انتفاضة بغداد ودورها القيادي في قيام ثورة العشرين

انتفاضة بغداد ودورها القيادي في قيام ثورة العشرين


ان الهدف من هذا البحث هو اثبات حقيقة الدور الريادي والقائد لبغداد في قيام ثورة العشرين، ذلك ان الكثير من الباحثين في ثورة العشرين يتناولونها بدءاً من يوم 30 حزيران بتحرير الشيخ شعلان ابو الجون من معتقله في الرميثة, في حين ان للثورة مقدمات فكرية و سياسية تعود في جذورها الى اكثر من عام قبل اندلاع الكفاح المسلح في الرميثة في 30 حزيران .

ابتدأ التحرك السياسي ببغداد ضد الاحتلال البريطاني بتشكيل جمعية حرس الاستقلال السرية اواخر شهر شباط عام 1919 ، وتشكلت لها فروع في كربلاء والنجف والناصرية والحلة والشامية والكاظمية والموصل , غير ان نشاط الجمعية تركز في بغداد والفرات الاوسط، حين ارسلت الجمعية عضو الهيئة الادارية الشيخ محمد باقر الشبيبي الى الفرات الاوسط , فقام بعدة سفرات, وعمل على بث روح الثورة هناك, مما دفع علماء الدين ورجال الحركة الوطنية في الفرات الاوسط الى انتداب هادي زوين وعبدالمحسن شلاش الى بغداد للاطلاع على مسار الحركة الوطنية فيها , فحضرا اجتماعا مع زعماء جمعية حرس الاستقلال يوم 21 نيسان 1920, , وقد شرح هادي زوين الاوضاع في الفرات الاوسط والقمع والظلم الذي يتعرضون له على ايدي الضباط والجنود الانكليز ,واعرب عن استعداد الاهالي للوقوف مع بغداد للقيام بوجه السلطة المحتلة. ورد عليه امين سر الجمعية جعفر ابو التمن ان القادة السياسيين في بغداد يعملون بهذا الاتجاه الذي يطالب به علماء الدين ورؤساء العشائر في الفرات الاوسط
بعد هذا الاجتماع قررت الجمعية انتداب جعفر ابو التمن الى كربلاء ممثلا عن الحركة الوطنية ببغداد للاتصال بالمرجع الاعلى الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي وعلماء الدين ورؤساء العشائر والسياسيين , فسافر ابو التمن يوم 2 مايس 1920 وعقد اجتماعا في بيت المرجع الاعلى يوم 4 مايس حضره رؤساء العشائر ، وادى جميع الحاضرين اليمين على المطالبة بالاستقلال ولو ادى بهم الامر الى استخدام السلاح ضد القوة البريطانية المحتلة.
. ثم سافر ابو التمن وهادي زوين الى النجف وابلغا الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ جواد صاحب الجواهر وبقية العلماء وشيوخ العشائر بما تم الاتفاق عليه والتخطيط له في كربلاء , وعاد جعفر ابو التمن الى بغداد بعد ان انجز هذه المهة. وهكذا بادرت بغداد ونخبها السياسية الى التهياة للكفاح المسلح في الفرات الاوسط.
وعندما اعلن الانتداب البريطاني على العراق في شهر مايس 1920 انتفضت بغداد وتشكل وفد المندوبين الخمسة عشر الذي التقى في الثاني من حزيران1920 وكيل الحاكم المدني العام في العراق ولسن وطالبه باجراء انتخابات لمؤتمر عراقي عام ، يمثل جميع العراقيين ، يعقد في بغداد ليقرر شكل الحكومة الوطنية في العراق التي وعد بها الإعلان البريطاني – الفرنسي في 8 تشرين الثاني 1918 .
ولما كان جعفر ابو التمن قد حصل في 4 مايس على قسم اليمين من رؤساء العشائر في كربلاء بالوقوف مع بغداد في المطالبة بالاستقلال حتى وان ادى ذلك الى استخدام السلاح، فقد قرر المندوبون الخمسة عشر ايفاد جعفر ابو التمن الى كربلاء من جديد ليطلب من المرجع الاعلى الحائري الشيرازي اصدار دعوة الى جميع العراقيين بتأييد مطالب بغداد التي قدموها الى الحاكم المدني العام ولسن. وقد استجاب الحائري الشيرازي الى هذا المطلب , وعاد ابو التمن الى بغداد يحمل رسالة من المرجع الاعلى موجهة الى جميع العراقيين تدعوهم للوقوف مع بغداد في مطالبها الوطنية المشروعة، طبعت ووزعت الاف النسخ منها في جميع انحاء العراق . :
ان هذا التنسيق مع المرجع الاعلى في كربلاء الذي قامت به قيادة انتفاضة بغداد, قد كان له اثره في تحرك الفرات الاوسط والجنوب لإسناد بغداد في انتفاضتها، ففي 4 حزيران 1920 اصدرت كربلاء مذكرة تحمل 65 توقيعا ل ((علمائها واشرافها وساداتها وعموم افرادها وجميع طبقاتها)) اعلنوا فيها انتدابهم نجل المرجع الاعلى ومعه محمد الخالصي والشيخ عمر الحاج علوان وغيرهم لينوبوا عنهم امام سلطة الانتداب ببغداد لإبلاغها بمساندتهم للمطالب الوطنية التي طالبت بها بغداد .وقد حملت المذكرة ايضا ختم المرجع نفسه.
وبعد يومين ،اصدرت النجف مذكرة اخرى مشابهة خولت فيها عددا من الشيوخ وعلماء الدين ليمثلوها في تقديم مطالبهم الداعمة لمطالب بغداد .
لم يكن بإمكان مندوبي كربلاء والنجف والشامية الذهاب الى بغداد , ولذلك اكتفوا بإعداد وثائق مشابهة لوثيقة بغداد, ليقدموها الى حاكم لواء الشامية والنجف السياسي الميجر نوربي، لكنه اعتذر في 13 حزيران عن لقائهم متحججا بانتظار جواب بغداد لان مطالبهم هي نفسها التي قدمتها بغداد الى ولسن. ولذلك وصفت مس بل الاوضاع بالخطيرة واكدت في رسالتها ليوم 14 حزيران ان ((المتطرفين في بغداد ارسلوا اعدادا كبيرة من الرسائل الى العشائر بهدف دفعهم الى الخروج عن طاعتنا))
وعندما انتشر في كربلاء والحلة والشامية خبر امتناع حاكم الشامية والنجف عن مقابلة الوفد , اقيمت تظاهرة احتجاج في كربلاء يوم 21 حزيران 1920, القى فيها عدد من الوطنيين خطبا حماسية وقصائد اججت المشاعر الوطنية ,مما اثار غضب السلطة المركزية البريطانية ببغداد، لان هذا يعني امتداد انتفاضة بغداد الى المدن المقدسة والفرات الاوسط , فاصدر وكيل الحاكم المدني العام ولسن اوامره من بغداد الى الحاكم السياسي في الحلة الميجر بولي بالتوجه الى كربلاء على راس قوة عسكرية للقبض على قادة الحركة الوطنية فيها ,فاحتلت القوة مداخل كربلاء. وعندما احتج المرجع الاعلى على هذا التصرف اجابه الميجلر بولي برسالة قال فيها ان قواته قد جاءت الى كربلاء للحفاظ على الامن والقاء القبض على (عدد من الاشرار) ,وهنا اجابه المرجع الاعلى بلغة التهديد بالثورة المسلحة ضدهم .
لم يأبه الميجر بولي,فاعتقل اثنا عشر من قادة الحركة الوطنية في كربلاء ونفاهم الى جزيرة هنجام القاحلة في الخليج العربي.
ولم تكن هذه اول وجبة من المعتقلين ، فقبل بضعة ايام من تظاهرة كربلاء اقيمت تظاهرة حاشدة في الجامع الكبير في الحلة لمساندة بغداد في مطالبها المشروعة ,ودعم مساعي المندوبين الخمسة عشر للظفر باستقلال العراق .فقام نائب الحاكم السياسي في الحلة باعتقال خمسة من قادة التظاهرة وتم نفيهم الى جزيرة هنجام
وفي النجف عقد اجتماع كبير في مسجد الهندي القيت فيه القصائد والخطب الحماسية المؤيدة المطالبة بالوقوف مع مطالب بغداد الوطنية ومساندتها. وقد حاولت السلطة القبض على قادة الاجتماع فلم تتمكن , ولم تتجرأ في القاء القبض على العالم النجفي المعروف الشيخ عبدالكريم الجزائري والذي كان همزة الوصل بين قادة انتفاضة بغداد وبين علماء الدين ورؤساء العشائر في الفرات الاوسط.
وفي 28 حزيران 1920 احتج رؤساء العشائر في الفرات الاوسط على حملة الاعتقالات والنفي وارسلوا الى حاكم لواء النجف والشامية يستنكرون ذلك ويطالبون بالإفراج عن المعتقلين واعادة المنفيين الى البلاد , وهددوا بالتحول من الاسلوب السلمي ((الى غيرها من الوسائل)). ووقع الرسالة شيوخ عشائر بارزين ومؤثرين.
وقد قام هؤلاء ايضا بتوجيه رسالة الى قادة انتفاضة بغداد من المندوبين الخمسة عشر يوم 29 حزيران 1920 ابلغوهم فيها قرارهم بالقيام بالثورة المسلحة .
ثم انتقل المجتمعون , في اليوم نفسه 29 حزيران , الى مضيف الشيخ عبدالكاظم الحاج سكر في المشخاب ليحضروا اجتماعا موسعا لجميع رؤساء وشيوخ عشائر الفرات الاوسط ، اتفقوا فيه على البدء بالثورة، ووجهوا رسالة الى رؤساء الرميثة وفي مقدمتهم الشيخ شعلان ابو الجون ابلغوهم فيها انهم قرروا البدء بالكفاح المسلح .وعندما وصل حامل الرسالة الى الرميثة علم باعتقال وتحرير الشيخ شعلان ابو الجون يوم 30 حزيران 1920 ,فقابله وسلمه الرسالة ,فكان جواب ابوالجون ان الرصاص يلعلع..وهكذا اندلع الكفاح المسلح
ولابد ان نشير هنا الى ان السلطة البريطانية حاولت ايقاف الثورة قبل انتشارها فعقد حاكم الشامية يوم 7 تموز 1920 اجتماعا مع قادتها، ، فكانت احدى شروط قادتها ان تقوم السلطة البريطانية بالتفاوض مع (زعماء الامة العراقية في بغداد بشان تقرير مصير العراق ).وهو مؤشر واضح على ارتباط ثورة العشرين بانتفاضة بغداد وقيادتها.
ان النتيجة التي نخرج بها من هذا البحث هي ان قيام ثورة العشرين لم يكن مجرد اعتقال وتحرير احد الشيوخ الوطنيين يوم 30 حزيران 1920 , وانما كانت نتاج حراك فكري و سياسي وعسكري قادته بغداد منذ مطلع عام 1919 ليتوج باتخاذ قرار اللجوء الى الكفاح المسلح في مؤتمرالثورة ،مؤتمر المشخاب، يوم 29 حزيران 1920 ،واندلاعها في اليوم التالي 30 حزيران 1920.

أ.د محمد مظفر الادهمي