لم يكن حدثا عاديا توجيه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، نوابه الـ 72 في مجلس النواب العراقي، لتقديم الاستقالات، ثم إعلانه عدم التراجع عن تلك الاستقالات وعدم المشاركة في العملية السياسية الحالية، بسبب وجود الفاسدين فيها حسب قوله، إذ ان فراغا برز في مجلس النواب يتطلب اختيار بدلاء عن أعضائه المستقيلين، وفقا لقانون الانتخابات النافذ في العراق، من خلال تقديم المرشحين الخاسرين الحاصلين على أعلى الأصوات في الانتخابات الأخيرة.
وإذا تمت إجراءات قبول استقالة النواب الصدريين، فيحق للمرشحين من الأحزاب الأخرى، ان يحلوا محلهم. ولا شك أن المرشحين الاحتياط من القوى السياسية المنافسة للصدر، وخاصة الأحزاب والفصائل الشيعية ضمن الإطار التنسيقي، ستكون المستفيد الأكبر من استقالة الصدريين، حيث ستقوم بزج مرشحيها لسد فراغ النواب المستقيلين وتشكيل كتلة أغلبية برلمانية تمكنهم من تشكيل الحكومة المقبلة.
وعن أبرز السيناريوهات المتوقعة في أوضاع البرلمان، أكد عضو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني احمد الهركي، في تصريحات أن الموافقة على استقالة الكتلة الصدرية ستظهر خريطة سياسية جديدة أمام الإطار التنسيقي والقوى المتحالفة معها، مشيرا إلى مضي تلك القيادات بالاستحقاقات الدستورية وتشكيل الحكومة الجديدة. وأضاف، أنه «في حالة تمت الموافقة على استقالة نواب الكتلة الصدرية والنظر إلى بدائل الخاسرين فإن أغلبهم من الإطار التنسيقي والمستقلين والقريبين من الإطار، وبالتالي وجود من 50 إلى 60 نائبا من الإطار أو قريبين منه، يسهل في حل أزمة الكتلة النيابية الأكبر التي تشكل الحكومة».
تحريك الشارع
ويشير الإطار التنسيقي انه في حال قبول تلك الاستقالات فإن النواب الاحتياط سيحصلون على مقاعد النواب المستقيلين، وبالتالي لا يتأثر عمل مجلس النواب بغياب نواب الصدر، كما ان تشكيل الحكومة الجديدة سيتم بعدها بسرعة لعدم وجود معارضة، فيما أعرب بعض نواب الإطار، عن خشيتهم من قيام التيار الصدري بتحريك الشارع ضد العملية السياسية وأحزابها التي يتهمها التيار وقطاعات سياسية وشعبية واسعة، بالفساد والإدارة الفاشلة والتبعية، وتكون الخشية أكبر فيما لو استعان الصدر بفصائله المسلحة.
وكان زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، اجتمع بنواب كتلته البرلمانية المستقيلين، وأبلغهم أنه قرر الانسحاب من العملية السياسية حتى لا يشترك مع الفاسدين بأي صورة من الصور، موضحا أنه لن يشارك في الانتخابات المقبلة إذا شارك فيها فاسدون، بحسب وصفه.
ويذكر ان قرار الصدر الانسحاب من البرلمان والحكومة ليس الأول، إذ سبق ان وجه أتباعه لتقديم الاستقالات من المناصب الحكومية والبرلمانية، وذلك في سياق اعتراضه على جوانب من العملية السياسية، ولكنه غالبا كان يتراجع عن تلك الاستقالات ويعود للمشاركة في السلطة.
ويرى المراقبون ان مبررات الصدر للانسحاب من البرلمان والعملية السياسية غير مقنعة بالتأكيد، إذ ان عدم المشاركة في العملية الفاسدة، لن يؤدي إلى تصحيحها أو إبعاد الفاسدين، بل على العكس سيجعل الساحة فارغة أمامهم وسيمكنهم من السيطرة على السلطة بشكل أقوى، إضافة إلى ان القرار أفقد الصدريين أدوات التأثير في العملية السياسية كالسابق.
خريطة طريق
ويبدو ان الخريطة السياسية للقوى السياسية متجهة نحو التغيير، حيث أبلغ الصدر حلفاءه في التحالف الثلاثي، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني وكتلة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، بأنهم في حل من التحالف مع الصدريين، وبالتالي فالمتوقع هو توجه الطرفين المذكورين للتحالف مع قوى الإطار، من أجل ضمان الحصول على حصة في الحكومة المقبلة.
وقد ظهر ذلك عندما أعلن الحلبوسي «سنمضي بالإجراءات القانونية، وحسب قانون الانتخاب وآليات العمل الانتخابي، وسيعوض الخاسرون (الذين حصلوا على العدد) الأعلى (من الأصوات) في كل دائرة انتخابية بدلا من نواب الكتلة الصدرية الذين استقالوا». وأضاف ان «الخطوات المقبلة قد تمضي سريعا، ونسعى إلى تشكيل حكومة تتحمل القوى السياسية مسؤولية مخرجاتها وإدارتها وسيبقى التقييم أمام الشعب».
وحيث ان الإطار التنسيقي لا يريد إضاعة الفرصة المتاحة له، فقد بدأ حراكا سريعا مع جميع القوى وبضمنها حليفا الصدر، تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني للوصول إلى تفاهمات تفضي لتشكيل حكومة جديدة.
أما النواب المستقلون وقوى وطنية أخرى، فقد عقدوا اجتماعا، انتهى ببيان دعوا فيه إلى تشكيل حكومة انتقالية مستقلة جديدة من الكفاءات الوطنية النزيهة تأخذ على عاتقها تهيئة الظرف الملائم لإجراء انتخابات جديدة. ودعت تلك القوى السياسية التي تضم (حركة واثقون، الحزب الشيوعي العراقي، الحزب الاجتماعي الديمقراطي، الحركة المدنية الوطنية، حركة نازل آخذ حقي، التيار الديمقراطي، حركة وعي الوطنية) إلى تأسيس خريطة طريق تقوم على أساس «مشروع وطني جامع، وتشكيل حكومة انتقالية مستقلة جديدة من الكفاءات الوطنية النزيهة تأخذ على عاتقها تهيئة الظرف الملائم لإجراء انتخابات جديدة» كما دعت إلى تعديل قانون الانتخابات وتغيير المفوضية، ومعالجة عجز مجلس النواب في أداء مهامه التشريعية والرقابية وخروجه على التوقيتات الدستورية، وإلا فالبرلمان ملزم بحل نفسه وفقا للمادة 64 من الدستور. وشددت القوى الوطنية على تغليب لغة الحوار والتفاهم وعدم الدفع باتجاه الفوضى والصراعات واستخدام السلاح وتعريض السلم الأهلي لخطر حقيقي، وذلك في إشارة إلى القلق من نزاع مسلح شيعي شيعي.
وهذه النقطة أكدها أيضا احمد الصافي ممثل المرجع الديني الأعلى في العراق علي السيستاني، عندما أطلق تحذيرات «أن من يتوقع انتهاء الفتنة واهم» في إشارة إلى الأزمة السياسية الأخيرة في البلاد، مشيرا خلال كلمة ألقاها في ذكرى تأسيس الحشد الشعبي، إن «المرجعية العليا حذرت من أمور كثيرة أدت إلى تدهور البلد».
وبالتزامن مع هذه التطورات المتسارعة وردت تحذيرات بأن الحراك الشعبي العراقي جاهز للخروج بتظاهرات كبيرة، لتجديد تظاهرات تشرين 2019 وللإعراب عن رفض الشعب، تحكم أحزاب وفصائل اتهمتها بالفساد بالسلطة، في ظل تفاقم أزمات خانقة متعددة يعيشها البلد أبرزها أزمة الطاقة الكهربائية وكارثة الجفاف وضعف الخدمات، إضافة إلى انتشار البطالة وارتفاع أسعار السلع والسلاح المنفلت، وغيرها من المشاكل المستعصية. ولعل هذه الأوضاع كانت وراء انتشار منشورات غامضة في شوارع بغداد هذه الأيام كتب عليها «ساعة الصفر» و«العاصفة قادمة» من دون تحديد الهدف منها أو الجهة التي تقف وراءها.
ويتابع الكثير من العراقيين بعدم الارتياح حملة الأحزاب والفصائل المسلحة، للترويج لعودة زعيم حزب الدعوة نوري المالكي كرئيس للحكومة المقبلة، مؤكدين انه سيناريو مقلق، ويمكن ان يفجر أزمات جديدة في حال حصوله، حيث يتهمه التيار الصدري وقوى سياسية وشعبية، بالمسؤولية عن احتلال ثلث العراق من قبل «داعش» وتجييشه الطائفية في المجتمع ودعمه للفصائل المسلحة وضياع المليارات من ميزانيات العراق على الفاسدين، إضافة إلى اتهامه بانه رجل إيران الأول في العراق، وبالتالي فإن تحكم المالكي وقوى الإطار بالسلطة والحكومة سيعمق الأزمات المتراكمة، وسيزيد ارتباط العراق بالأجندات والمصالح الإقليمية، كما سيجدد المخاوف من وقوع نزاع مسلح بين التيار الصدري وبين الفصائل المقربة من المالكي. ويبقى المؤكد هو ان توجيه الصدر نوابه للاستقالة قدم فرصة ذهبية للأحزاب والفصائل الشيعية الولائية، لتعزيز دورها في البرلمان، وفي تشكيل الحكومة المقبلة، التي يتوقع ان تعمق أزمات العراق ومعاناة شعبه.
القدس العربي