تمر العلاقات الخليجية ـ الأمريكية (كما أوضحت في المقالين السابقين) منذ ثلاثة عقود بمرحلة امتحان وتحد وعدم ثبات وتراجع الثقة بالحليف الأمريكي على جميع الأصعدة بسبب حروب بوش الابن الاستباقية تحت يافطة الحرب على الإرهاب وحربي أفغانستان والعراق، وانكفاء أوباما ونزوات ترامب ومناكفات بايدن. ما عمّق ووسع هامش عدم الاستقرار في منطقة الخليج العربي لمصلحة إيران.
وخفض الرئيس أوباما مكانة منطقة الخليج العربي ودور الحلفاء الخليجيين بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015، بمفاوضات سرية ثم علنية، ولم يأخذ بهواجس الخليجيين وتدخلات إيران وتهديدها لأمن المنطقة ما مكن إيران من التفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية. ولم يتعرض لحلفائها وتراجع في آخر لحظة عن توجيه ضربات لقوات بشار الأسد في سوريا بعد تجاوز خطوط أوباما الحمراء باستخدام الكيماوي في غوطتي دمشق في صيف 2013. ثم أتبع ذلك باستراتيجية الاستدارة شرقاً لآسيا الفاشلة لاحتواء الصين.
فشلت الإدارة بسبب نزواته وارتجالاته وعدم ثباته على استراتيجية فعالة في جسر هوة عقدة المعضلة الأمنية الخليجية، بأخذ موقف منحاز من الأزمة الخليجية قبل 5 أعوام-قبل تدخل الدولة العميقة، ولم يطمئن السعودية والحلفاء الخليجيين بعد استهداف إيران منشآت أرامكو في أبقيق وخريص في المنطقة الشرقية في السعودية عام 2019، واغتيال قاسم سليماني عام 2020، وتحويل العلاقة إلى علاقة تجارية واستثمارات ومقايضات.
أما الرئيس بايدن وإدارته فاستمرت بمواقف متشددة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة تجاه المملكة العربية السعودية، حتى قبل بدء رئاسته هدد السعودية بالتعامل معها بصرامة على خلفية اغتيال جمال خاشقجي. وأعلن أنه سيتعامل مع الملك سلمان دون غيره. ورفع تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، كان الرئيس ترامب صنفها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية ـ وأوقف التعاون العسكري في اليمن ـ وسحب جنود وأنظمة صواريخ دفاعية من السعودية ودول خليجية وعربية.
ودخل الرئيس بايدن في مناكفات لا تساعد في طمأنة الحلفاء الخليجيين الذين وقفوا مع أمريكا وأنقذوا بايدن من ورطة انسحابه المرتبك من أفغانستان بعد عشرين عاما وأطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة انتهت بانتصار وعود حركة طالبان لحكم أفغانستان.
لكن حرب روسيا على أوكرانيا وتهديد أمن الطاقة والأمن الغذائي العالميين ـ ولاحتواء التقارب الروسي الخليجي، خاصة بعد زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف ولقائه مع وزراء الخارجية الخلجيين في الحوار الاستراتيجي الخامس في الرياض ـ ولكبح جماح التضخم الناجم عن الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار السلع وخاصة أسعار البنزين والوقود لدى المستهلك الأمريكي الغاضب والذي قد يصب جام غضبه على بايدن وحزبه في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم ـ ما سيتسبب بخسارة أغلبية الديمقراطيين أغلبتهم في مجلس النواب وعرقلة مشاريع بايدن في الكونغرس ـ ما سيصعب إعادة انتخابه رئيساً عام 2024، أجبرت جميع تلك الوقائع المرة، بايدن على إعادة حساباته في مقاربته لعلاقة إدارته وموقفه الشخصي تجاه المملكة العربية السعودية.
زيارة الرئيس بايدن للسعودية ولقاؤه القادة الخليجيين مهمة لتصويب العلاقات الأمريكية ـ الخليجية ـ وإعادتها لمسارها التقليدي وبناء الثقة المفقودة
شهدنا الأسبوع الماضي تحولات بارزة في موقف بايدن وإدارته تجاه السعودية. ثمن البيت الأبيض وأشاد بقيادة السعودية ومساهمتها الإيجابية والتوافقي مع الإمارات والكويت والعراق بالتوافق داخل مجموعة أوبيك بلس (تحالف من 23 دولة بقيادة السعودية وروسيا) ـ على بدء زيادة انتاج المجموعة بـ648 ألف برميل نفط يومياً لشهري يوليو وأغسطس القادمين بدل من سبتمبر.
كما رحب البيت الأبيض بدور الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان القيادي والمبادرة الشجاعة لوقف اطلاق النار برعاية الأمم المتحدة لمدة شهرين في اليمن. مع مشاركة دول أخرى وخاصة سلطنة عمان، ما مهد لتجديد هدنة وقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن تحت رعاية الأمم المتحدة ومشاركة المبعوث الأمريكي لليمن لندركنغ.
وكانت إدارة الرئيس بايدن في سعيها لبناء الثقة مع السعودية والحلفاء الخليجيين، حسب تسريب رئيس وزراء إسرائيل بنيت ـ رفضت رفع تصنيف الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية كان الرئيس ترامب صنفها في تلك القائمة. كما أعلن البيت الأبيض عن ترشيح الرئيس بايدن مايكل راتني سفيراً للسعودية. كما أرسل الرئيس بايدن قياديين في إدارته بزيارات بعضها غير معلن للسعودية للتمهيد لتطبيع العلاقات بدءاً بمدير الاستخبارات المركزية ـ CIA ـ بيل بيرنز في أبريل الماضي والمنسق الأمريكي للشرق الأوسط في البيت الأبيض برت ماغورك ـ واموس هوشستاين مبعوث الخارجية الأمريكية لشؤون الطاقة زيارة السعودية للتباحث في زيادة انتاج النفط والتحضير لزيارة الرئيس بايدن القادمة.
هذه الوقائع العملية بالإضافة لعمل على استمالة السعودية والحلفاء الخليجيين للاصطفاف مع الغرب واحتواء محاولات روسيا التقارب من الحلفاء الخليجيين الذي بقوا على الحياد تجاه العقوبات على روسيا ـ خاصة بعد قرار الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي فرض عقوبات وخفض واردات النفط الروسي بنسبة الثلثين، وللحد من تفلت وارتفاع أسعار النفط والوقود عالمياً حيث تجاوز سعر برميل النفط 120 دولاراً ـ دفعت الرئيس بايدن لتصحيح مسار بوصلة العلاقات الأمريكية ـ الخليجية وخاصة الأمريكية-السعودية ليقوم بزيارة فرضتها الواقعية والمصلحة السياسية وقضايا الداخل الأمريكي الضاغطة على بايدن وحزبه. وهذا يثبت أن السياسة والمواقف غير ثابتة بل تخضع لمتغيرات الظروف المستجدة.
طبعاً زيارة بايدن مهمة ومفترض أن تؤسس لتصحيح بوصلة العلاقات ـ بطريقة رابح ـ رابح للطرفين. بطمأنة الحلفاء الخليجيين حيال الأمن الخليجي وأخذ في عين الاعتبار مصالح دول مجلس التعاون في الاتفاق النووي مع إيران ـ حيث رفع وزراء الخارجية الخليجيين السقف، وطالبوا «المشاركة في المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي وبقية الملفات». وكذلك موقف إدارة بايدن من الحوثيين والعودة للتنسيق والتعاون الأمني في اليمن وملفات المنطقة.
أؤكد زيارة الرئيس بايدن للسعودية ولقاءه القادة الخليجيين مهمة لتصويب العلاقات الأمريكية ـ الخليجية ـ وإعادتها لمسارها التقليدي وبناء الثقة المفقودة- يعلم الطرفان أن لا روسيا ولا الصين وغيرهما لديهم القدرة والإرادة لتعويض دع عنك استبدال دور وثقل والحضور العسكري والأمني الأمريكي في منطقة الخليج والشرق الأوسط، ولذلك من مصلحة الطرفين إيجاد أرضية مشتركة للانتقال لمعادلة رابح ـ رابح!
القدس العربي