إذا شعرت روسيا بأنها تُهزم، فإنها يمكن أن تعمد إلى مهاجمة الناتو، أو أن تلجأ إلى استخدام الأسلحة الكيماوية -أو حتى النووية- لتجنب الهزيمة النهائية. على المدى الطويل، كما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سوف تحتاج أوروبا إلى إيجاد طريقة للعيش مع روسيا. * * كييف وواشنطن العاصمة- سوف تُكسَب الحرب في أوكرانيا، كما يقول رئيسها، فولوديمير زيلينسكي، في ساحة المعركة، لكنها لا يمكن أن تنتهي إلا من خلال المفاوضات فقط. فمتى سيتم إيقاف القتال في ذلك البلد وبأي شروط؟ يقول الغرب إن القرار يعود لأوكرانيا نفسها. ومع ذلك، بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب، تشرع الدول الغربية الآن في تحديد مواقفها بشأن نهاية اللعبة. وهي تنقسم في ذلك إلى معسكرين عريضين، كما يوضح إيفان كراستيف، من “مركز الاستراتيجيات الليبرالية”، وهو مؤسسة فكرية في صوفيا. الأول هو “حزب السلام”، الذي يريد وقف الاقتتال وبدء المفاوضات بأسرع وقت ممكن. والآخر هو “حزب العدالة”، الذي يعتقد أنه يجب جعل روسيا تدفع ثمناً باهظاً لعدوانها على أوكرانيا. يتحول الجدل في المقام الأول إلى الأرض: دعوا روسيا تحتفظ بالأرض التي احتلتها حتى الآن؛ ادفعوها للعودة على أعقابها إلى خط البداية في 24 شباط (فبراير)؛ أو حاولوا دفعها أبعد من ذلك، إلى الحدود الدولية، لاستعادة الأراضي التي استولت عليها في العام 2014. كما يدور الجدل حول أشياء أخرى كثيرة إلى جانب ذلك، ليس أقلها التكاليف والمخاطر والمكافآت المترتبة على إطالة أمد الحرب، ومكان روسيا في الترتيب الأوروبي. يقوم معسكر السلام بالتعبئة. وقد دعت ألمانيا إلى وقف لإطلاق النار؛ وتعمم إيطاليا خطة ذات أربعة مسارات لتسوية سياسية؛ وتتحدث فرنسا عن اتفاق سلام مستقبلي من دون “إذلال” لروسيا. وتقف ضد هؤلاء بشكل رئيسي بولندا ودول البلطيق، وتؤيدهم بريطانيا. وماذا عن أميركا؟ لم يحدد الداعم الأهم لأوكرانيا هدفًا واضحًا، بخلاف دعم أوكرانيا وتعزيز قدراتها لمنحها موقفاً أقوى للمساومة. وقد أنفقت أميركا ما يقرب من 14 مليار دولار على الحرب الأوكرانية حتى الآن، وخصص الكونغرس لتوه 40 مليار دولار أخرى. وحشدت أميركا التبرعات العسكرية من أكثر من 40 دولة أخرى. لكن هذه المساعدة ليست غير محدودة. لقد وفرت المدفعية، ولكن ليس أنظمة الصواريخ بعيدة المدى التي تطلبها أوكرانيا. وتضيف تصريحات لويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي، إلى الغموض القائم فحسب. بعد زيارة قام بها إلى كييف في نيسان (أبريل)، اعتنق وجهة نظر معسكر العدالة، وقال إن على الغرب أن يساعد أوكرانيا على “الفوز”، وعليه “إضعاف” روسيا. وبعد ثلاثة أسابيع بدا وكأنه تحول إلى معسكر السلام، داعيًا إلى “وقف فوري لإطلاق النار” بعد مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، سيرغي شويغو. وفي الوقت نفسه، يصر البنتاغون على عدم وجود تغيير في السياسة. وهناك ضربة أخرى توجهت إلى معسكر العدالة، تلخصت في مقال افتتاحي نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، وزعم أن فكرة هزيمة روسيا غير واقعية وخطيرة. ثم قال هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، أن المفاوضات يجب أن تبدأ في غضون شهرين لتجنب حدوث “اضطرابات وتوترات لن يكون بالإمكان التغلب عليها بسهولة”. وسوف تكون هناك في الحالة المثالية عودة إلى خط 24 شباط (فبراير)؛ وأعلن كسينجر في المنتدى الاقتصادي العالمي، في منتدى جانبي للحوار على هامش دافوس، أن “مواصلة الحرب بعد تلك النقطة لن تكون حول حرية أوكرانيا، وإنما ستكون حرباً جديدة ضد روسيا نفسها”. وقال إن لروسيا دورا مهما تلعبه في ميزان القوى في أوروبا؛ ولذلك لا ينبغي دفعها إلى إقامة “تحالف دائم” مع الصين. في الوقت الحالي، يتم احتواء مثل هذه التصدعات في الغرب من خلال ترديد لازمة أن المستقبل سيقرره الأوكرانيون. ومع ذلك، فإن خيارات أوكرانيا تتشكل بدورها من خلال ما يوفره لها الغرب. وقال زيلينسكي في اجتماع في دافوس: “أوروبا، والعالم بأسره، يجب أن يكونوا موحدين. نحن أقوياء بقدر ما تكونون متحدين”. وقال إن “أوكرانيا ستقاتل حتى تستعيد كل أراضيها”. لكنه بدا أيضًا وكأنه يترك لنفسه متسعاً للتسوية. وقال إن المحادثات مع روسيا يمكن أن تبدأ بمجرد انسحابها إلى خط 24 شباط (فبراير). يتعين على أميركا، وأوروبا، وأوكرانيا أن تستمر في تعديل مواقفها وفقا لما يعتقد كل طرف أن الآخر سيقبله. وتقول أولغا أوليكر من “مجموعة الأزمات الدولية”، وهي مؤسسة فكرية: “يتفاوض الأوكرانيون مع شركائهم الغربيين بقدر ما يتفاوضون مع الروس، وربما أكثر من ذلك”. ويعكس الغموض أيضا الشكوك وغياب اليقين التي عادة ما تكتنف الحرب. هل أوكرانيا تربح لأنها أنقذت كييف ودفعت روسيا إلى التراجع عن خاركيف؟ أم أنها تخسر، لأن روسيا استولت على ماريوبول وقد تطوق سيفيرودونيتسك قريبًا؟ يشعر معسكر السلام بالقلق من أنه كلما طال أمد القتال، زادت التكلفة البشرية والاقتصادية المترتبة على أوكرانيا وبقية العالم. ويرد معسكر العدالة بأن العقوبات على روسيا بدأت للتو في التأثير؛ ومع مزيد من الوقت وتقديم المزيد من الأسلحة الأفضل، يمكن لأوكرانيا أن تفوز. ثمة خلف كل هذا مكمنان متناقضان للقلق. الأول أن القوات الروسية ما تزال قوية وسوف تنتصر في حرب طاحنة غير متوقفة. والآخر أنها هشة. إذا شعرت بأنها تُهزم، فإن روسيا يمكن أن تعمد إلى مهاجمة الناتو، أو أن تلجأ إلى استخدام الأسلحة الكيماوية -أو حتى النووية- لتجنب الهزيمة النهائية. على المدى الطويل، كما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سوف تحتاج أوروبا إلى إيجاد طريقة للعيش مع روسيا. ويرد رئيس وزراء إستونيا، كاجا كالاس: “إن الاستسلام لبوتين سيكون أكثر خطورة من استفزازه”. وكان المسؤولون الأميركيون والأوروبيون عاكفين على مساعدة أوكرانيا بهدوء على تطوير مواقف تفاوضية. وإحدى النقاط هي مطالبتها بضمانات أمنية من الغرب. وإضافة إلى الوعد بالدفاع عن أوكرانيا بشكل مباشر، تشمل الأفكار القدرة على “استعادة” أي عقوبات يتم رفعها عن روسيا؛ وإعادة تسليح أوكرانيا بسرعة إذا ما تعرضت للهجوم مرة أخرى. في الوقت الحالي، تبدو أوكرانيا متفائلة بشكل مفهوم. لقد حرمت روسيا من تحقيق غزو سهل، وتظهَر أسلحة غربية جديدة على الخطوط الأمامية. لكن ميخايلو بودولياك، كبير مفاوضي زيلينسكي، يتحدث من مقر رئاسي محاط بأكياس الرمال، ويقول إنه يشعر بقلق متزايد من “الإرهاق” الذي بدأ يظهر في بعض البلدان الأوروبية. “إنهم لا يقولون ذلك بشكل مباشر، ولكن يبدو الأمر وكأنه محاولة لإجبارنا على الاستسلام. إن أي وقف لإطلاق النار سيعني تجميد الصراع”. كما اشتكى من “الكسل” في واشنطن: الأسلحة لا تصل بالكميات التي تحتاجها أوكرانيا. سوف يعتمد توقيت انتهاء الحرب إلى حد كبير على روسيا. إنها ليست في عجلة من أمرها للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. ويبدو أنها مصممة على احتلال كل منطقة دونباس في الشرق، وهي تتحدث عن الاستيلاء على المزيد من الأراضي في الغرب. ويقول فولوديمير فيسينكو، المحلل السياسي في كييف: “المفارقة في الموقف هي أن كلا الجانبين ما يزالان يعتقدان أنهما قادران على الفوز. فقط إذا وصلنا بالفعل إلى طريق مسدود، واعترفت موسكو وكييف به على أنه كذلك، يمكن عندئذٍ أن يكون أي حديث عن التسوية ممكنًا. وحتى مع ذلك، من المحتمل أن تكون مثل هذه التسوية مؤقتة فقط.
الغد