يُعد قرار انضمام السويد إلى حلف الناتو من أصعب القرارات التي اتخذتها الحكومات السويدية حتى الآن منذ أكثر من مائتي عام، ومن أصعب القرارات التي اتخذها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي حكم السويد في معظم الأوقات خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.
فالقرار سيُحدث تحولات نوعية في أذهان السويديين، وسيؤدي إلى متغيرات بنيوية في منظومتهم المفهومية الخاصة بالهوية السياسية للسويد؛ كما ستكون له نتائج مباشرة في المدى القريب؛ وستكون له تبعات وانعكاسات مستقبلية في مجالات الاستعدادات والأولويات والنفقات سواء على المستوى المحلي السويدي، أم على مستوى دول الشمال (السويد، فنلندا، الدانمارك، النرويج، ايسلندا) ودول البلطيق: (استونيا، لاتفيا، ليتوانيا). وغالبية هذه الدول تتشارك في سواحل بحر البلطيق إلى جانب كل من روسيا وألمانيا وبولندا.
كما ستؤدي عضوية الناتو بالنسبة إلى كل من السويد وفنلندا إلى تأثرهما بالنزاعات والصراعات الدولية، وربما إلى الانخراط فيها بناء على التزامات الناتو؛ وكل ذلك يأتي في ظروف ارتفاع حدة المواجهة بين روسيا والدول الغربية؛ وهي مواجهة متفاقمة في طريقها إلى التصعيد، لا سيما بعد الحرب الضروس التي أعلنها بوتين على أوكرانيا منذ نحو ثلاثة أشهر. وهي حرب يشارك فيها الغرب عملياً، وإن بصورة غير مباشرة، وذلك عبر تزويد الأوكرانيين بأحدث أنواع الأسلحة، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم الاقتصادي المعلن. هذا فضلا عن حزم العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت، وتفرض، على روسيا تباعاً، لا سيما في ميدان الطاقة؛ كما فُرضت العقوبات، وتُفرض، على المسؤولين الروس وعلى أعلى المستويات.
ونظراً لاستثنائية الخطوة المتخذة، وتحسباً لاختلاطاتها وعواقبها التي قد تكون بعد القطع مع سياسة الحياد التي اتبعتها السويد على مدى القرنين المنصرمين، حرصت رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ماجدلينا أندرسون (أو أندرشون وفق اللفظ السويدي) على إجراء حوارات ومشاورات معمقة، وعلى مختلف المستويات، ضمن الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه؛ ومع أحزاب المعارضة، خاصة مع حزب المحافظين، وهو الحزب الثاني بعد الاشتراكي من جهة عدد أعضاء البرلمان والشعبية وفق استطلاعات الرأي العام.
وفي الوقت ذاته، كان الحرص على التواصل والتنسيق المستمرين مع فنلندا، باعتبارها الجارة التي تتكامل مع السويد، وتتقاسم معها التطلعات والتهديدات. وكان القرار السويدي الفنلندي بتقديم الطلب في التوقيت نفسه إلى قيادة الناتو في بروكسل؛ كما كان الحرص المستمر على الزيارة المشتركة لكل من ماجدلينا أندرشون والرئيس الفنلندي سولي نينستو إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأمريكي جو بايدن والبحث في الضمانات الأمنية الأمريكية، وتلك التي سيوفرها الناتو للدولتين خلال المرحلة الانتقالية، إلى جانب تناول موضوع الاعتراض التركي الذي أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الناتو.
أما السبب المعلن للاعتراض التركي الذي ذكر أكثر من مرة من قبل رئيس تركيا، ووزير خارجيتها، فهو يتمثل في العلاقات التي تقيمها كل من السويد وفنلندا مع حزب «العمال الكردستاني»، وفرعه السوري «الاتحاد الديمقراطي» والقوات التابعة له بأسمائها المختلفة في سوريا.
وقد بينت السويد موقفها من جانبها، وأكدت مجدداً أنها تعتبر حزب «العمال الكردستاني» حزباً إرهابيا، ولا تقيم معه العلاقات، وهي تلتزم في ذلك بالموقف الأوروبي العام. غير أنها في المقابل اعترفت بعلاقاتها سواء مع «مسد» أم «قسد» والإدارة الذاتية» في منطقة شرقي الفرات التي يقف وراءها في واقع الأمر حزب «الاتحاد الديمقراطي» التابع لحزب «العمال». على أساس أن هذه القوى تمثل الكرد السوريين، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع الواقع؛ وإنما الذي حصل هو أن حزب «العمال» استغل عدالة القضية الكردية السورية في سياق أجنداته الخاصة، وبالتنسيق التام مع سلطة بشار الأسد ومع الإيرانيين، وكان ذلك منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011.
وما يُستنتج من معطيات عدة هو أن السويد قد بنت تلك العلاقات بناء على ضوء أخضر من الجانب الأمريكي الذي اعتمد على «قسد» في محاربة داعش، وذلك بعد تباينات في المواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وهي التباينات التي تفاقمت لاحقاً نتيجة إصرار تركيا، وهي العضو الهام في الحلف الأطلسي، على شراء منظمة صواريخ إس 400 من روسيا، ومن ثم دخولها في مسار أستانا مع الروس والإيرانيين منذ بدايات عام 2017.
وقد أسفر التوجه التركي نحو روسيا عن اضطراب العلاقة مع الجانب الأمريكي إذا صح التعبير. وتجسد ذلك في فرض حظر نسبي على تزويد تركيا بالسلاح الأمريكي كإلغاء صفقة إف 35؛ هذا مع استمرارية التفاهمات الأخرى، وهي التفاهمات التي أدت في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى دخول القوات التركية إلى منطقتي تل أبيض ورأس العين في خريف عام 2019.
ولكن من الواضح أن هناك رغبة لدى غالبية أعضاء الناتو، لا سيما الولايات المتحدة، لإيجاد حل مقبول للاعتراض التركي الذي لن تكون نتائجه، في حال بقائه، لصالح الناتو بصورة عامة.
الجانب الأمريكي لديه القدرة، إذا توفرت الإرادة، بطبيعة الحال، على معالجة الموضوع عبر الإسهام الفاعل في عملية الوصول إلى حل واقعي ممكن للموضوع السوري، بعيداً عن أسلوب إدارة الأزمة المتبع منذ نحو عقد من الزمن. ومثل هذا الأمر سيساهم في حال تحققه في عودة السوريين إلى ديارهم، وبالتالي تتخلص حكومة العدالة والتنمية من أعباء ضغوطات قضية اللاجئين السوريين على الرأي العام في تركيا، وذلك بعد أن باتت القضية المعنية مسألة انتخابية بالنسبة إلى الأحزاب التركية التي تستعد لاستحقاقات العام المقبل 2023.
من ناحية أخرى تستطيع الولايات المتحدة، إذا أرادت، أن تساهم في جهود فك الارتباط بين حزب «الاتحاد الديمقراطي» ومعه «قسد» و»مسد» من جهة، وبين حزب «العمال الكردستاني» من جهة ثانية، مع العلم بأن هذا الأخير مصنف أمريكياً ضمن لوائح المنظمات الإرهابية، بل هناك جائزة أمريكية معلنة لمن يفيد بمعلومات تؤدي إلى الوصول إلى ثلاثة من قياديي هذا الحزب، وجميل بايق نفسه هو من بينهم، وهو الذي يعتبر اليوم القائد الفعلي للحزب المعني، بينما عبدالله أوجلان لم يعد سوى الماركة أو الواجهة.
وفي الوقت ذاته، تستطيع الولايات المتحدة أن تساهم بالتعاون مع الأوروبيين، وربما مع بعض الدول العربية، في دفع كل من الحكومة التركية، وحزب العمال ومعه الأطراف الكردية الأخرى في تركيا، نحو مائدة المفاوضات من جديد، بغية إحياء العملية السلمية التي كانت قد بدأت عام 2012، وتوقفت عام 2015، وهي العملية التي كانت تستهدف الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا ضمن إطار وحدة الدولة والشعب، ولمصلحة الاستقرار التركي الداخلي، والاستقرار الإقليمي أيضاً، واستقرار كل من العراق وسوريا على وجه التحديد.
ومثل هذا الأمر، فيما لو تحقق، سيعزز دور تركيا الإقليمي والدولي، وسيمكنها من تجاوز الكثير من الصعوبات التي تعاني منها راهناً، خاصة في الميدان الاقتصادي.
فالحكومة التركية اليوم تريد العودة إلى سياسة تصفير المشاكل مع دول المنطقة، وهي سياسة إيجابية مطلوبة لمنطقتنا التي انهكتها النزاعات والحروب. غير أن هذه السياسة الإقليمية لن تكون ناجحة كما ينبغي بمعزلٍ عن سياسة داخلية مماثلة، تقدم الحكومة التركية بموجبها تصورها لحل ممكن للقضية الكردية في البلاد، وهي القضية الداخلية الأكبر والأقدم، وتبدي استعدادها للحوارات والمفاوضات من أجل الوصل إلى حل يحظى بالقبول العام. هذا إلى جانب ضرورة رفع الإجراءات التي تقيّد الحريات الديمقراطية، وإطلاق سراح معتقلي الرأي؛ فكل ذلك سيساهم في التخفيف من التوترات والاحتقانات، وسيصب في مصلحة تركيا عموما، وفي مصلحة حزب العدالة والتنمية نفسه الذي بدأ حكمه عام 2002 بداية واعدة، ولكنه تعرض لجملة من الانتكاسات أثرت سلباً على شعبيته وسمعته، وفرضت مجموعة من التساؤلات حول مدى قدرته على التعايش مع نظام ديمقراطي مستقر ناضج يطمئن الجميع، ويحفظ حقوق الجميع.
تركيا قوة إقليمية هامة من دون أي جدال، ومن المتوقع أن يكون لها دور إقليمي أكبر مستقبلاً؛ ولكن الاستعداد لأداء هذا الدور بصورة إيجابية يستوجب إعادة ترتيب الأوراق على المستويين الداخلي والإقليمي، وذلك استعداداً للتحديات الكبرى التي تواجهها، وستواجهها، المنطقة عموماً وتركيا على وجه التخصيص نتيجة الحرب في أوكرانيا، وبفعل الاصطفافات والمعادلات الإقليمية والدولية التي تتشكل، وستتشكل، نتيجة التصادم الروسي الغربي في ميادين كثيرة وعلى مختلف المستويات.
عبدالباسط سيدا
القدس العربي