في المنابر والصالونات والمنتديات وحتى غرف صنع القرارات، يجري تداول العديد من الأسئلة دون إجابات حاسمة عنها، مَن المسؤول عن اندلاع هذه الحرب؟ ومَن المسؤول عن إدامتها ومَن القادر على إخراج العالم منها؟
هل هو بوتين الذي قام باجتياح عسكري بدأ شاملاً للأراضي الأوكرانية، مبرراً بحجة يراها البعض وجيهة ويراها البعض الآخر غير كافية لإشعال حرب؟ أم بايدن الذي لا يخفى دوره المباشر والملح في هذه الحرب، بدءاً من التبشير بها قبل أن تبدأ ثم استقرار الدور على توفير كل ما من شأنه استنزاف روسيا، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير أوكرانيا وزعزعة أوروبا؟
يتحمَّل بوتين مسؤولية الاستجابة للاستدراج الأميركي، وهذا يكاد يكون جامعاً مشتركاً توصل إليه كل المحللين على مختلف ميولهم واجتهاداتهم، ويرى كثير منهم، إن لم يكونوا جميعاً، أن الرئيس الروسي وقع في خطأ سوء التقدير لإحجام ردود الفعل على مستوى أوكرانيا والعالم، وهذا ما يفسر طول أمد الحرب مع تواضع الإنجازات المفترضة على الأرض.
وإذا ما وقع الرئيس بوتين وفريقه تحت تأثير رد الفعل المجرب في موقعة القرم، فإن ما فاته حقاً أن ما كان آنذاك اختلف كثيراً عما هو عليه اليوم.
التورط الروسي في الحرب بلغ نقطة يصعب فيها التقدم نحو نتائج حاسمة كلياً على الأرض، أو التراجع عن الأهداف التي حددت مع البدء بها، حيث الخيار الروسي الأول بالاستمرار له محاذيره الكارثية على الدولة الروسية، أما الخيار الثاني فسوف يسجل هزيمة يحاسب عليها مَن تسبب بها.
الطرف المقابل، أي الرئيس الأميركي جو بايدن، هو الذي هيّأ المسرح لعرض دموي وتدميري، واستنزاف كوني طويل ومرهق، وكأن الحرب في أوكرانيا والإغداق في تخصيص الأموال للبلد الممزق والمدمر، ممر إجباري لاستعادة النفوذ التقليدي لأميركا المتراجعة في كل مكان وإدبار القارة الأوروبية المغلوبة على أمرها في كل الحروب الساخنة والباردة، كي تجدد ولاءها للمظلة الأميركية، وتواصل تبعيتها مهما كانت مكلفة لنزوات وغزوات واشنطن، ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد، فها هو الرئيس بايدن يدخل العالم كله في عسكرة كونية غير مسبوقة في التاريخ، إذ ليس من فراغ أو من قبيل التوجسات أن يجري الحديث عن «ناتو آسيوي» مثلاً، مع إدخال لملف تايوان على مستوى الصراع الكوني في مجاله الصيني، تايوان هي الذراع المؤلمة للصين أو على نحو ما أوكرانيا الآسيوية!
وهنا لا أحد يعرف على وجه اليقين إلى أين ستتطور الأمور في آسيا، بعد التصريحات المثيرة التي قالها الرئيس بايدن وهو هناك.
لا شطط ولا مغالاة حين يوصف بايدن الذي كان أبا العقلانية والمرونة أثناء الحملة الانتخابية، فإذا به أبو المفاجآت، فما كان في الحملة لم يعد معمولاً به في البيت الأبيض.
حين كان التنافس على أشده، وكان الديمقراطيون يتعقبون خصمهم ترمب، ويتصيدون كل حركة وسكنة في أدائه حتى إنهم وعدوا بالقيام بكل ما يختلف عنه في السياسات الداخلية والخارجية.
في الحملة حصل المرشح جو بايدن على أعلى العلامات، في مجال التبشير بتوازن معقول مع أوروبا أخل به كثيراً منافسه ترمب، واعتدال نسبي في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بعد صفقة قرن ترمب، ثم إظهار الحرص على استعادة الوئام الداخلي الأميركي، بعد أن نكل به التنافس الوحشي بين الديمقراطيين والجمهوريين، الذي وصل إلى حد الاقتحام المسلح للكونغرس.
الصورة الإيجابية التي قدمها بايدن وحزبه الديمقراطي أثناء الحملة الانتخابية جرى الانقلاب عليها قبل أن تكمل إدارته عامها الثاني، أزمة الغواصات مع فرنسا، وإن كانت جزئية في مجرى العلاقات الشاملة مع أوروبا، ثم جر أوروبا بالتوريط وراء القاطرة الأميركية التي يدير سائقها بايدن حرب أوكرانيا بـ«الريموت كونترول»، ويذهب بها إلى حدود الصين، ومن أين من اليابان التي تشبه أوروبا في إدخالها إلى معترك لا تريده، ولا ترى لنفسها أي مصلحة فيه، غير أنها لا تملك إلا الدخول في اللعبة الأميركية لمجرد عدم القدرة على الخروج منها.
إلى أين ستصل كرة الثلج الروسية في أوكرانيا؟ أو إلى أين ستصل عملية بايدن في عسكرة العالم من جديد؟ وإلى متى يظل اللاعب الصيني الحذر يمسك بالتناقضات جميعاً في قبضة واحدة، حيث الاستثمارات الأساسية في أميركا والغرب، والنزاع التاريخي على ضفاف بحر الصين وتايوان؟
اللاعبون الثلاثة الذين يتحكمون في مصير العالم يبتعدون عن منطقة التسويات المألوفة ويقتربون كثيراً من منطقة الحرب الساخنة، وهذه المرة ربما تكون مباشرة وليست بالوكالات.
صحيفة الشرق الأوسط