الشبكات الاجتماعية والمجال العام بالمغرب: مظاهر التَّحكُّم والدَّمَقْرَطَة

الشبكات الاجتماعية والمجال العام بالمغرب: مظاهر التَّحكُّم والدَّمَقْرَطَة

201511885252499734_19

مقدمة

ثمة ثلاثة معطيات أساس لابد من استحضارها، في مدخل هذه الدراسة، إذا لم يكن من باب التأطير العام لأطروحة الورقة، فعلى الأقل لتثبيت سياق الحديث الذي سنكون بصدده على امتدادها:

  • المعطى الأول: ومفاده القول بأن العالم قد بات، منذ ثمانينات القرن الماضي، بإزاء ثورة تكنولوجية عميقة طالت كل جوانب الاقتصاد والمجتمع والثقافة، حاملة معها أدوات جديدة لإنتاج وتخزين وتوزيع واستهلاك القيمة والثروة، لم تكن موجودة ولا مألوفة بأزمنة ما اصطُلح على تسميته بالثورة الصناعية أو ما بعد الصناعية أو بمرحلة “الاقتصاد الجديد”. وعلى الرغم من أن هذه الثورة قد تمظهرت بقوة في القطاعات الإنتاجية المباشرة، فإنها تجلَّت أكثر في قطاعات الإعلام والمعلومات والاتصال، على مستوى البنى التحتية المادية، كما على مستوى المضامين المنتَجة والمعارف المروَّجة والمعلومات المتنقِّلة.
  • المعطى الثاني: ومؤداه أن هذه الثورة الرقمية، وإن أسهمت في انبعاث أنماط جديدة ومسالك مستجدة لإنتاج واستهلاك المعلومة، فإنها قد أسهمت بموازاة ذلك في انبعاث طرائق جديدة لتداول المعلومة إياها، تتجاوز في شكلها وفي مضمونها الطرائق التقليدية التي كانت تتيحها وسائل إعلام ما قبل الثورة الرقمية، من صحافة مكتوبة وإذاعة مسموعة ومنصات تلفزيونية مرئية وما سواها. وإذا كانت هذه الثورة قد قوَّضت، وإلى حدٍّ بعيد، “وضعيات المجد” التي انبنت عليها المقاولات الإعلامية ولعهود طويلة، فإنها قد أفرزت في الآن ذاته، فاعلين جددًا، هم في معظمهم من خارج المنظومة القائمة، لكنهم غدوا، بفضل التقنيات التفاعلية الجديدة، منافسين حقيقيين لهذه المقاولات، حتى وهُمْ لا يتوفرون إلا على أدوات تقنية زهيدة الثمن بمقياس قيمتها في السوق (هواتف نقالة، حواسيب محمولة، لوحات معلوماتية…إلخ).
  • أمَّا المعطى الثالث؛ فمضمونه أن ما بات يُصطلح على تسميته منذ فترة بالإعلام الجديد، لم يُسهم فقط في بروز “فرع” في الإعلام إحدى خواصه الكبرى، التفاعلية والآنية وتقاسم المعلومة على نطاق واسع، بل أسهم أيضًا في ظهور أشكال في التنظيم جديدة، لم تعد ترتكن إلى مفهوم البنية؛ باعتبارها مستوى تأطيريًّا ثابتًا، بقدر ما باتت ترتكز على مفهوم البيئة؛ باعتبارها فضاء افتراضيًّا تعتمل بداخله كل أنماط العلاقات والتمثُّلات والسلوكات والتفاعلات والتعبيرات، دونما قدرة كبيرة من لدن السلطات العمومية على كبحها أو إعاقتها، فما بالك بإعمال القوانين واللوائح والتشريعات للحد من مداها، أو تحجيم التجاوزات التي قد تبدو لها كذلك من منظورها.
    إن الآية من سوْق هذه المعطيات الثلاثة، إنما القول بأن الثورة الرقمية قد أفرزت أشكالًا جديدة في التعبير، ثوت خلف بروز طرق غير معهودة لبلوغ جماهير متنوعة وبمواصفات متعددة، وقدَّمت إمكانات غير معتادة في تفاعل المتلقي مع المضامين المعلوماتية، لا بل إن المتلقي قد بات في ظلها، يقوم بأدوار جعلته في قلب منظومة إنتاج القيمة، تجميعًا وصياغةً وتخزينًا وتوزيعًا على نطاق يتجاوز بكثير ما عهدناه من ذي قبل.

ولذلك، فإن ما حملته التكنولوجيات الرقمية لا يُعبِّر فقط عن طفرة حقيقية طالت البنى التحتية والمضامين الـمُروَّجة من خلالها، بل يُعبِّر أيضًا عن قطيعة إبستمولوجية في المجال الإعلامي والاتصالي، ابتدأت بأجيال الويب المتقدمة ولا تزال إرهاصاتها الكبرى تتموج حول مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكات الويب الثاني (الويب 2.0)، والشبكات الاجتماعية، وشبكات الإعلام المواطن وغيرها.

وإذا كان ثمة من “فضل” أوَّلي يُذْكَر لهذه الشبكات، فيبدو أنه كامن بالأساس في قدرتها الهائلة على ضمان مبدأ ديمقراطية الوصول والنفاذ إلى المعلومات، ثم في قدرتها على تجاوز احتكار المعلومة من لدن الدولة، والمعرفة من لدن النخب “العالمة”، ثم في خاصية المرونة التي تمنحها الطبيعة العلائقية الأفقية لبنيتها التنظيمية، ثم في فسحها للمجال واسعًا أمام الجماهير للإسهام في مناقشة قضايا الشأن العام، إعمالًا لمبدأ أن من يملك المعلومة يملك السلطة، أو جزءًا مُعْتَبرًا منها على الأقل.

إن شبكات التواصل الاجتماعي قد أضحت وسيطًا لا مندوحة عنه حقًّا، ليس فقط كونها خلَّصت الفرد من تراتبية وهرمية وأَبَوِيَّة أدوات التواصل التقليدية، ولكن أيضًا لأنها ثوت خلف انبعاث عالم افتراضي، بات الأفراد والجماعات والتنظيمات من بين ظهرانيه فاعلين مباشرين، بمستطاعهم إبداء آرائهم وتصوراتهم عن وفي القضايا الإشكالية الكبرى التي ترهن حاضرهم أو من شأنها التأثير في مستقبلهم.

وإذا كان الجيل الأول من هذه الشبكات قد سهَّل عملية الوصول إلى المعلومات والأخبار، وأتاح للأفراد إمكانيات إنتاج المضامين وبأشكال تعبيرية مختلفة (منتديات حوار، صفحات خاصة، غرف دردشة، مدونات وغيرها)، فإن الجيل الثاني من هذه الشبكات (جيل الفيسبوك وتويتر واليوتيوب تحديدًا) قد أتاح منابر واسعة للنقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار، وحشد الجماهير لمناصرة قضية من القضايا، أو لتكوين رأي عام حول القائم منها، أو لإثارة إشكاليات مجتمعاتية لم تكن وسائل الإعلام والاتصال التقليدية تعيرها الاهتمام الكافي، أو تتبرَّم منها، أو تمارس الرقابة على من يثيرها ويطرحها للعلن.

لقد بتنا أو نكاد، يقول البعض، بإزاء تكريس جديد، لا بل واستعادة جديدة لنظرية المجال العام التي صاغها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بداية ستينات القرن الماضي، للتعبير عن ذاك الفضاء الذي يتوسَّط مجال السلطة والمجال العمومي من جهة، والمجال الخاص للأفراد والجماعات من جهة ثانية، والذي تُؤَسِّسُهُ النقاشات والحوارات والتدافعات المرتبطة بقضايا الشأن العام بين طرفي المعادلة(1).

وبناء عليه، فلو استعدنا مفهوم المجال العام في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، فسنقول بأنه هو تلك المساحات الواسعة التي يقوم أعضاء هذه الشبكات من بين ظهرانيِّها، بتناول ما يستجدُّ لديهم من قضايا وإشكالات، ليخلصوا بموجب ذلك، إلى صيغة ما لكيفية عيشهم وعملهم معًا وبشكل جماعي، في الحاضر كما في المستقبل على حدٍّ سواء.

شبكات التواصل الاجتماعي تبدو، ومن هذه الزاوية، طَيِّعَة ومرنة وسهلة المباشرة؛ إذ المشاركة فيها مفتوحة، وكل القضايا قابلة للطرح والمداولة، ومواقف الأطراف المشاركة متساوية، والعملية لا تلتفت كثيرًا إلى التمايزات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو غيرها.

من جهة أخرى، فقد يكون من مجال الصدفة الخالص أن يتزامن انتشار هذه الشبكات الاجتماعية وانفجار انتفاضات “الربيع العربي”. وقد يكون من مجال الصدفة الخالص أيضًا أن تكون فئة الشباب هي الحاملة للواء هذه كما تلك، جزئيًّا أو بالمجمل العام. بيد أن الذي لا يبدو لنا من مجال الصدفة حقيقة أنه لولا هذه الشبكات لما كان لانتفاضات “الربيع العربي” أن تعرف ذاك الزخم الذي عاينَّا أطواره بالمباشر الحي في مصر وتونس وليبيا واليمن، وإلى حدٍّ ما البحرين والأردن والمغرب.

صحيح أن الشعار الأساس المطروح في حينه، بالشارع كما من على منصَّات الشبكات الاجتماعية، لم يكن يخرج كثيرًا عن مطلب إسقاط النظم القائمة. وصحيح أن العديد من الاحتجاجات الرافعة لذات الشعار، كانت سابقة على هذا المطلب إلا أن الشبكات إياها قد نجحت وإلى حدٍّ بعيد، في تكوين رأي عام لا تختلف مكوناته كثيرًا حول طبيعة المطلب إياه، حتى وإن لم يكن لدى هذه المكونات تصور كبير يُذكر لما ستؤول إليه تموجات الأمور في المستقبل المنظور، مستقبل ما بعد إسقاط النظم(2).

ومع أن مطلب إسقاط رأس النظام لم يكن مطروحًا في سياق “الربيع العربي المغربي”، لا في الشارع ولا من بين ظهراني شبكات التواصل الاجتماعي، فإنَّ “الربيع” إيَّاه قد أفرز رأيًا عامًّا حقيقيًّا، مؤدَّاه ضرورة إسقاط زمرة الفساد والاستبداد المتخفية وراء النظام القائم أو المتدثرة بجناحيه، ثم فتح السبل لانتقال ديمقراطي حقيقي، تكون الكلمة الفصل فيه محكومة بدستور يعيد توزيع السلطات بإنصاف، ويعمد إلى إعادة تحديد القواعد دون إجحاف.

ولذلك، فإن أهمية هذه الورقة إنما تتأتى من استنطاقها لمستويين أساسيين اثنين: 

  • مستوى التساؤل في مدى نجاح هذه الوسائط الجديدة في استنبات رأي عام حول قضية ما، أو حول مسألة تكون الآراء الفردية بخصوصها قائمة، لكنها لا تجد الفضاء الكفيل بصياغتها كوعي جمعي عام، ثم كمجال لفعل جماعي واضح الخلفية والسياق.
  • ومستوى التساؤل في مدى نجاح ذات الوسائط في إفراز مجال عام (افتراضي) تتدافع في صلبه كل الأفكار والتمثُّلات والتصورات، أو في إعادة تشكيل المجال العام (المادي القائم) بجهة تجديد الفاعلين الأساسيين في صلبه، وتطعيمه بمقاربات لا قبل للفاعلين التقليديين بها، أو لا مصلحة لهم في إثارتها أو تناولها.

وقد آثرنا أن نعرض لهذين المستويين، من خلال منهجية تحليلية خالصة، مرتكزة على متابعاتنا الخاصة لتموجات الحركات الاحتجاجية وأساليب تعاملها منذ العام 2011، مع هذه الوسائط والتكنولوجيات الجديدة، وبالارتكاز على الأسئلة الآتية:

  1. هل استطاعت شبكات التواصل الاجتماعي إفراز رأي عام جديد بالمغرب، أم تراها لم تعمد إلا إلى إعادة تشكيل القائم منه؟
  2. هل احتفظت هذه الشبكات ببريقها المزامن لحركة 20 فبراير/شباط بالمغرب، أم ترى أن مفعولها انحسر بانحسار مدِّ الحركة إياها، وتضييق السلطات عليها، وانفضاض زخم الانتفاضات من حولها؟
  3. هل أسهمت هذه الشبكات في انبعاث مجال عام جديد يتجاوز المجال التقليدي، أم تراها اكتفت بالفعل على هامش هذا الأخير، دونما قدرة من لدنها على تقويض أركانه؟

وعلى الرغم من أن هذه الاستفهامات هي إلى المشروع البحثي أقرب منه إلى الدراسة الموجزة، فإننا نزعم لبسط أطروحة هذه الورقة، أن شبكات التواصل الاجتماعي بالمغرب، وإن استطاعت في البداية، تشكيل رأي عام اتخذ من الواقعي ومن الافتراضي دعامته لتأسيس المجال العام، فإن هذا المعطى سرعان ما تراجع زخمه بمجرد خفوت بريق “الربيع العربي”، وتأكُّد الجماهير من أن الأمر لم يخرج عن كونه مجرد سراب عابر.

1. واقع شبكات التواصل الاجتماعي بالمغرب: الوزن وحجم الاستخدام

1.1. ثمة معطيات إحصائية أساس لابد من استحضارها قبل أي إعمال للتحليل لاستقراء دلالاتها، وما قد يترتب عنها من استنتاجات:

  • أول معطى إحصائي ويتمثل في توزيع الاستخدام الموجَّه لهذه الشبكات؛ فقد أبانت الاستبيانات المتوفرة أن شبكة الفيسبوك (وهي أقوى هذه الشبكات وبكل المقاييس) تعد شبكة التواصل الاجتماعي المفضلة لدى المستخدمين(3)، بنسبة تناهز 96%، يليها محرك غوغل+ بنسبة 54%، ثم شبكة تويتر بنسبة 35%، في حين لا تحوز الشبكات المهنية إلا نسبًا أقل من ذلك: 26% لشبكة لينكد إن، و17% لشبكة فياديو (Viadeo).

 الجدول رقم (1) يبيِّن توزيع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي الفعَّالة بالمغرب(4)

شبكة التواصل الاجتماعي

النسبة المئوية (%)

فيسبوك

96.10

غوغل+

53.84

تويتر

35.36

لينكد إن

25.79

فياديو

16.38

شبكات أخرى مماثلة

8.49

ماي سبايس

3.89

هاي 5

1.99

كسينغ

0.97

لا أحد

0.90

عالم جديد

0.90

أوركوت

0.29

نينغ

0.09

  • ثاني معطى إحصائي أساس يتعلق بحجم استخدام هذه الشبكات؛ إذ تُبيِّن استبيانات الرأي أن 20% من المستطلعة آراؤهم يقضون مدة متوسطة من ساعة إلى ساعتين في اليوم، و19% منهم ما بين ساعتين وأربع ساعات، و18% أكثر من أربع ساعات في اليوم، كما يظهر ذلك بالجدول.

 الجدول رقم (2) يوضح كيفية استخدام شبكات التواصل الاجتماعي زمانيًّا

حجم استخدام شبكات التواصل الاجتماعي

النسبة المئوية  (%)

بعض المرات أسبوعيًّا

6

أقل من 30 دقيقة في اليوم

8

30  دقيقة إلى ساعة في اليوم

16

ساعة إلى ساعتين في اليوم

20

ساعتان إلى أربع ساعات في اليوم

19

أكثر من أربع ساعات

18

أكثر من ثماني ساعات

13

  • ثالث معطى إحصائي ويؤشِّر على دوافع الاستخدامات الأكثر تواترًا في الشبكات الاجتماعية؛ إذ تُبرز معطيات الاستبيانات المتوفرة أن دوافع الاستخدام الأساسية لهذه الشبكات تتمثل في الحصول على الأخبار والمعلومات بنسبة 82%، والدردشة 66%، والتعليق والتفاعل 58%.

 الجدول رقم (3) يبيِّن دوافع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي

دوافع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي

النسبة المئوية (%)

البحث عن المعلومات والأخبار

81.31

الدردشة

65.53

التعليق والتفاعل

57.54

تقاسم الصور ومقاطع الفيديو

51.74

تقاسم الروابط

47.35

تقاسم المعلومات الشخصية

47.15

استخدام التطبيقات

27.47

أخرى

10.88

  • رابع معطى إحصائي دالّ ويرتبط بمستوى المشاركة في الصفحات المميزة على الشبكات الاجتماعية؛ إذ يرى 29% من المستطلعة آراؤهم أنهم أعضاء نشيطون، لكنهم لا يتدخلون بانتظام، في حين لا يتدخل 27% ضمنهم بالمرة على هذه الصفحات.

 الجدول رقم (4) يوضح نسبة التدخل في الصفحات المميزة لشبكات التواصل الاجتماعي

هل تعتبر نفسك عنصرًا نشيطًا من خلال المشاركة في الصفحات المميزة للشبكات؟

النسبة المئوية  (%)

نعم، أتدخل، لكن ليس دائمًا

29

لا، لا أتدخل

27

ليس دائمًا. أحب صفحة ثم أتغاضى عنها فيما بعد

24

نعم، أتدخل على مستوى هذه الصفحات وأتابع مستجداتها

19

أخرى

1

  • خامس معطى (وهو ذو دلالة مقارنة صرفة) ويتعلق بالانتظارات المرتبطة بالماركات التجارية les marques المتواجدة على الشبكات الاجتماعية؛ إذ تُبيِّن الإحصاءات أن 29% يتطلَّعون للحصول على تخفيضات تجارية، و22% للحصول على معلومات حصرية، فيما 16% للإفادة من النصائح. وهو ما يبدو جليًّا بالجدول رقم (5):

الانتظارات المرتبطة بالماركات المتواجدة على الشبكات الاجتماعية

النسبة المئوية  (%)

تخفيضات تجارية

29.05

الحصول على معلومات حصرية

21.51

الإفادة من النصائح

16.06

خدمات أخرى مماثلة

10.06

الإفادة من خدمة تفاعلية أكبر

10.06

إبداء الرأي

6.84

الاستفادة من التطبيقات

5.87

أخرى

0.56

2.1. بالبناء على المعطيات الإحصائية أعلاه، يمكن إبداء الملاحظات الثلاث الآتية:

  • أولًا: شبكات التواصل الاجتماعي أضحت حقًّا وحقيقة ظاهرة سوسيولوجية بامتياز؛ إنها لم تعد، كما كانت عليه الحال في زمن الندرة التكنولوجية، مجرد روافد إعلامية واتصالية مُكمِّلة للوسائل التقليدية، بل باتت في صلب العملية برمتها، بمقياس حجم الارتباط والحسابات الخاصة، كما بمقياس المشاركة في إنتاج المادة الخبرية وتبادلها بين أعضاء ذات الشبكات.
    ويبدو، بهذه النقطة، أن خاصية الأفقية التي تتمتع بها هذه الشبكات، قد مكَّنت كل من لديه حاسوب متواضع أو هاتف نقال بمواصفات غير معقدة، من أن يكون مصدرًا للمعلومة والخبر، على النقيض تمامًا من وسائل الإعلام التقليدية (صحافة مكتوبة وإذاعة وتليفزيون)، والتي كانت تحتكر مصدر المعلومة والخبر هذا، ولا تقوم بتصريف ما يتوفر لديها من أخبار ومعلومات إلا بانتقائية شديدة، ووفق أجندات يكون مبدأ دَمَقْرَطَة النفاذ للخبر آخر المفكَّر فيه.
  • ثانيًا: إن بروز هذه الشبكات وانتشارها الواسع بين مختلف شرائح المجتمع، لاسيما الشريحة الشابة(5)، أدَّى إلى انبعاث ممارسات جديدة، ودفع إلى اعتماد أنماط تواصل جديدة (سوسيو/تقنية بنظر البعض) جعلت من تقنية الويب الثاني أداة مَوْسَطَةٍ اجتماعية بامتياز.
    وعلى الرغم من أن هذه الـمَوْسَطَة الجديدة (الافتراضية على وجه التحديد) قد طاولت سلبيًّا الـمَوْسَطَة “الواقعية” التقليدية، وأدَّت إلى تراجع بعض من مزاياها الكبرى، فإنها أسهمت أيضًا في توسيع فضاء هذه الأخيرة وتنويع مرتاديها والمنضمين تحت لوائها.
    صحيح أن العالم الافتراضي يمنح المرء سُبُلًا جديدة في التواصل بحرية أكبر ودونما مركَّب نقص يُذْكَر (بحكم ميزة السرية)، لكنه لا يعفي المرء وفي الوقت ذاته، من الارتباط المادي بالفضاء الاجتماعي الذي يُؤَسِّس محيطه، ويمنحه ركائز الهوية والانتماء الذي لا إمكانية لتجاوزها أو التحايل عليها.
  • ثالثًا: إذا أضحى من الثابت اليوم أن شبكات التواصل الاجتماعي بالمغرب (لاسيما شبكة الفيسبوك) قد غدت ظاهرة سوسيولوجية (سوسيو/ثقافية) من منظور باتريس فليشي(6)، وبات لروادها تواجد مُعْتَبَر، فإن الدراسات والتقارير المتوفرة لم تنجح لحدِّ الساعة في تَعْيِين دورها بالتحديد: أَهِيَ أداة اتصال وتواصل عادية؟ أَهِيَ فاعل سياسي؟ أَهِيَ فاعل جمعوي؟ أم تراها فاعلًا اقتصاديًّا يركب السوق ناصيته لترويج تطبيقاته وخدماته وبرامجه، ومقاطع الإشهارات التي يدفع بها المعلنون من بين ظهرانيها؟
    ثم حتى لو ارتكن المرء إلى حجم ونسبة مرتادي هذه الشبكات، وأعداد الحسابات الخاصة المفتوحة بها، فإنه لا يستطيع معاينة استخداماتها بدقة، لاسيما في الفترات الزمنية التي لا تكون ثمة مستجدات كبرى تستوجب اللجوء لهذه الشبكات بكثافة. بمعنى أنه لو تسنَّى للمرء أن يُلامس دور هذه الشبكات عندما تستجد قضية اجتماعية أو سياسية أو دينية حتى، فإنه لا يستطيع ذلك في الفترات العادية؛ حيث يعاود الاستخدام طبيعته المهيمنة التي عبَّرت عنها الإحصاءات أعلاه.

ومن ثَمَّ، فإنَّ القناعة قائمة لدينا بأن دور شبكات التواصل الاجتماعي إنما يبقى رهينًا بالمستجدات على أرض الواقع، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال، أن يُفْرِزَها من تلقاء نفسه، أو يَخْلُقَ الحراك حولها، وإن تسنَّى له ذلك فبمستويات محصورة؛ وهو ما تمت معاينته أثناء وفي أعقاب الحراك الذي كانت خلفه حركة 20 فبراير/شباط 2011 من ناحية أولى، وما أفرزته أحداث أخرى فيما بعد من ناحية ثانية، في الوقت الذي تبقى فيه المساحة بين هاته وتلك “غير مغطَّاة” أو “مغطَّاة” بنسب متواضعة.

2. شبكات التواصل الاجتماعي وحراك 20 فبراير/شباط بالمغرب

1.2. حركة 20 فبراير/شباط هي تلك الحركة الاحتجاجية التي ظهرت في المغرب في سياق ما سُمِّي منذ العام 2010 بـ”الربيع العربي”؛ حيث خرج عشرات الآلاف من المواطنين المغاربة للتظاهر بالشارع استجابة للنداء الذي وجهَّته “التنسيقيات المحلية” لهذه الحركة، في خضم الحركية الكبرى التي أفرزتها التظاهرات في تونس، ومصر على وجه التحديد.

وعلى الرغم من أن معظم اللقاءات الترتيبية لأعضاء الحركة المؤسسين كانت تتم بمقار المنظمات الحقوقية غير الحكومية وبعض مقار أحزاب اليسار، فإن جزءًا من هذه اللقاءات قد تم تفعيله من خلال شبكة الإنترنت، إمَّا بواسطة الرسائل الإلكترونية أو من خلال غرف الحوار والدردشة أو ما سواها. وقد كانت كافية إلى حدٍّ ما للاتفاق على طبيعة المطالب المراهَن على رفعها، وكذا الأشكال التنظيمية التي تراءى للأعضاء المؤسِّسين اعتمادها. بيد أن هؤلاء الأعضاء سرعان ما اقتنوا ناصية الشبكات الاجتماعية لنشر “مسوَّدة” المطالب و”نداء التظاهر” المتفق عليه، بالإضافة إلى مقطع فيديو تحريضي، بُثَّ على منصة اليوتيوب وتم تقاسمه على نطاق واسع بشبكة الفيسبوك.

وإذا كانت التظاهرات الاحتجاجية قد اقتصرت، في بداياتها الأولى، على المدن الكبرى، فإنها قد طالت ابتداء من 20 فبراير/شباط 2011، أكثر من 140 مدينة وقرية، يزعم البعض أنها كانت الأكثر تنظيمًا وانسيابية من مثيلاتها بباقي دول “الربيع العربي”، لا بل والأكثر سلمية وانضباطًا.

ومع أن حركة 20 فبراير/شباط ليست منظمة قائمة الذات، بقدر ما هي شعار لتنسيقيات محلية متنوعة، فإنها قد استطاعت ملء أركان “المجال العام” بمطالب محدَّدة، لعل أقواها على الإطلاق إسقاط رموز الفساد ومحاكمتهم، وإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، وبناء نظام اقتصادي واجتماعي يُكرِّس قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية(7).

لم ترتكز الحركة على تنظيم مركزي ولا على قيادة وطنية مُوحَّدة، بل اشتغلت بتلقائية أفقية محلية، راهنت على عمليات التشاور عن قرب؛ أي: على “تجنيد” مختلف المجموعات التي بدأت تنظِّر لمبدأ التغيير من منطلق الحتمية، وبوازع  المصلحة المشتركة الواحدة.

ولذلك، فقد نجحت في تجاوز الحسابات السياسية أو الأيديولوجية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الإثنية، وفي صَهْر كل التوجُّهات الموجودة على الأرض، بما فيها التوجُّهات الراديكالية والإسلامية، لا بل والتغاضي عن بعض الحركات غير المعترف بها، كجماعة العدل والإحسان، وكذا المنظَّمات المدافِعة عن المعتقلين السلفيين القابعين في السجون وغيرها. بيد أن كل هذا لم ينفِ عن الحركة تأطيرها الضعيف للمحتجين؛ مما أدَّى إلى تحوُّل العديد من الوقفات إلى أفعال عفوية بدون أهداف واضحة، أو تصور سياسي قبلي، أو رؤية مجتمعاتية محددة المعالم والآفاق.

لقد كان لخاصية العفوية أثر سلبي على سلوك الحركة، لكنه منحها في المقابل “طُهْرَانِيَّتَها” واستقلاليتها بوجه تنظيمات وحركات راهنت منذ البدء للهيمنة عليها، وركوب موجتها لتثمين موازين القوى بوجه الدولة لفائدتها. لا يروم التلميحُ هنا جماعة العدل والإحسان التي كان لأعضائها والمتعاطفين معها تواجد ضخم، بل يروم أحزاب اليسار التي آوت الحركة بمقارها، واعتبرت أن مطالب الحركة هي مطالبها أيضًا، وألَّا تمايُزَ يستوجب حقًّا التمييز أو الفعل المستقل(8).

2.2. وبصرف النظر عن طبيعة الحراك الذي كانت خلفه حركة 20 فبراير/شباط، والتجاذبات الداخلية التي كانت تطولها أو تطول بعض تنيسقياتها هنا أو هناك، فإن ثمة ثابتًا مرتبطًا بهذه الدراسة، ومفاده التساؤل عن دور وسائط التواصل الاجتماعي في كل ما جرى بداية العام 2011 بالمغرب.

إن الدراسات والتقارير الرائجة بهذا الخصوص، تدفع بمقولة: إن شبكات التواصل الاجتماعي إنما كانت بوجه عام، أدوات الحراك الاجتماعي والسياسي الذي عرفه المغرب قبل وخلال وبعد 20 فبراير/شباط من العام 2011.

فقد أبانت نتائج استبيان تم تعميمه في حينه بإحدى مدن الجنوب المغربي(9) أن 78% من المستطلعة آراؤهم اعتبروا أن تكنولوجيات الويب الثاني كانت ذات أبعاد تجنيدية كبرى، إلا أن 41% منهم فقط هم من اطَّلعوا على “بيان التظاهر” الذي بثَّته حركة 20 فبراير/شباط على شبكة الفيسبوك، فيما 76% منهم لم يشاركوا في التظاهرات المترتبة على ذات النداء. لا، بل إن هذا التوجُّه بعدم المشاركة في تظاهرات من هذا القبيل، قد تأكد بوجود 60% من الأجوبة السلبية، أمَّا الـ40% المتبقية، فقد تجاوبت إيجابًا مع “نداءات” على الفيسبوك تتعلق بمواضيع متنوعة مرتبطة بالأحداث الاجتماعية والثقافية والدينية والرياضية وما سواها. وهذا ما يبيِّن، برأي البعض، أن هذه الشبكات الاجتماعية إنما هي وسائل للقاء والتسلية، وليست إلا بدرجة ثانوية، أدوات لخدمة “الاحتجاج الافتراضي”.

وشاهِدُ هؤلاء على ذلك هي المعطيات ذات الصلة بالانتخابات التشريعية التي ترتبت على الدستور الجديد، دستور ما بعد حراك 20 فبراير/شباط؛ إذ على الرغم من أن 74% من المستطلعة آراؤهم، قد عبَّروا عن اهتمامهم الشديد بمتابعة الحملة الانتخابية، إلا أن وسائل الإعلام التقليدية قد تبوَّأت المرتبة الأولى؛ حيث عبَّر 50% منهم عن كونهم تابَعوا هذه الحملة عبر التلفزة والإذاعة والصحافة المكتوبة.

صحيح، يقول هؤلاء، أن الإعلام بالمغرب، لاسيما السمعي/البصري منه، لا يزال تحت سيطرة الدولة، بدليل تنكُّره لحراك 20 فبراير/شباط وللتظاهرات المستمرة التي كانت تدور رحاها بكل أرجاء البلاد، إلا أنهم يشيرون بالمباشر الحي على الدور الكبير الذي قامت به فضائية الجزيرة من خلال تغطياتها للأحداث بعين المكان، أو من خلال البرامج الإخبارية والحوارية التي كانت تقدمها آناء الليل وأطراف النهار.

وصحيح، يتابع هؤلاء، أن شبكات التواصل الاجتماعي تعطي المرء إمكانيات للتفاعل مع الخبر، بزمن آني ودون انتظار نشرات الأخبار الدورية، أو وتيرة الصحافة المكتوبة المتباطئة، إلا أنهم مع ذلك يرون أن تغطية الفضائيات بالصوت والصورة وبالمباشر الحي، قد يمنح المرء ذات الامتياز أيضًا. ومن ثم، يخلص هؤلاء، إلى القول بأن دور هذه الشبكات لا يجب أن يُعطى أكثر من حجمه في تحريك الجماهير أو تجنيدها أو دفعها للنزول إلى الشارع.

3.2. لو كان لنا أن نقف من جديد عند دور الشبكات الاجتماعية (والفيسبوك على وجه التحديد) على ضوء الحراك الذي كانت حركة 20 فبراير/شباط خلفه، لقلنا التالي:

  • أولًا: ليس ثمة من شك في أن هذه الشبكات قد أسهمت في الترتيب للحراك الواسع الذي عرفه الشارع المغربي أواخر شهر فبراير/شباط من العام 2011؛ إذ كانت “اللقاءات الافتراضية” للتنسيقيات المحلية تقتني ناصيتها، لا بل وتتم من خلالها، على الأقل في البدايات الأولى، عندما كانت الحركة تصوغ مطالبها الأساس، وتهيئ الشعارات التي كانت تعتزم رفعها.
    نستطيع الجزم، بخصوص هذه النقطة، بأن هذه الشبكات كانت وسيطًا ناجعًا في بلورة المطالب والشعارات إياها، لا بل كانت الوسيلة الأقوى في ترتيب اللقاءات، وتحديد أماكن ومواعيد الوجود والاحتجاج، وتنسيق التحركات الموالية.
  • ثانيًا: أسهمت هذه الشبكات، وإلى حدٍّ ما، في رفع منسوب الوعي لدى أعضائها، إذا لم يكن بكل القضايا المجتمعاتية الكبرى، فعلى الأقل فيما يرتبط بقضايا الفساد والاستبداد، التي أَسَّسَت شعارات الحركات الاحتجاجية قبل 20 فبراير/شباط وخلاله وفيما بعده.
    لم تكن تلك الشبكات خلف بناء هذا الوعي أو تشكيله؛ إنها أذكته وأجَّجته ووجَّهته ليتحوَّل من وعي فردي خاص، إلى وعي جمعي مشترك، يكون مدخلًا لبناء رأي عام يُعْتَدُّ به “عند المنازلات” الكبرى مع السلطات العمومية.
  • ثالثًا: لو سلَّمنا جدلًا بأن شبكات التواصل الاجتماعي قد استطاعت حقًّا الترويج لمطالب وشعارات حركة 20 فبراير/شباط، على الأقل في مراحل الاحتجاج الأولى، واستطاعت “تبليغ” ندائها بضرورة التظاهر بالشارع والاحتجاج لتحقيق مطالبها، فإنها مع ذلك لم تنجح في إقناع الجماهير بالنزول إلى الشارع في حينه.
    وظيفة الإخبار، بهذه الجزئية، تم إدراكها تمامًا كوظيفة الإقناع، لكن الوظيفتين معًا لم تتجاوزا هذا الحد، ولم تذهبا لدرجة تجنيد ذات الجماهير ودفعها للالتحاق “جسديًّا” بالمتظاهرين.
    لقد أشرنا من قبل إلى أن نسبة كبيرة من مرتادي الشبكات الاجتماعية في المغرب لا تتجاوب كثيرًا مع القضايا ذات الطبيعة السياسية، ليس بسبب تذمر المغاربة من السياسة ومن السياسيين، ولكن بسبب استمرار تعامل بعضهم مع السياسة من منظور المتابع، لا من منظور الفاعل، وهو ما تَسْهُل ملاحظته في الحملات الانتخابية مثلًا، أو أثناء فترة الاستحقاقات الكبرى.
  • رابعًا: لو تأتَّى لنا أن نجزم بأن هذه الشبكات قد أسهمت حقًّا في إفراز مجال عام افتراضي، بمقياس ما حدَّده هابرماس تجاوزًا، فإنه من غير المؤكد الجزم بأن تلك الشبكات قد نجحت في ترجمة ذلك إلى مجال عام “مادي”، يكون بمقدوره الفعل المباشر على الأرض. ومن ثم، فإننا بهذه الشبكات إنما بإزاء عمليات تجنيد محدودة ومحصورة، ولا ترقى إلى مواصفات المجال العام المتعارف عليه، اللهم إلا إذا اعتبرناها امتدادًا (بالعالم الافتراضي) للمجال العام، أو رافدًا له بالشبكات الرقمية.

 3. شبكات التواصل الاجتماعي ومحطات ما بعد حراك 20 فبراير/شباط

1.3. ليس من الإنصاف حقًّا الادعاء بأن شبكات التواصل الاجتماعي كانت مجرد وسيط ثانوي للحراك الذي “فجَّرته” حركة 20 فبراير/شباط في العام 2011؛ إنها كانت وسيطًا مركزيًّا، إذا لم يكن في دفع الجماهير للنزول إلى الشارع “بالجملة”، فعلى الأقل في تعبئتها والرفع من منسوب الوعي لديها، وإقناعها بضرورة الفعل الجمعي على مستوى المعلومات والأفكار أولًا، ثم على مستوى التجاوب الميداني المباشر فيما بعد.

وإذا كان ثمة من دروس كبرى يمكن استقاؤها من تجربة حركة 20 فبراير/شباط في ركوب ناصية الشبكات الاجتماعية، فإنها تبدو لنا كامنة في التالي:

  • أولًا: نجحت هذه الشبكات حقًّا في تكوين “جبهة” ضغط افتراضية حقيقية، بوجه السلطة، لاسيما لدى رأي عام دولي لم يُخفِ تضامنه، لا بل وتعاطفه مع ما يجري أو مع ما يُرفع من مطالب وشعارات.
    صحيح أن فضاء الشارع هو الذي تجلَّت من بين ظهرانيِّه هذه الجبهة، وصحيح أن الشبكات إياها قد أسهمت في تصريف شعارات الفضاء إياه وتدويرها على نطاق واسع. لكن الذي لا يقلُّ عن كل ذلك صحة إنما قدرة وقوة هذه الشبكات على تجاوز أنماط التواصل التقليدية، والعمل من خارج مساطر البِنى المؤسساتية القائمة، حتى وإن كان لها أن تنسق معها في بعض المحطات.
  • ثانيًا: تؤشر سرعة التجاوب مع مطالب حركة 20 فبراير/شباط، والعمل على تجسيد مطالبها، على “صعود” نجم الحركة، بوجه ترهُّل دور الأحزاب والنقابات والتنظيمات المدنية الأخرى. صحيح أن مطلب الإصلاح الدستوري ودَمَقْرَطَة الحياة السياسية كان مطلبًا قديمًا رفعته هذه الهيئات من قبل، إلا أن وتيرة التجاوب معه وتضمينه العديد من شعارات الحركة، ناهيك عن ترتيب انتخابات تشريعية “نظيفة”، جاء في كثير من جوانبه كنتيجة عملية لاحتجاجات الحركة وضغطها بالشبكات كما على أرض الواقع.
    وعلى الرغم من أن حركة 20 فبراير/شباط قد دعت إلى مقاطعة الاستفتاء على الوثيقة الدستورية الجديدة (كونها غير كافية باعتقاد أعضائها)، ومن ثمة المطالبة بمقاطعة الانتخابات المترتبة عليها، فإن هذين الإنجازين (دستور جديد وانتخابات سابقة لأوانها) يُحسبان لها بحق، حتى في محدوديتهما بمقياس ما كان مطالبًا به.
  • ثالثًا: إن انحسار مدِّ حركة 20 فبراير/شباط وتراجع بريقها، بالشارع كما من بين ظهراني الشبكات الاجتماعية، لم تكن مدعاته انحسارًا ما لمطالبها أو إنجازًا تامًّا لها. إنه تأتَّى من عاملين اثنين:
    أ‌- قدرة السلطة والتنظيمات السياسية التقليدية على التحايل على مطالبها، واختراقهم لها بغرض تبنِّي المطالب إيَّاها ولو جزئيًّا، لاتخاذها ورقة تفاوض مستقبلية.
    ب‌- انحسار مدِّ “الربيع العربي” في مجمله، وانبعاث منظومة الدولة العميقة من جديد، لا بل ونجاحها إلى حدٍّ بعيد في إجهاض مطالب الجماهير والعودة بالأمور إلى مربع الصفر، المربع الذي انطلقت منه الاحتجاجات في اليوم الأول.

2.3. وإذا أضحى من الثابت اليوم أن حركة 20 فبراير/شباط قد “استنفدت” وظائفها وتراجع مدُّ بريقها، بسبب سياقات ما بعد “الربيع العربي”، فإنها تبقى مع ذلك مُلْهِمَة للعديد من المجموعات التي نسجت على منوالها، لكن بالاقتصار على تيمات وأجندات محدَّدة لا يسمح المجال هنا للتعرض لها مجتمعة، لكن بالإمكان الوقوف عند التجربة تلك التي كان لدورها وقع معتبر على الأرض:

  • الحملة الوطنية للمطالبة بإلغاء مهرجان موازين: وقد كان خلفها مجموعة من الفعاليات الشبابية عملت -من أجل مناهضة هذا المهرجان- على المزج بين التعبئة عبر الشبكات الاجتماعية، لاسيما الفيسبوك، والعمل الاحتجاجي على الأرض.
    وتطالب هذه المجموعة، خصوصًا عبر صفحتها على الفيسبوك، بضرورة إلغاء مهرجان موازين “الفني” السنوي، باعتباره خلف تبذيرٍ للمال العام من الأجدى، ترى المجموعة، توجيهه لتوفير الخدمات الاجتماعية وتعزيز البنيات التحتية في الصحة والتعليم والعدل وما سواها.
    وعلى الرغم من محدودية الأعضاء المنتمين لها افتراضيًّا (حوالي 35 ألف عضو)، فإن هذه المجموعة قد استطاعت إثارة النقاش، وتعبئة جزء لا يُستهان به لمناهضة مهرجان من هذا القبيل.
  • التنسيقية الوطنية للمطالبة بفتح دور القرآن: وهي المجموعة التي حملت على عاتقها مطالبة الدولة برفع الظلم عن أكثر من 67 جمعية كانت تُؤَطِّر أزيد من 70 دارًا للقرآن الكريم، والتي طالها الإغلاق بسبب عدم رضا السلطات العمومية عن أدائها، وتخوفها من أن تتحول إلى “أوكار لتفريخ الإرهاب”. ومع أن التنسيقية قد راهنت كثيرًا على الشبكات الاجتماعية لترجمة مطلبها هذا، فإنها لم تنجح في ثني السلطات للتراجع عن قرارها.
  • شباب مغربي ضد الفساد والاستبداد: وهي مجموعة من الشباب المغربي (حوالي 100 ألف) رفعوا بشبكات التواصل الاجتماعي تحدي كشف فساد الوزراء والولاة والمحافظين والبرلمانيين والمنتخبين الجهويين والمحليين، ورؤساء المؤسسات العمومية والإدارات والمصالح المركزية والإقليمية وما سواها.
    ميزة هذه المجموعة أنها أنشأت لها مراسلين بالعديد من النقاط في المغرب، لجمع المعلومات المتعلقة بسلوكيات الفساد والاستبداد وموافاة الصفحة الاجتماعية بها، بغرض تعميمها، وبالتالي خلق رأي عام حول ضرورة محاربتها، أو على الأقل التشهير بها وفضح الثاوين خلفها بالمجال العام.
  • مجموعة مقاطعة المنتجات الصهيونية ومناهضة التطبيع: وهي الحملة التي استقطبت على شبكة الفيسبوك أكثر من 20 ألف مشارك في بضعة أيام، من كُتَّاب وصحفيين وفاعلين جمعويين وغيرهم. وقد صاغت هذه المجموعة بيانًا على الشبكة تقول في أحد مقاطعه: “لن نبكي بعد اليوم على ما يحدث في فلسطين بإقامة المستوطنات وتوسيعها… لن نبكي على الجدار الفاصل… لن نبكي على انتهاك أقصانا… لن نستسلم لإرادتهم في تطويعنا وإرغامنا على التطبيع مع الصهيونية… إن مقاطعة المنتجات الصهيونية والعمل ضد التطبيع، هو قوة ضغط نهديها للزعماء العرب، ليساندونا ضد الحركة الصهيونية التي تسعى لدمار فلسطين ودول الطوق العربي والدول العربية”.
  • صفحة القانون الجنائي لن يمرَّ: وهي الصفحة التي أنشأها بعض الناشطين على الفيسبوك، وراهنت على تكوين رأي عام بغرض مناهضة مسودة القانون الجنائي الذي كانت تعتزم الحكومة المغربية إقراره، ويرى فيه الناشطون على الشبكات الاجتماعية تهديدًا للحريات الفردية والجماعية، وتكريسًا للعديد من “العقوبات التسلطية”، ناهيك عن كونه قد حمل تضييقات جديدة على عمل مكونات المجتمع المدني ذات الطبيعة الحقوقية، كما المشتغلة بالمجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.
  • صفحة لا للعفو على مغتصب الأطفال: وهي الصفحة التي حصلت على أكثر من 100 ألف مؤيد في ظرف يومين بالفيسبوك. وقد أُنْشِئت للتنديد بالعفو الملكي الذي مُنِحَ لـ”البيدوفيل” الإسباني دانييل كالفان، الذي اغتصب العديد من الأطفال المغاربة، وتم ترحيله لبلاده بعفو ملكي بعدما كان يقضي عقوبة مدتها ثلاثون عامًا.
    وقد نجح نشطاء الفيسبوك على الشبكة، وبالاحتجاجات الضخمة بالرباط والدار البيضاء، في دفع الملك إلى التراجع عن قرار العفو، بالتزامن مع إعفائه لمندوب إدارة السجون وفتح تحقيق حول تعنيف المتظاهرين المعتصمين بالشوارع لهذه الغاية.
  • صفحة لا للمدونة الرقمية: وهي الصفحة التي أنشأها ناشطون على الفيسبوك بغرض مناهضة مشروع قانون الحكومة لتنظيم المحتوى الإلكتروني على شبكة الإنترنت، والذي اعتبروه تراجعًا عن المكاسب وانتكاسة للحريات الإعلامية وحرية التعبير. وقد تمكَّنت هذه الصفحة والاحتجاجات المواكبة لها في الشارع من ثَنْي الحكومة عن مسعاها، وإرغامها على سحبه، ثم إزاحته من على موقع الأمانة العامة للحكومة في إشارة إلى تجميده ولو إلى حين.
    كل هذه المواقع والصفحات إنما تبيِّن اللجوء المتزايد لـ”الناشطين الافتراضيين” للشبكات الاجتماعية، إمَّا للتنديد بسلوك مشين، أو الاعتراض على قرار غير سليم، أو التشهير بسياسات بحاجة إلى تقويم. البعض من هذه التحركات نجح في مرماه، في حين أن أُخْرَيات لم تنجح عمليًّا، حتى وإن كان لمداها وقع مهم على مستوى التوعية والتحسيس.

3.3. قد يكون مرجع “الفشل” انحسارًا في مدِّ هذه الظاهرة أو تلك (كما تعرضنا لذلك لدى حديثنا عن تجربة 20 فبراير/شباط). وقد يكون مرجعه عدم تجاوب السلطات العمومية مع المطالب المرفوعة، أو التجاوب معها في حدود معينة، لكنه (الفشل أقصد) قد يكون متأتيًا من استهداف مباشر للحركات والمجموعات من لدن الدولة مباشرة، كما وقع مع حركة “مامفاكينش” (أي: لن نتراجع) التي كانت تشتغل بموازاة حركة 20 فبراير/شباط، والتي تعرضت في يوليو/تموز من العام 2012 لضربة قاتلة على مستوى خادمها، من لدن برنامج معلوماتي متخصص في ذلك، تُقدَّر تكلفته بـ200 ألف يورو، تم اقتناؤه لدى شركة إيطالية (هاكينغ تيم) متخصصة في تلويث البرامج وشلِّ المواقع. وعلى الرغم من محاولات التأمين المعلوماتي التي لجأ إليها موقع “مامفاكينش”، فإنه لم يستطع مداواة الأذى، ليتوقف عن النشر نهائيًّا في فبراير/شباط 2014(10).

إن العبرة من واقعة “مامفاكينش” لا يجب البحث عنها في قدرة السلطة على محاصرة المواقع، أو اختراقها، أو متابعة أصحابها ومقاضاتهم، بناء على تمطيط هذه المادة القانونية أو تلك، بل يجب استقاؤها من تصميم السلطة إياها على محاربة الناشطين على منصات الشبكات الاجتماعية، وبنفس الأدوات هذه المرة، دونما أن يترك الفاعل أثرًا يُذكر على الأرض. ولذلك، يعتقد البعض بأن محاربة الدولة لهذه “الشبكات الرائعة” إنما هو دليل كاف للتأشير على استمرار الفساد والاستبداد، وعدم الجدية في بناء ديمقراطية تتجاذبها السُّلطة والسُّلطات المضادة دون تجبُّر من هذه، ولا مزايدة من تلك.

ومعنى ذلك أن السلطة لم تتعامل مع مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارهم فرقاء “جددًا” من المفروض الإنصات لهم وإشراكهم في مناقشة قضايا الشأن العام حالًا وفي المستقبل، بقدر ما تعاملت معهم من منظور الغرماء والمنافسين وذهبت لحدِّ نعتهم بأقدح النعوت من قبيل “مثيري الفوضى” و”المراهقين” و”المشاغبين” وما سوى ذلك.

ومع أن الحركات الاحتجاجية (حركة 20 فبراير/شباط وما تلاها من حركات) كانت ولا تزال تدرك أن الثاوين خلف الفساد والمتحصِّنين بمنطق الاستبداد، لن يقبلوا بسهولة بأن يُطرح بالمجال العام ما من شأنه زعزعة قواعد اللعبة القائمة، فما بالك بالطموح إلى تقويضها؟! فإنها (أي الحركات) أدركت -ولا يزال بعض منها يدرك- أن حجم استهداف السلطة لها إنما هو عربون على قوتها ودليل على أن مطالبها قد بلغت هدفها، إذا لم يكن على مستوى التجسيد الفعلي لذات المطالب، فعلى الأقل على مستوى رواج الفكرة… فكرة أن ثمة من الأصوات من لا يمكن إسكاته ولا ممارسة المراقبة على ما يُروِّجه بشبكات التواصل الاجتماعي.

4. استنتاجات

ثمة أربع خلاصات كبرى بالإمكان استنتاجها، بالبناء على ما سبق من حديث:

  • الخلاصة الأولى: ومفادها أن الشبكات الاجتماعية قد أسهمت حقًّا وحقيقة في تأسيس مفاصل المجال العام بالمغرب، ليس فقط بخصوص فضاء النقاش والحوار الذي فتحته أمام الجمهور، ولكن أيضًا كونها فسحت لهذا الأخير سبل الإسهام غير المباشر في اتخاذ القرار. ولعل تجربة 20 فبراير/شباط وما تلاها، خير نموذج على ذلك. بيد أن ذات المجال (الافتراضي أقصد) لم يكن يشتغل باستقلالية تامة، بقدر ما كان يرتكز على المجال العام (الواقعي) لتصريف قراراته على الأرض.
  • الخلاصة الثانية: ومؤداها أن شبكات التواصل الاجتماعي بالمغرب لم تُسهم فقط في إعادة تشكيل المجال العام كما عهدناه من قبل، بل أسهمت أيضًا في توسيع نطاقه، وتمديد فضاء فعله وتفاعله. ومن ثم، فالمجال العام الواقعي لم يعد محصورًا في الأطر الجغرافية أو السياسية أو الثقافية التي كانت ترسم حدوده، بل بات له رافد معتبر (إضافي يقول البعض) على الشبكات، يطول من خلاله جمهورًا ذا هوية افتراضية خالصة، وليس لبعض منه  أدنى فكرة عما هو المجال العام المادي.
  • الخلاصة الثالثة: ليس من الدقة كثيرًا الادعاء بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي وسيط كباقي الوسائط (لاسيما التقليدية منها)؛ إنه كذلك في جزء منه، لكنه أيضًا فاعل مركزي وأساس، إذا لم يكن على مستوى الفعل المباشر، فعلى الأقل باعتباره بيئة تُسهِّل التفاعل من خلال تعبئة الرأي العام.
  • الخلاصة الرابعة: صحيح أن دور هذه الشبكات أساسيٌّ ومحوريٌّ في إعادة بناء رأي عام، مرتكز وقائم على توافر مجال عام، لكن ذلك لا يكفي في حدِّ ذاته، إذا لم يتم خلق جسور تصريف القرارات والمداولات بين هذا المجال الافتراضي والمجال العام على أرض الواقع.

_____________________________________
د. يحيى اليحياوي – مركز الجزيرة للدراسات

هوامش
1. انظر في الأطروحة/الأصل للمجال العام:
Habermas, J. L’espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, (Paris, Payot, Réédition, 1988).
2. الحركات الاحتجاجية بالمغرب مثلًا، كانت سابقة على مرحلة “الربيع العربي”، إلا أن هذا الأخير أعطاها زخمًا إضافيًّا ومصداقية أكبر. انظر بهذا الخصوص:
Rachik, Abderrahmane, “Nouveaux mouvements sociaux et protestations au Maroc”, (IRES, Rabat, Avril 2010), p. 65.
3. تُقدِّر المعطيات الإحصائية الرائجة أن عدد صفحات الفيسبوك بالمغرب تجاوزت 3 ملايين صفحة أواخر 2011، وتقدرها اليوم فيما بين 8 و10 ملايين صفحة، يُستهلك معظم إنتاجها الرقمي من خلال الهواتف المحمولة (مصادر متنوعة).
4. كل البيانات والجداول في هذا الباب مستقاة من نتائج استطلاع أجرته مؤسسةMaroc Numeric Cluster حول استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بالمغرب في يوليو/تموز 2014:
Averty.ma, Maroc Numeric Cluster, “Les résultats de l’enquête Maroc Numeric Cluster et Averty sur l’utilisation d’internet et des réseaux sociaux au Maroc auprès de 1000 répondants”, Juillet 2014.
5. حوالي 90% من مرتادي الشبكات الاجتماعية بالمغرب لا تتعدى أعمارهم 34 عامًا.
6.انظر في تفاصيل هذا الطرح:
Flichy. P, L’imaginaire d’internet, )Coll. Sciences et Société, Paris, 2001(, p. 276.
7. انظر في نشأة وتطور حركة 20 فبراير/شباط:
Mernissi. Laïla, “Le mouvement du 20 Février : vers une seconde influence”, )Revue Averroès, n° 4-5, 2011(, p. 10.
8. راجع في التجاذبات التي طالت حركة 20 فبراير/شباط من لدن الأحزاب السياسية، لاسيما أحزاب اليسار:
El Karmouni, Ghassan Waïl, “Mouvement du 20 Février : quels enseignements pour la gauche marocaine?”, 13 Mars 2012 (Sans Référence supplémentaire), p. 11.
9. راجع في تفاصيل المعطيات الواردة في هذا الباب:
Amsidder, Abderrahmane ; Toumi, Farid, Daghmi, Fathallah,”La mobilisation sociale à l’ère des réseaux sociaux : cas du Maroc”, Journal For Communication Studies, )Vol 5, n° 1 (9), 2012(, p. 12.
10. انظر في تفاصيل استهداف حركة مامفاكينش:
Privacy International, “Les yeux du pouvoir: rencontres avec des citoyens marocains sous surveillance”,Privacy International, )London, février2015(, p. 40.