في أيار الماضي، بعد فترة قصيرة على زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو، “التاريخية”، نشرت إسرائيل تحذير سفر إلى تركيا. في وزارة الخارجية التركية تفاجأوا وغضبوا. “لماذا يجب نشر هذا التحذير بشكل علني؟ كان يمكن معالجة الأمر من وراء الستار. لقد فعلنا ذلك من قبل بين أجهزتنا الاستخبارية وأجهزتكم، ونواصل الآن أيضاً التعاون الاستخباري”، قال مصدر رفيع هناك للصحيفة.
في حكومة أنقرة هناك من عزوا تحذير السفر لرغبة إسرائيل بالمس بالسياحة في تركيا، لتفاقم الأزمة الاقتصادية التي تغرق فيها الدولة. ولتهدئة الوضع، احتاج الأمر عدة محادثات توضيحية بين وزارتي الخارجية الإسرائيلية والتركية، وبين الموساد ونظيره التركي الذي يترأسه هاكان فيدان، الذي حافظ على علاقات عمل مع إسرائيل حتى عندما كان هناك قطع للعلاقات بين الدولتين. عندما نشر في هذا الأسبوع تحذير السفر الخطير ورافقته دعوة للإسرائيليين الذين يمكثون في تركيا للعودة إلى البلاد، كانت تركيا مستعدة. وحسب تقارير صحافية، فإن المعلومات التي نقلها الموساد لتركيا أدت إلى كشف خلية خططت لتنفيذ عمليات وأعمال قتل ضد الإسرائيليين الذين يزورون تركيا انتقاماً على تصفية علماء ورجال من حرس الثورة الإيراني، المنسوبة لإسرائيل.
لم تكن المرة الأولى في هذه السنة التي يثمر فيها التعاون بين أذرع الأمن عن إحباط ومنع عمليات تخريب إيرانية داخل تركيا. في شباط الماضي تم إحباط نية لقتل رجل الأعمال الإسرائيلي – التركي يئير غيلر. وبعد فترة اعتقلت خلية في تركيا كان أعضاؤها عملاء إيرانيين ومواطنين أتراكاً، وهي خلية خططت لتنفيذ أعمال قتل أخرى.
إن نشاطات عملاء لإيران في تركيا غير موجهة ضد أهداف إسرائيلية فقط؛ ففي السنة الماضية اعتقل في تركيا رئيس عصابة إيرانية عملت في تهريب المخدرات، واعتقل معه 11 شخصاً، بعضهم على علاقة بالمخابرات الإيرانية. وحسب الاشتباه، عمل هؤلاء على جمع معلومات وتخطيط لقتل معارضين إيرانيين يعيشون في تركيا. وإن تشغيل عصابات إيرانية – تركية إجرامية لأغراض استخبارية أسلوب عمل معروف للمخابرات في تركيا. وأدى تعقب هذه العصابات في السنة الماضية إلى اعتقال مواطن إيراني هو محمد رضا زاده، الذي اتهم بالتورط في قتل المعارض الإيراني مسعود مولوي في 2019 وتخطيط العملية. بعد ثلاثة أشهر اعتقل ثمانية أشخاص، من بينهم عميلان إيرانيان، في محاولة لاختطاف وتهريب جندي إيراني سابق هرب إلى تركيا. تستخدم إيران العصابات الإجرامية كي تستطيع نفي أي علاقة لها بنشاطاتها، فيما يمكن لتركيا أن تعتبرها، على الأقل بشكل علني، أعمالاً جنائية “عادية” لا تقتضي أي رد دبلوماسي شديد ضد إيران.
طالما اقتصرت أهداف إيران في تركيا على المواطنين الإيرانيين الذين هربوا إليها خوفاً من النظام أو معارضين ناشطين، فقد قامت أنقرة بإدارة حساباتها مع طهران بواسطة القناة الاستخبارية والدبلوماسية السرية. ولكن عندما تحولت تركيا إلى ساحة عمل لإيران ضد إسرائيل، فإن أنقرة ملزمة باتخاذ موقف علني وهجومي، حيث إن هذه العمليات تمس بسيادة تركيا، وليس هذا فقط، بل تخاطر ببرامجها لاستئناف وتحسين علاقاتها مع إسرائيل، وخلال ذلك تصب المزيد من المواد المشتعلة على التوتر القائم أصلاً بين تركيا وإيران.
هذا التوتر وصل مؤخراً إلى الذروة بسبب النوايا المعلنة للرئيس التركي رجب طيب اردوغان بشن عملية عسكرية أخرى، هي الرابعة من نوعها، في سوريا، لتجسيد طموحاته في إيجاد “منطقة أمنية” على طول الحدود التركية – السورية. الهدف هو احتلال أراض حتى 30 كم من خط الحدود، وطرد القوات الكردية السورية من هناك، التي تعتبرها تركيا “منظمات إرهابية”. هذا المخطط الذي يسوقه اردوغان في كل مناسبة أوجد “تحالف” معارضة تشارك فيه الولايات المتحدة وإيران.
الولايات المتحدة، التي ما تزال تعتبر الأكراد في سوريا حلفاء مخلصين (هؤلاء يحصلون على مساعدة اقتصادية وعسكرية)، أوضحت للرئيس التركي بصورة حازمة بأنها تعارض عملية عسكرية يمكن أن تمس بهم. أما إيران من ناحيتها فتخاف من قيام تركيا بغزو الأراضي التي تقع في محيط مدينة حلب وإقصاء المليشيات المؤيدة لإيران التي تسيطر على محيط المدينة، خاصة في القرى الشيعية: زهرة ونوفل. مؤخراً، كثفت إيران جهاز المليشيات في هذه المنطقة كرسالة تهديد لتركيا تقول بأنها لن تخشى مواجهة قواتها إذا اقتربت من منطقة النفوذ الإيراني. وسائل إعلام تركية اعتبرت المواجهة العنيفة في سوريا سيناريو واقعياً. مع ذلك، من الجدير قراءة هذه المنشورات بعيون متشككة، حيث يوجد لنظام أنقرة، الذي يسيطر على معظم وسائل الإعلام مصلحة بنقل رسائل تهديدية لردع إيران.
التوتر بين إيران وتركيا داخل سوريا يضاف إلى شكوك إيران الدائمة، القلقة بشأن مخططات تركيا في جنوب القوقاز وأذربيجان بشكل خاص. اصطكت أسنان إيران عندما أصبحت تركيا وإسرائيل حليفتين في الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا على السيطرة في ناغورنو قره باغ، الأمر الذي بفضله، حسب ادعاء إيران، انتصرت أذربيجان في الحرب. تركيا تعتبر دول القوقاز منطقة نفوذ طبيعي لها، بسبب القرب الثقافي والتاريخي. وفي المقابل، إيران تخاف من أن تشكل هذه الدول قاعدة لهجمات إسرائيلية وأمريكية ضد إيران بمساعدة تركيا. هذا الخوف يزداد عند رؤية المصالحة واستئناف العلاقات بين إسرائيل وتركيا. إضافة مع الأخذ في الحسبان دخول تركيا الجديد إلى قلب الشرق الأوسط العربي بفضل علاقاتها الوثيقة مع الإمارات والسعودية.
إن نسيج العلاقات الجديدة بين تركيا ودول المنطقة وإسرائيل، والعلاقات المتوترة مع إيران، يحول تركيا إلى ذراع حيوي في نضال إسرائيل ضد النشاطات الإرهابية لإيران. الحديث هنا لا يدور عن شبكة علاقات ثنائية فيها التحالف مع إسرائيل يعني قطع العلاقات بين تركيا وإيران.
ما زالت تركيا تعتبر إيران شريكة اقتصادية مهمة ومكوناً رئيسياً في سياستها الخارجية التي تسعى إلى شبكة علاقات وثيقة مع كل دول المنطقة. ولكن عندما تحاول أمريكا إقامة حلف دفاع إقليمي ضد إيران، ويوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي سيزور دول المنطقة في الشهر القادم، بأن أمن إسرائيل أحد أسباب زيارته، فإن أنقرة لن ترغب في البقاء خارج هذا الحلف، وهي تنتظر أن تسهم إسرائيل بدورها في اندماج تركيا في هذا الحلف. من هنا أيضاً ترميم علاقاتها مع واشنطن.
القدس العربي