دخلت الحرب الأوكرانية شهرها الرابع. ثمّة نتيجة وحيدة مضمونة إلى الآن. تلخص هذه النتيجة كلمتان فقط: تغيّر العالم. تغيّر العالم كليّا وفقدت أوروبا ثقتها نهائيا بفلاديمير بوتين الذي راهن على انتصار سريع. راهن على ذلك من منطلق أن مسألة تغيير النظام القائم في البلد الجار مسألة وقت وأنّ الشعب الأوكراني سيستقبله بالورد.
ما من المفيد ملاحظته في الوقت الراهن أنّ الجيش الروسي الذي لم يستطع احتلال العاصمة كييف غيّر أهدافه. بات واضحا أن في استطاعته السيطرة على شرق أوكرانيا وضمّها إلى روسيا على غرار ما فعل في شبه جزيرة القرم في العام 2014. الفارق أن شبه جزيرة القرم أرض روسية أصلا ضمّها نيكيتا خروشوف إلى أوكرانيا من منطلق أنّها كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي، فيما لا خلاف على أن شرق أوكرانيا وجنوبها أرض أوكرانية بغض النظر عن وجود مواطنين يتحدثون الروسية فيهما.
لن يكون الموضوع في المستقبل القريب موضوع الاحتلال الروسي لجزء من أوكرانيا بمقدار ما سيكون موضوع التعاطي الأوروبي والأميركي مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين. بكلام أوضح، هناك عودة إلى الحرب الباردة في غياب ضوابط للتصعيد الذي يمكن أن يلجأ إليه الرئيس الروسي. يعود ذلك إلى أنّ فلاديمير وضع نفسه، بسبب حساباته الخاطئة التي شملت الاستخفاف بالعالم، في موقف صعب. يتمثل هذا الموقف في أنّ لا خيار أمامه غير التصعيد، لا لشيء سوى لأنّ أي تراجع يقدم عليه سيقضي على ما بقي من مستقبله السياسي.
◙ تكفي نظرة إلى خارطة أوروبا لاكتشاف معنى سقوط أوكرانيا تحت الهيمنة الروسية. سيعني ذلك سقوط رومانيا وبولندا أيضا
الأكيد أن بوتين يتذكّر كلّ يوم مصير الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف الذي انتهى سياسيا في العام 1964. دفع خروشوف عمليا ثمن أزمة الصواريخ التي أراد الاتحاد السوفياتي نشرها في كوبا في العام 1962. أخطأ خروشوف واضطر إلى التراجع بعدما واجهته الولايات المتحدة بحزم ليس بعده حزم، خلافا لما كان يعتقده.
وقتذاك، أبدى الرئيس جون كينيدي استعداده للذهاب إلى مواجهة شاملة مع الاتحاد السوفياتي في حال إصراره على إرسال صواريخ إلى كوبا التي هي، من الزاوية العسكرية، جزيرة على مرمى حجر من الأراضي الأميركية.
وجد في العام 1962 من ينقذ ماء الوجه لخروشوف وذلك بعد إظهار تراجعه عن نشر الصواريخ وكأنّه في مقابل سحب صواريخ أميركية من تركيا. من في السنة 2022 ينقذ ماء الوجه لفلاديمير بوتين؟
تكمن المشكلة في أن أوكرانيا جزء من أوروبا وليست في مكان آخر من العالم. ليست بالطبع سوريا حيث لم يهتمّ أحد بما فعله السلاح الروسي فيها وبشعبها الثائر في وجه نظام أقلّوي لا يعرف كيفية التعاطي مع شعبه سوى بالحديد والنار.
نعم، غيّر فلاديمير بوتين العالم. أوروبا لم تعد أوروبا. ستتخذ الدول الأوروبية مزيدا من التدابير الجديدة لفرض عقوبات أشدّ صرامة على روسيا. ستبدو أوروبا منقسمة على نفسها، لكنّ الواضح أنها اتخذت قرارا بعدم التعاطي بعد الآن مع فلاديمير بوتين. فوق ذلك كلّه، ستسعى أوروبا، بقيادة ألمانيا، إلى الاستغناء تدريجا عن النفط والغاز الروسيين.
لا تستطيع أوروبا البقاء تحت رحمة روسيا وغازها بأيّ شكل وذلك بغض النظر عما سيحصل في أوكرانيا… بقي فيها الجيش الروسي أم لم يبق. أكثر من ذلك، يتبيّن حاليا، على الرغم من كلّ الهفوات التي ارتكبتها إدارة جو بايدن أنّ الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى ولا تزال متقدّمة على كلّ القوى التي برزت في السنوات الماضية في مقدمتها الصين.
يحتاج العالم إلى عقلاء يستطيعون إيجاد صيغة ما تنقذ ماء الوجه لفلاديمير بوتين الذي يتبيّن يوميا أنه لا يعرف الكثير عمّا يدور على الكرة الأرضية. لا يدرك الرئيس الروسي معنى أن يكون حجم الاقتصاد الروسي أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي. يرفض أخذ العلم بالأسباب الحقيقية لانهيار الاتحاد السوفياتي. إنّه رجل خطر بكلّ معنى الكلمة، خصوصا أنّه أسير أوهام يعجز عن التخلّص منها. يشبه إلى حد كبير الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي يرفض الاعتراف بأنّ تركيا دولة من دول العالم الثالث لا أكثر وأن عليها التصرّف ببعض التواضع من أجل أن يتقبلها محيطها العربي وغير العربي… ومن أجل أن تلعب دورا إيجابيا في إطار هذا المحيط.
◙ الموضوع لن يكون في المستقبل القريب موضوع الاحتلال الروسي لجزء من أوكرانيا بمقدار ما سيكون موضوع التعاطي الأوروبي والأميركي مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين
في سياق كلّ هذه المعطيات، يبدو منطقيا بالنسبة إلى دول عربية معيّنة تدرك ما على المحك في المنطقة الإبقاء على شعرة معاوية مع بوتين. كذلك، من حق هذه الدول العربية التعاطي بحذر مع إدارة أميركية لا تعي كلّيا مدى خطورة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يهدّد كلّ دولة من دول المنطقة.
ما العمل في عالم تبدلت فيه كلّ المقاييس بسبب فلاديمير بوتين واعتقاده أنّ في استطاعته إخضاع بلد مثل أوكرانيا بحجة أن لديه رغبة في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو). لن تنضم أوكرانيا إلى الأطلسي. المفارقة أن السويد وفنلندا قررتا الانضمام إلى الحلف!
تكفي نظرة إلى خارطة أوروبا لاكتشاف معنى سقوط أوكرانيا تحت الهيمنة الروسية. سيعني ذلك سقوط رومانيا وبولندا أيضا. سيعني ذلك أنّ خارطة أوروبا ستتغيّر وتعود إلى ما كانت عليه قبل سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. كلّ ما في الأمر أنّ سقوط جدار برلين أدّى في نهاية المطاف إلى انهيار كلّ المنظومة الأوروبية التي كانت قائمة بعد الحرب العالمية الثانية. لم يدرك فلاديمير بوتين في أيّ لحظة خطورة ما فعله عندما اجتاح أوكرانيا. لم يدرك أنّه أيقظ ألمانيا مجددا وأن حربه الحقيقية في أوروبا هي مع ألمانيا التي استعادت وحدتها بعد سقوط جدار برلين…
سيحتل الجيش الروسي جزءا من أوكرانيا. ماذا بعد ذلك؟ من يستطيع احتواء فلاديمير بوتين والحؤول دون متابعته السير في سياسة لا أفق لها غير ضرب الاستقرار العالمي… في انتظار اليوم الذي سيحاسبه فيه الشعب الروسي على طريقة محاسبة نيكيتا خروشوف في 1964.
العر ب