يبدو أن كلام مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن مصير مفاوضات فيينا، بات أقرب إلى الواقع. لقد قال، “كلما أطلنا الانتظار، فإن إمكانية الوصول إلى نتيجة نهائية للمفاوضات تصبح أكثر صعوبة”. وهي قراءة تقترب من الواقعية في هذه المرحلة، نتيجة ما يمكن تلمسه من أن طرفي الأزمة، أي الإدارة الأميركية والنظام الإيراني، يسيران في اتجاهين متعاكسين، ما يعقد المشهد ويسد الأفق أمام التوصل إلى تفاهم بينهما يساعد في إعادة إحياء الاتفاق، وما يعني من تفاصيل أساسية في قطع الطريق على الطموحات النووية الإيرانية.
وعلى الرغم من النافذة التي فتحتها الوساطة الأوروبية التي حملها إنريكي مورا، مساعد بوريل، خلال زيارته إلى طهران، والتي ساعدت في إيجاد مخرج للاختلاف بين واشنطن وطهران على خلفية شرط الأخيرة رفع العقوبات عن “الحرس الثوري” وتأجليه إلى ما بعد إعادة إحياء الاتفاق القديم بكل تفاصيله، فإن واشنطن لم تتجاوب مع هذه الخطوة التي جاءت برعاية مورا.
لا شك في أن التجاوب الإيراني مع المبادرة الأوروبية، كانت مكلفة وباهظة الثمن على النظام والتيار المحافظ الذي كان يسعى لتحقيق مكاسب من هذه المفاوضات في اللحظات الأخيرة، وأن يستغل الانشغال الأميركي والأوروبي بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية وما خلفته من أزمات معقدة ومتداخلة اقتصادية وأمنية وغذائية، وإرباك في توفير الطاقة ومصادرها تعويضاً عن المصادر الروسية التي دخلت في دائرة العقوبات والحصار.
فالتخلي الإيراني عن مطلب أو شرط رفع العقوبات عن الحرس الثوري، واعتبارها من الخطوط الحمراء للنظام والحكومة ويمس السيادة الوطنية، لجهة الدور الذي تقوم به هذه المؤسسة في الداخل والخارج، قد يكون بمثابة انتكاسة أيديولوجية واستراتيجية للتيار المحافظ الذي فشل في حماية أحد أبرز أركان سلطته وعنوان من عناوين سيطرته، وهو الركن الرئيس في استراتيجيته الخارجية، خصوصاً في المناطق أو الساحات التي تدخل ضمن المحور الذي يقوده النظام في الإقليم.
ومع التخلي الإيراني عن شرط العقوبات على الحرس الثوري حاولت طهران الاستعاضة عنه بشرط الحصول على ضمانات أميركية عملية بإلغاء العراقيل أمام إعادة دمج إيران بالنظام العالمي المالي، وأن تكون قادرة على الاستفادة من الامتيازات المترتبة على إعادة إحياء الاتفاق اقتصادياً وتجارياً ومالياً من دون عراقيل ومعوقات. إلا أن هذا الطلب جوبه بموقف أميركي حازم، التزمت فيه واشنطن إعادة تفعيل اتفاق عام 2015 من دون أي تعديلات أو تغييرات.
هنا، يبدو أن المفاوض الإيراني لم يتعلم من تجربة لعبة الحرس والخط الأحمر ولجوئه إلى التخلي عنها مع ما فيها من آثار سلبية على صورته العقائدية والسياسية والتفاوضية، إذ عاد إلى استخدام الأسلوب والسياسة نفسها في مسألة العقوبات، برفعها إلى مستوى “الخط الأحمر” الجديد، والتأكيد أن إيران تنظر إلى حقها في الاحتفاظ بالبرنامج النووي ورفع العقوبات على أنه خط أحمر لا يمكن المساومة عليه.
سياسة الخطوط الحمراء التي تسيطر على الموقف التفاوضي للنظام الإيراني، أو الفريق المفاوض، جعلت التنازلات التي يقبل بها تنازلات بـ”اللون الأحمر”، وتكرارها وتكرار التنازل عنها، يكشف حجم حاجة الفريق المفاوض إلى تحقيق أي إنجاز، خصوصاً أن وصوله إلى السلطة على حساب التيار الذي يمثله الرئيس السابق حسن روحاني، ترافق مع وعود بالثبات ومواجهة مسار الاستسلام أمام الغرب، وفي الوقت نفسه القدرة على تحقيق ما لم يستطع الآخرون تحقيقه في تحصيل الحقوق الإيرانية ورفع العقوبات الاقتصادية.
وإذا ما كانت أسباب تشدد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في موفقها التفاوضي إزاء الشروط الإيرانية، هي نتيجة أزمة داخلية أميركية وصراع السلطة على مقربة من الانتخابات الفرعية للكونغرس، ومحاولة بايدن إبعاد التهمة عنه بالتساهل مع إيران والرضوخ لمطالبها وشروطها، فإن التنازل الإيراني أمام هذا التشدد يعبر عن خوف طهران من إمكانية أن تنتهي لعبة الشد والجذب التي تمارسها واشنطن إلى إقفال النافذة المتبقية التي تسمح بإعادة إحياء الاتفاق والتخفيف من العقوبات المفروضة عليها.
غير أن هذا المسار التسووي الذي اعتمدته طهران، وإن كان تحت شعار “لن نقدم أي تنازلات أو امتيازات في المفاوضات النووية”، خلق حالة انقسام داخل تيار السلطة المحافظ. انقسام بدأ يتحول إلى صراع واضح بين توجهين متناقضين أو متضادين. الأول يتمسك بالمفاوضات وضرورة الخروج من العقوبات، باعتبارها فرصة لا تعوض لكبح مسار الانهيار الاقتصادي وما يشكله من تهديد حقيقي لاستقرار النظام في ظل تنامي حالات الاعتراض الشعبية على الأزمات المعيشية، في حين يدعو الاتجاه الثاني إلى تعطيل التفاوض والخروج من الاتفاق النووي، والعودة إلى المسار الذي كان سائداً قبل المفاوضات، وتعزيز الدور والنفوذ الخارجي وما يتطلبه من استعداد للدخول في مواجهة عسكرية في حال تعرضت إيران لأي اعتداء، مع افتراضه عدم قدرة الولايات المتحدة على الدخول في حرب مع إيران. وهذا الانقسام يعمق أزمة النظام ويضعه أمام تحد بين خيارين هما التفاوض والقبول بما فيها من تسويات وتنازلات لن يكون ثمنها أغلى من بقاء النظام واستمراره، أو المغامرة والمقامرة بكل ما في يد النظام والذهاب إلى تعطيل التفاوض والانسحاب وما في ذلك من تبعات وتداعيات مجهولة النتائج.
اندبندت عربي