أن إسرائيل “شأن أمريكي داخلي وليست مجالا للصراع الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين”، أو ساحة لفرض المواقف والتوجهات، التي تعمل في دوائر أخرى من التأثيرات، ولهذا فإن الخلافات الثنائية تذهب في اتجاهات أخرى تتعلق بالإقليمي، ومن ذلك ما يجري في دوائر الملفات الإيرانية وأمن المنطقة والتدخلات الإسرائيلية الملحة في الترتيبات الأمنية الجارية، سواء في البحر الأحمر أو في “المتوسط” وجنوب الساحل، أو في امتدادات الجنوب.
ولا شك أن دخول إسرائيل ودول الإقليم في إطار القيادة المركزية الأمريكية سهّل كثيرا من مساحات التعاون والتنسيق السياسي والاستراتيجي، وأدى لمزيد من المشاورات بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي وفرض استراتيجية “العمل معا” في ظل اتفاقيات استراتيجية متماسكة، ومن خلال قاعدة المصالح المشتركة، والتي تدفع الولايات المتحدة -أيا كانت طبيعة الإدارة الأمريكية- للانطلاق في مساحات من إجراءات الثقة مع إسرائيل، رغم بروز إشكاليات، كما يجري في ملف الاتفاق النووي، وتخوف إسرائيل من تأثيراته على أمنها القومي، ولهذا تحتفظ بحق الرد والتعامل في كل اتجاه، وعدم إسقاط أي خيار مطروح، بما في ذلك الخيار التصادمي، مثلما كان مطروحا سابقا في إسرائيل، وارتبط باحتمال الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران، وهو ما استُبعد لاعتبارات متعلقة بالحركة الأمريكية.
ولجأت إسرائيل للتعامل ببدائل استخباراتية، وهو ما زال مطروحا، فالمسألة ترتبط بحرية الحركة لكل طرف دون الوصول إلى مرحلة الخلاف الحقيقي، أو التصادم المكلف لأي طرف، وهو ما يدفع الطرفين أحيانا للإعلان عن قضايا الخلاف مع الإقرار بحرية الطرف الثاني في العمل، وقد دار ذلك في الفترات الأولى لإدارة الرئيس جو بايدن، مع التركيز على أن الإدارة داعمة لمزيد من التنسيق مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، نفتالي بينيت، ولا تريد تغيير الحكومة، أو إعادة ائتلافها بما قد يضر بنمط العلاقات مرة أخرى، عندما كانت هناك حكومة نتنياهو السابقة، خاصة أن الإدارة الأمريكية ترى أن دعم الحكومة الراهنة سيتطلب مزيدا من الإجراءات والتدابير السياسية والاستراتيجية، وهو ما يجري العمل به والتحرك من خلاله، ولهذا كان الإعلان الأمريكي عن زيارة الرئيس جو بايدن لإسرائيل، ومخطط الإدارة لعقد قمة إقليمية تضم قادة المنطقة وإسرائيل.
والمعني أن الإدارة الأمريكية تريد دعم الأوضاع الراهنة في إسرائيل، وإعادة تثبيت نمط العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية، بل والعمل في اتجاه إقليمي، وهو ما يجب الانتباه إليه والعمل على مساراته وفقا للتصور الأمريكي، مع التركيز على المقاربات المستقبلية لتطوير وتنمية العلاقات مع إسرائيل، خاصة أن الإدارة لديها دوافعها لما يجري في المدى المنظور، فإدارة “بايدن” مقبلة على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وعينها على توظيف كل مسارات التحرك، سواء في الشرق الأوسط، أو خارجه لصالحها، وفي ظل مخطط يقوم على محاولات استعادة الشعبية، التي خسرها الرئيس الأمريكي جراء الانسحاب من أفغانستان وارتدادات الأزمة الروسية-الأوكرانية، ومن ثم فإن التحرك في دوائر متسعة للإدارة الأمريكية، ومحاولة إعادة تدوير مساحات التحرك الأمريكي، ليس في الشرق الأوسط، وإنما في مناطق التأثير المباشرة وغير المباشرة، هو مَا يدفع للتعامل وفق مبدأ حسابات المكسب والخسارة، والانتقال إلى خطوة التفاعل وجني الثمار، وهو ما يجري في مناخ حقيقي من السيناريوهات الأمريكية، ليس فقط تجاه إسرائيل واللوبي اليهودي فقط، بل وفي اتجاه من الحسابات والمصالح الحذرة والمؤثرة والفعالة.
تجدر الإشارة إلى أن الخلافات بشأن بعض ملفات الثنائي لن تكون مؤثرة، ومنها طرح إسرائيل مشاريع استيطانية جديدة، وهو ما يندرج في إطار عمليات الضم الزاحف للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، كذلك وعد الإدارة الأمريكية بفتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، ولكنه اصطدم بمعارضة إسرائيلية.. إضافة إلى إعلان إدارة بايدن مدّ الفلسطينيين بـ15 مليون دولار مساعدات إنسانية لمكافحة فيروس كورونا، وقرارها بإرسال مساعدات تقدر بـ75 مليون دولار من أجل تنمية قطاع غزة والضفة الغربية و150 مليون دولار أخرى من أجل برامج الأونروا.
تبقى إذًا الترتيبات الأمنية الإقليمية محل نظر واهتمام أمريكي إسرائيلي، وفي إطار تهدئة الأجواء في الإقليم ومحاولة تطويق مساحات التصادم، خاصة أن الرؤية الإسرائيلية لنظام الأمن الإقليمي تحظى بتأييد ودعم من الولايات المتحدة، والتي ستستمر في دعم إسرائيل أمنيا واستراتيجيا، بدليل المساعدات التي حصلت عليها إسرائيل عام 2020، “والتي بلغت قيمتها 3.8 مليار دولار”، استُخدمت 500 مليون منها في النظم الدفاعية المضادة للصواريخ.. وكان بينها استثمارات في نظام القبة الحديدية، وغيره من نظم اعتراض الصواريخ.
وقد أسهمت الولايات المتحدة في تطوير القبة الحديدية بنحو 1.6 مليار دولار منذ عام 2011.. كما أنفقت إسرائيل الملايين بمساعدة أمريكية لتطوير التكنولوجيا الحربية، كنظام الكشف عن الأنفاق تحت الأرض، ولهذا تمثل المساعدات الأمريكية لإسرائيل أهمية قصوى، خاصة أن غالبيتها مخصصة لشراء وتطوير المعدات العسكرية والتكنولوجيا الحربية، لكن بات واضحا، الآن، أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يكبّد الأولى تكاليف باهظة، خاصة فيما يتصل بمكانة الولايات المتحدة عالمياً، في ظل التنافس الجيوسياسي مع الصين وروسيا، وهو ما سيمثل تحديا للولايات المتحدة في الفترة المقبلة.
العين الاخبارية