حتى الآن، أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيرات عميقة في العلاقة بين موسكو والغرب وإلى المزيد من الاستقطاب بين الدول سواء حول الحرب أو حول تقديم المصالح الوطنية على غيرها وخصوصاً على مواجهة مجموعة المخاطر التي تهدد العالم والتي فاقمها القتال في شرق أوروبا.
الأعوام العدة التي قد تستغرقها الحرب، حسب توقع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، تعني حكماً أن التبدلات التي ستفرضها الحرب الحالية، ستتعمق وتترسخ على نحو يعيد تشكيل النظام العالمي على نحو ما زال مجهولاً.
عشية الهجوم الروسي، سادت قراءة تتوقع أن الحرب إذا نشبت ستؤدي إلى بروز تحالف صيني – روسي ذي قدرات استراتيجية، عسكرية واقتصادية. إضافةً إلى عمق جغرافي وسكاني هائل بما يجعله قادراً على فرض إرادته في الكثير من مناطق العالم، القريبة جغرافياً منه أو البعيدة عنه. حُددت تايوان ميزان الضغط الدولي في قياس التوتر بين الغرب الذي يعيد تنظيم صفوفه في منطقة آسيا – المحيط الهادئ بتعزيز دور أستراليا في الإقليم وتحديث «قوات الدفاع الذاتي» اليابانية ومحاولة جذب الهند إلى «التحالف الرباعي – الكواد» الذي يضم الولايات المتحدة إلى جانب الدولتين المذكورتين، وبين الصين المصرّة على اعتبار تايوان «مسألة داخلية» لا تقبل النقاش حولها مع أي طرف ثالث. وتزيد بكين طلعات قواتها الجوية وتحركاتها العسكرية حول الجزيرة. ولم يتردد وزير الدفاع الصيني وي فنغي، في التحذير خلال مؤتمر شانغريلا في سنغافورة الأسبوع الماضي من أن بلاده «ستقاتل حتى النهاية» إذا أعلنت تايوان استقلالها.
كان هذا الجانب الأكثر تداولاً إعلامياً وبين الخبراء لمظاهر التبدل في الخرائط السياسية. لكن الأمين العام للناتو أضاف أن ثمن امتداد الحرب زمنياً لن يقتصر على الدعم العسكري الذي يقدمه الحلف لأوكرانيا، بل سيصل إلى تحمل وطأة ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء.
الجانب الأبعد من الدعم العسكري وازدياد تكاليف الحياة في دول الغرب هو قدرة الديمقراطيات الغربية على الصمود على مواقفها حيال أوكرانيا في الوقت الذي بدأت تتضح فيه ملامح الخطة الروسية لمتابعة الحرب وتحقيق النصر فيها. وإذا قُرئت كلمة الرئيس فلاديمير بوتين في «منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي العالمي»، سيبدو أن الرجل واثق من انهيار التحالف الغربي الذي أحياه الموقف الموحد من أوكرانيا وأن المسار التراجعي للغرب الذي عوّل عليه منظّرو المقولة «الأوراسية» ما زال مستمراً ويتجسد في انهيار العملات الغربية والتضخم المرتفع وفقدان أوروبا لاستقلالها في سياستها الخارجية وإصرار الغرب على التعامل مع باقي دول العالم باستعلاء وفوقية. الانتخابات في هنغاريا وفرنسا، كانتا غنيتين بالدروس في هذا المجال.
من المهم الالتفات إلى بعض الحقائق التي تضفي قدراً من الصدقية على كلام بوتين. أولاها أن الموقف العسكري في أوكرانيا شهد تبدلاً لمصلحة روسيا في الكثير من المناطق بعدما تخلى الجيش الروسي عن تكتيكات التقدم السريع في عمق العدو واستعاض عنه باللجوء إلى تفوقه في المدفعية الثقيلة لتدمير المواقع والمدن الأوكرانية. وكان ستالين يردد أن «الكمية هي نوعية من طراز خاص». بكلمات ثانية، أدرك القادة الروس أن أسلحتهم لن تصمد في وجه المضادات الغربية خصوصاً الدبابات والطائرات، فعادوا إلى ما يمتلكون تفوقاً ساحقاً فيه، أي المدفعية التي تحرق الميدان، قبل دفع الوحدات البرية للتطهير والاحتلال. التصدي للتكتيك المذكور يتطلب حصول الأوكرانيين على بطاريات مدفعية تعادل ما لدى الروس إضافةً إلى أسلحة صدمة ونار (مدرعات) لشن هجمات مضادة موضعية أو موسعة. وهذه هي الأسلحة التي تطالب كييف بها.
الحقيقة الثانية، أن الخسائر البشرية يُنظر إليها نظرة مختلفة في كل من روسيا وأوكرانيا. الرئيس فلوديمير زيلينسكي أعلن أن بلاده تفقد ما بين 100 و200 جندي يومياً. وبغضّ النظر عن عدد القتلى في الجانب المقابل، إلا أن ما يبدو من إصرار في كلام بوتين على مواصلة العملية العسكرية الخاصة التي قلل من انعكاساتها الاقتصادية الداخلية، يقول إن موسكو لن ترهبها أعداد قتلاها مهما بلغ، ولن تثنيها خسائرها البشرية عن الاندفاع نحو تحقيق نصر عسكري واضح يمكّنها من الجلوس إلى مائدة المفاوضات لفرض شروطها. أنها لن تقبل عكس هذا المسار، الذي يبشّر به المسؤولون الأوكرانيون عن أن إلحاق هزيمة جلية بالقوات الروسية هو المدخل التفاوضي المناسب لهم.
ولم تكن مبالغة الجملة التي ترددت في بداية الحرب في أوكرانيا عن أن مستقبل العالم يتقرر في هذا الصراع، بيد أن السهوب الأوكرانية لم تفصح بعد عن منتصر ومهزوم، وما زال الطرفان يعتقدان بالقدرة على استخراج انتصار ميداني وتحويله سلاماً يتأسس على رؤيته إلى العالم والمستقبل.
الشرق الأوسط