ما تزال معظم بلدان الشرق الأوسط تلتزم بموقف محايد عندما يتعلق الأمر بالغزو الروسي لأوكرانيا. ويعزو سكان المنطقة ذلك إلى ازدواجية معايير الغرب في تعاطيه مع أزمات المنطقة، وكذلك ملف اللاجئين من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
- * *
مع بداية التوغل الروسي في أوكرانيا، كان هناك ثلاثة شبان من سورية يعيشون في ألمانيا، يرغبون في الذهاب إلى أوكرانيا للانضمام إلى فيلق المقاتلين الدوليين ضد الروس، إلا أن هؤلاء الشبان قرروا في الأسابيع التي تلت ذلك عدم المضي قدماً في خطة السفر إلى أوكرانيا.
في مقهى في وسط العاصمة الألمانية برلين، يلخص أحد الشبان الثلاثة السبب وراء التراجع عن قرار السفر إلى أوكرانيا، فيقول: “لماذا نشارك في حرب شخص آخر؟”.
وتعود بدايات قصة هؤلاء الشبان الثلاثة، وجميعهم في أوائل الثلاثينات من العمر، إلى العام 2015 عندما وصلوا إلى هذا البلد الأوروبي كلاجئين.
مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، دارت نقاشات بين الشبان الثلاثة حول فكرة ذهابهم إلى أوكرانيا للمشاركة في محاربة روسيا التي كانت قد قصفت مسقط رأسهم؛ مدينة حلب السورية. غير أنهم توصلوا في نهاية المطاف إلى إلغاء قرارهم السفر لأوكرانيا.
وعن ذلك، قال أحد الشبان: “لدينا مشاكلنا الخاصة”. وقال آخر: “ما يزال الأسد في السلطة وما يزال الروس يدعمونه، ولا أحد يهتم بذلك”.
تحدث الشبان الثلاثة شريطة عدم الكشف عن هويتهم؛ نظرًا لأنهم يدركون جيدًا أن ما يقولونه سيكون مثيراً للجدل في أوروبا، حيث تدعم معظم الدول أوكرانيا تمامًا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن رأي الشبان الثلاثة لا يعكس آراء الجميع. فقد نُظمت مظاهرات في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة السورية لإظهار التضامن مع أوكرانيا، لكن هذا يبقى بعيدًا كل البعد عن تمثيل الاتجاه السائد والمألوف في الشرق الأوسط -أو حتى في أجزاء أخرى من العالم. على سبيل المثال، لا تنظر الكثير من البلدان الإفريقية، ودول محورية مهمة، مثل الهند، إلى الحرب في أوكرانيا على أنها معركة تخص دولهم.
“نفاق غربي”
خلال شهر آذار (مارس) 2022، سارع معلقون ومحللون في مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلى الإشارة إلى ما يرون أنه نفاق غربي بشأن أوكرانيا. وقد تحدث هؤلاء المراقبون عن الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بالأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمة ذلك العراق وسورية وفلسطين، وأيضًا الأزمة في أفغانستان، فضلا عن كيفية معاملة لاجئي الشرق الأوسط الذين يصلون إلى القارة الأوروبية.
في شهر نيسان (أبريل) 2022، كتب مايكل يونغ، وهو مدير تحرير في مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، أن المآسي التي شهدتها سورية لم تثر أي “ردود فعل في الغرب يمكن أن تُقارن بالتضامن الذي أظهره الغرب مع أوكرانيا”.
ولم يكن يونغ الوحيد الذي ذهب إلى هذا الرأي، إذ انضم إليه العديد من الكتاب والمحليين في الشرق الأوسط، ومن بينهم الكاتب السعودي أحمد الفراج، الذي يكتب مقالات في صحيفة “الجزيرة” السعودية.
وأشار الفراج في تفسير الموقف إلى تغريدة جاء فيها: “إذا كنت تعتقد أن بوتين مجرم لأنه تحرك عسكريا ضد أوكرانيا، ولا تعتقد الشيء ذاته عن بوش الابن وديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكولن باول، الذين احتلوا العراق ودمروه بأدلة مزورة، فهذا يعني أنك رضيت بأن تكون ضحية للتضليل الإعلامي، كما يعني أن خلايا المخ لديك معطلة بالكامل”.
مشاعر معادية لأميركا وليس مسألة تضامن مع أوكرانيا
وأرجع كاتب في مقال نشره موقع “هسبريس” الإخباري المغربي، هذا الموقف إلى المشاعر المعادية للولايات المتحدة أكثر من كونه يتعلق بوجود تعاطف حقيقي مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك بعد رصد ردود فعل مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي.
وقد انعكس هذا على آراء بعض المواطنين في الشرق الأوسط. ففي مقابلة مع صحيفة “دويتشه فيله”، قال محمد الفيلالي، الذي يعمل في صيدلية بالعاصمة المغربية، الرباط: “هذه هي الصورة الجديدة للمنافسة البغيضة بين أميركا وروسيا وأوروبا. إنهم يتنافسون على أراضي أوكرانيا فيما يدفع الشعب الأوكراني الفقير وحده الثمن الباهظ”.
ولا تحمل هذه الآراء أي مفاجأة؛ فقد أظهرت استطلاعات للرأي أن سكان المنطقة يرون أن بلدانهم كانت موضوعاً لتنافس روسي-أميركي منذ سنوات طويلة، وفقًا لما كشف عنه “المؤشر العربي 2019-2020” الذي جمعت بياناته في 13 بلدا عربيا باستطلاع آراء 28 ألف شخص، بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكشف المؤشر أن أكثر من نصف الأشخاص الذين شاركوا في الاستطلاع؛ أي ما يعادل 58 بالمائة، لديهم آراء سلبية حيال السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الدول العربية.
وفي المقابل، بلغت النسبة 41 بالمائة عندما تطرق الحديث إلى السياسة الخارجية الخاصة بروسيا. وقد أشار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة إلى أن هذه النسبة كانت متقاربة تقريبا خلال الاستطلاعات السابقة على مدى العقد الماضي.
وكشف المؤشر العربي في الاستطلاع الأخير النقاب عن الأسباب وراء إصرار بلدان الشرق الأوسط على البقاء على الحياد عندما يتعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا؛ فعند سؤال أغلبية المشاركين في الاستطلاع عن أولوياتهم الرئيسية، أكدوا أن الاقتصاد يعد هاجسهم الأكبر، فيما أعرب البعض عن قلقهم من الفساد والأوضاع السياسية. غير أن الأمر اللافت للنظر هو أن نسبة 57 في المائة من المشاركين في الاستطلاع شددوا على أن البطالة والتضخم والفقر تعد أكبر التحديات التي يواجهونها.
وفي مقابلة مع صحيفة “دويتشه فيله”، كشف محمد كريم، وهو رجل عراقي في عامه التاسع والثلاثين يعيش في بغداد، عن أن السبب الرئيسي الذي يدفعه إلى متابعة الحرب في أوكرانيا يعود إلى رغبته في معرفة التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب على بلاده.
وأضاف: “هذه الحرب تؤثر على معيشتي ومعيشة الناس في العراق، حيث تسببت في ارتفاع الأسعار وندرة بعض السلع”.
وتعد روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري القمح وزيت الطهي إلى الشرق الأوسط، فيما أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار الخبز في المنطقة خلال الأسابيع الماضية، الأمر الذي أدى بدوره إلى اندلاع احتجاجات في بعض المدن العراقية.
إضافة إلى ذلك، لا يغيب عن المشهد أن روسيا عملت على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع بلدان الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، وهو ما يعد سببا وراء إصرار الدول العربية على تبني موقف حيادي تجاه الحرب في أوكرانيا.
وقد أشارت بعض وسائل الإعلام العربية إلى وجود سبب آخر، هو الإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ إذ ينظر إليه باعتباره “زعيما قويا”، فضلا عن أن سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط لا تضع في الاعتبار معايير حقوق الإنسان أو تطبيق الديمقراطية.
“من يهتم بأزماتنا”؟
وفي ظل هذه الآراء التي يعرب عنها سكان الشرق الأوسط حيال الحرب في أوكرانيا، هل يمكن لمثل هذه التوجهات أن تؤثر على رسم السياسة الخارجية لبلدان المنطقة؟ يأتي طرح هذا التساؤل على الرغم من أن الناخبين في المنطقة يفتقرون إلى أي آلية للتأثير على السياسة الخارجية لدولهم.
يشار إلى أنه خلال تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يقضي بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، لم تصوت لصالح القرار سوى دولة واحدة في الشرق الأوسط هي ليبيا، فيما امتنعت دول المنطقة كافة عن التصويت أو لم تشارك في الجلسة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والأردن والعراق، وهي دول ينظر إليها باعتبارها حلفاء للولايات المتحدة.
وقد لقي قرار العراق إشادة من بعض العراقيين، ومنهم رامي الصالح، وهو صحفي في عامه التاسع والعشرين ويعيش في بغداد. وقال الصالح: “كان هذا القرار هو الخيار الصائب بالنسبة للعراق. سوف تؤثر أي حرب في الوقت الحالي على الدول كافة، فضلا عن أن العراق في حاجة إلى الاحتفاظ بحلفائه في كل مكان، سواء للتعامل مع المشاكل الاقتصادية أو لمحاربة الإرهابيين، خاصة وأن محاور القوة يطرأ عليها التغيير”.
ومن جهته، يرى صامويل رماني، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد والمتخصص في الشأن الروسي والشرق الأوسط، أن تصويت الجمعية العامة كان يتمحور حول مساعي الدول “إلى عدم نسف جسور النظام العالمي متعدد الأقطاب”. وأضاف: “هذه الدول تنظر إلى روسيا باعتبارها أحد أركان النظام العالمي متعدد الأقطاب”.
يسلط محمد الغواتي، أستاذ العلوم السياسية في الرباط، الضوء على أن مساعي الخروج أو الابتعاد عن الهيمنة الأميركية تمثل فرصة كبيرة للدول العربية للتأكيد على وجودها.
وأشار الغواتي لتأكيد ذلك إلى استخدام المغرب لغة دبلوماسية محادية لا تنحاز إلى طرف ضد الآخر، مضيفا “أن المغرب أكد وحدة الأراضي الأوكرانية، لكنه يعمل أيضا على تعزيز العلاقات الاستراتيجية، خاصة مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن”.
ويحتاج المغرب، الذي لم يشارك في جلستي التصويت في الأمم المتحدة بشأن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى دعم الدول الأعضاء في مجلس الأمن لتأييد موقفه في نزاع الصحراء الغربية الممتد منذ سنوات طويلة.
في العراق، أعربت ميليشيات موالية لإيران عن دعمها لروسيا، فيما كرر سياسي مصري على لسانه معلومات مضللة تروج لها روسيا. غير أن صامويل رماني يرى أن معظم سكان بلدان الشرق الأوسط ليست لديهم مواقف حماسية حيال دعم روسيا أو أوكرانيا، مضيفا أن الأمن الغذائي وتجنيد مرتزقة في المنطقة يشكلان قضيتين يمكن أن تكون للرأي العام أهمية حيالهما.
ويرى مراقبون أنه من غير المرجح أن تحمل طريقة تعامل مواطني وحكومات الشرق الأوسط مع الحرب في أوكرانيا في طياتها أي مواجهة مباشرة مع روسيا.
وفي شرح ذلك، أضاف رماني: “إنهم إما يحاولون إبرام صفقة، أو يرغبون في الاعتراف بتغير النظام العالمي، أو يشكلون صوتا لتفادي تضارب (المصالح). ولذلك، حتى إذا انتقدوا سلوك روسيا فإن هذا لا يعني أن أوكرانيا تحظى بدعمهم”. - الغد