في 27 مايو/أيار 1997، عبّرت صورة التقطت في باريس ضمت رؤساء روسيا بوريس يلتسين، وفرنسا جاك شيراك، والولايات المتحدة بيل كلينتون، والأمين العام لحلف شمال الأطلسيخافيير سولانا، عن أمل بعصر جديد لتعاون غربي – روسي، أو هكذا ظنت موسكو.
في ذلك اليوم توجت الأطراف مفاوضات أسابيع للوصول إلى اتفاقية بين 27 دولة في الأطلسي وروسيا، عرفت بـ”القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا بشأن العلاقات والتعاون والأمن المتبادلين” NATO-Russia Founding Ac.
الديباجة ذهبت إلى أن الطرفين لا يعتبران نفسيهما خصمين، وأنهما سيبنيان معا “سلاما شاملا ودائما على أساس مبادئ الديمقراطية والأمن التعاوني”. ولكن، لن يمر وقت طويل قبل أن يستعيد الطرفان أجواء الحرب الباردة والتوجس وغياب الثقة.
قام الاتفاق على مبادئ أقرب إلى تلك المنتهجة في غرب أوروبا، ومن بينها ما سلطت عليه الأضواء في البند الأول حول الشفافية كأساس لشراكة قوية لتعزيز التعاون والأمن والاستقرار في المنطقة الأوروبية، كما ركز في أحد المبادئ على “الاعتراف بالدور الحيوي للديمقراطية والتعددية السياسية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات وتنمية اقتصادات السوق الحرة في تعزيز الرخاء المشترك والأمن الشامل”.
وشدد الطرفان على الامتناع عن استخدام القوة ضد بعضهما بعضا، وضمان سيادة وسلامة الدول واستقلالها، وحل النزاعات بالوسائل السلمية وفقا لمبادئ الأمم المتحدة وتحت مسؤولية منظمة التعاون والأمن في أوروبا.
نصوص وتفسيرات متضاربة
تأسيسا على تلك المبادئ، كانت روسيا الباحثة عن هوية ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي توقع على اتفاقية العمل التأسيسي مع “الناتو”، وشملت من بين أشياء أخرى:
- تأسيس مجلس بين “الناتو” وروسيا في 2002 استنادا إلى أهداف ومبادئ اتفاقية “العمل التأسيسي” بشأن العلاقات المشتركة والتعاون والأمن.
- السعي إلى إجراء حوار سياسي مستمر حول القضايا الأمنية، لتحديدها مبكرًا وتطوير التعاون العملي وإجراء عمليات مشتركة عند الاقتضاء.
- يركز مجلس “الناتو” وروسيا على كافة المجالات ذات الاهتمام المشترك. يجب أن يكون المجلس منتدى يمكن أن يحرز فيه التعاون بين روسيا وحلف “الناتو” تقدمًا.
وحدد الاتفاق تشكيل عدد من مجموعات العمل لتطوير التعاون في مكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات والسيطرة على الأسلحة، وعمليات حفظ السلام، وإدارة المجال الجوي، وبناء الثقة، والدفاع الصاروخي، والخدمات اللوجستية، والتعاون العسكري، والكوارث الدفاعية والمدنية.
وظل التفسير الروسي، وخصوصا في عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، يفسر علاقته بالحلف الغربي على أن الأخير قدم وعودا بعدم توسعه نحو الحدود الروسية، وخصوصا في الشرق وجنوب الشرق.
في المقابل، بقي الأطلسي ومراكز أبحاث ودراسات أوروبية يفندون وجود مثل التعهدات، وخصوصا الشفوية في مباحثات توحيد ألمانيا في 1990 و1991.
يستند الرأي الغربي الرافض لادعاءات موسكو بوجود تعهدات أو نصوص في الاتفاق المشار إليه، إلى أنه بعد قمة باريس في مايو/أيار 1997 بأشهر جرى ضم التشيك وبولندا والمجر إلى الحلف في قمته المنعقدة في سبتمبر/أيلول بالعاصمة الإسبانية مدريد.
ولم يحتج الروس على ذلك التوسع، وواصلوا توقيع المزيد من الاتفاقيات مع الجانب الغربي طيلة عامي 1997 و1998؛ بل إن موسكو افتتحت في 1998 بعثتها لدى مقر الأطلسي في بروكسل، واستقبلت بعثة الأخير ومكتبه الاستعلامي في موسكو، وصولا إلى تأسيس “مجلس الناتو-روسيا” في 2002.
بوتين.. نهج المواجهة
وبغض النظر عما إذا كان صحيحا أم لا أن بوتين فاتح بيل كلينتون بشأن انضمام روسيا إلى “الناتو”، فإن التقارب الروسي مع الأطلسي تواصل حتى بعيد انتقال بوتين من رئاسة حكومة يلتسين إلى سدة الحكم، وخصوصا مع الجانب الأميركي في أعقاب ما سمي “الحرب على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
ورغم ذلك كانت النخبة الروسية محبطة وتبدي توجسا كبيرا حيال الأهداف الغربية من الاتفاقية وعموم سياسات الغرب التي قرأها البعض كمحاولة احتواء. بوتين بنفسه استشعر مبكرا ما يدور في صفوف النخب، فكتب مقالا في 31 ديسمبر/كانون الأول في صحيفتي “روسيسكايا غازيتا” و”نيزافيسيمايا غازيتا”، تحت عنوان “روسيا في مطلع الألفية”، ركز فيه على أولوية إعادة بناء روسيا مجددا لتكون القوة العظمى.
وعزز توسع حلف شمال الأطلسي نحو ضم دول البلطيق (السوفييتية سابقا) لاتفيا وإستونيا وليتوانيا في 2004 من توجس موسكو من السياسات الغربية. فقد كان ذلك يجري مع تواصل نشر “الدرع الصاروخي” في بولندا والتشيك، ثم بلغاريا ورومانيا، وترك الباب مفتوحا أمام دول تعتبرها روسيا عمقا دفاعيا هاما.
الانتكاسة الأهم في علاقة الطرفين الغربي والروسي جاءت مع استهداف الكرملين جورجيا لقطع طريق انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، وذلك في أغسطس/آب 2008. واعتبر ذلك الحدث انعطافة سلبية في تجميد متدرج لاتفاقية 1997. نظرت موسكو بتوجس إضافي إلى دعم الغرب لما سمي “الثورات الملونة” في دول الجوار، كجورجيا وأوكرانيا، وتشجيع الديمقراطية في مولدوفا، واستمرت روسيا في تأخير تنفيذ بعض الاتفاقيات المتعلقة بسحب جنودها من بعض المناطق في دول الجوار.
التجميد الفعلي لاتفاقية العمل التأسيسي جاء بعد تدخل عسكري روسي في شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014.
إذاً، وبعد مرور ربع قرن على اتفاقية التعاون والأمن بين الأطلسي وروسيا، تتحدث الوقائع عن نفسها في الحرب الأوكرانية، المتواصلة تسخينا منذ نهاية العام الماضي والتي تدخل شهرها الرابع، بوضوح أكثر عن تحولها منذ 24 فبراير/شباط الماضي، حيث يعيش الطرفان ما يشبه حربا غير مباشرة.
“الناتو”، الذي رفض تقديم ضمانات للكرملين بعدم ضم أوكرانيا، يدفع اليوم ببعض طاقته العسكرية لتحويل أوكرانيا إلى مستنقع حقيقي لبوتين.
وبعد 25 سنة، تبدو الصورة غير مطمئنة لساسة موسكو، فالحلف الغربي لم يعد فقط قرب حدودهم شرقا، بل ومع توجه فنلندا والسويد لعضويته، تبدو روسيا عمليا محاطة أكثر مما كانت عليه قبل غزو أوكرانيا.
في المجمل، تغير الكثير طيلة السنوات الماضية، فاليوم انتزع الغربيون من بوتين قدرته على التأثير على قرارات الغرب المشتركة. ومثلما تأسس الأطلسي في 1949 بهدف رئيس يجعل روسيا بعيدة عن حدود دوله، فها هو اليوم مندفع نحو حدود روسيا بكل ما يحمله ذلك من مخاطر جدية على تفكك حتى الاتحاد الروسي نفسه، ببروز مستقبلي لتناقضات وتحديات تتعلق بالقوميات، التي لا يبدو أن الغرب بعيد عن إدراك أهمية استغلالها لزعزعة وحدة ومكانة روسيا في المستقبل.
العربي الجديد