صناعة السيارات ليست قرارا سياسيا

صناعة السيارات ليست قرارا سياسيا

في عام 1959 أعلنت مصر عن تأسيس شركة النصر لصناعة السيارات تحت شعار من الإبرة إلى الصاروخ. وبعد أكثر من ستين عاما لم ننتج الإبرة ولم نطلق الصاروخ.

في نفس هذه الفترة شهدت كوريا الجنوبية انطلاقة تجميع السيارات، وبعد 30 عاما بلغ إجمالي صادرات هيونداي وحدها إلى الولايات المتحدة مليون سيارة خلال عام واحد. وفازت هيونداي آكسنت بجائزة أفضل سيارة عام 1995.

وبينما شرعت مصر بإجراءات تصفية شركة النصر بسبب تراكم الديون، وتم تقليص عدد العمالة من 10 آلاف إلى 300 عامل نتيجة خسائر بلغت 165 مليون جنيه، نجحت هيونداي في تحقيق إنجازها بعد أن عينت البريطاني، جورج تيرنبول، في منصب نائب رئيس الشركة.

اليوم كوريا الجنوبية خامس أكبر منتج للسيارات في العالم.

الغاية من المقارنة ليست أن نقول فشلت مصر حيث نجحت كوريا، بل أن نتساءل لماذا نجحت كوريا وفشلت مصر؟

دعونا نبدأ بالسؤال كيف نجحت كوريا الجنوبية؟

في عام 1974، قرر مؤسس مجموعة هيونداي الكورية، تشونغ جو يونغ، أن يدخل سباق إنتاج السيارات، ركز تشونغ على اختيار أفضل المتخصصين في كل جزء يتعلق بالسيارة الأولى، حيث توجه إلى إيطاليا من أجل التصميم، وإلى وفرنسا واليابان للحصول على التقنيات، والأهم، توجه إلى بريطانيا لتصيد أفضل العقول. وقامت البنوك الفرنسية والإنجليزية بتمويل الشركة، ولكن الشخص الأساس خلف أول سيارة كورية كان المدير العام لعلامة أوستين – موريس البريطانية، جورج تيرنبول.

واضح أن الرهان المصري في تصنيع السيارات يعتمد على السوق المحلية، وأن الهدف منه توفير مبلغ 4 مليارات دولار، تدفع سنويا لاستيراد السيارات للسوق المصرية

شرعت هيونداي في يناير 1975 بتحويل أحد المستنقعات إلى مصنع جاهز للإنتاج خلال 12 شهرا فقط. وترك تيرنبول شركة بريتش ليلاند البريطانية ووقّع مع هيونداي عقد عمل لثلاثة أعوام، صنع خلالها طراز هيونداي بوني 1975 وكانت من تصميم إيطالي وبهيكل من تصميم مهندسين بريطانيين، ومحرك ميتسوبيشي، أما ناقل الحركة والمحور الخلفي ونظام التوجيه والمكابح فكان من المملكة المتحدة.

قام فريق تيرنبول باختبار بوني بشكل أقسى بأربعة أضعاف من اختبارات بريتش ليلاند البريطانية، ليبدأ المهندسون الكوريون بالعمل.

تم تدشين هيونداي بوني بمعرض تورينو الإيطالي للسيارات في أكتوبر 1974، حيث بدأ إنتاجها بنسخة السيدان في ديسمبر 1975. لم تكن السيارة رخيصة بالنسبة إلى الكوريين بسبب عدم قدرة هيونداي على إنتاجها بشكل موسّع مثل المنافسين، ليتم إطلاق نسخة بيك آب منها في مايو 1976 وطرحها في أسواق مصر وأميركا الجنوبية قبل تدشين نسخة واغن في أبريل 1977 لتبدأ المبيعات في كل من بلجيكا وهولندا واليونان، وصولاً إلى نسخة الهاتشباك في 1980.

في عام 1982 وصلت هيونداي بوني إلى المملكة المتحدة، لتكون أول سيارة كورية هناك، وسرعان ما استبدلت بالجيل الثاني منها الذي وصل إلى كندا في 1983 دون نجاح التصدير إلى الولايات المتحدة بسبب عدم التزام السيارة بحدود معدلات الانبعاثات الأميركية وردت هيونداي بإطلاق طراز أكسل عام 1985 التي حققت معدلات تصدير قياسية.

بعد ثلاثة أعوام أمضاها في كوريا، غادر تيرنبول إلى إيران ليساعد في جعل طراز هيلمان أمب البريطاني يتناسب أكثر مع احتياجات السوق الإيراني، قبل أن يعود إلى المملكة المتحدة ويساعد عدة شركات مثل بيجو وتويوتا على زيادة مبيعاتهما داخل المملكة، ويمنح لقب فارس من قبل الملكة إليزابيث عام 1990 قبل وفاته بعامين.

هكذا نجحت التجربة الكورية، فكيف فشلت التجربة المصرية؟

التجربة المصرية لتصنيع السيارات فشلت لثلاثة أسباب، الأول عدم توفر عملات أجنبية لإبرام اتفاقيات السيارات المراد تجميعها، حيث كان المتبع أن يتم فتح اعتماد بالعملة الأجنبية لدى أحد البنوك الوطنية، وكان لا بد من سداد الاعتماد بهذه، وهو ما لم يتوفر للشركة نظرا لأن مبيعاتها كانت داخل السوق المصرية، كما أن سعر الدولار الأميركي حينها كان أقل من الجنيه المصري، ثم جاءت السياسات الاقتصادية لتحرير سعر الصرف الذي أدى إلى تراجع سعر الجنيه أمام الدولار بشكل حاد وبالتالي إلى عجز الشركة عن سداد ديونها.

السبب الثاني، هو اعتماد الدولة ما يسمى بـ”سياسة التسعير الجبري” خلال السبعينات وأوائل الثمانينات، حيث كانت الدولة تتبع السياسات الاشتراكية لتيسير حصول المواطنين على سيارة بما يتناسب ومتوسط دخل الفرد المصري.

بيعت سيارة نصر 133 في أوائل الثمانينات بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري، في حين كانت تكلفة تصنيعها تصل إلى خمسة آلاف جنيه مصري.

السبب الثالث والأهم، أن المسؤولين في مصر لم يكونوا على دراية ومعرفة بأساليب التسويق، وأهمية التصميم والمنافسة.

مصر ليست الدولة العربية الوحيدة التي وقعت في فخ الشعارات بعد أن نالت استقلالها. دول أخرى عديدة وقعت في نفس الفخ، لأن الحكام الجدد المنتشين بنيل الاستقلال أرادوا أن يثبتوا للعالم، قبل أن يثبتوا لأنفسهم، أن بمقدورهم التحول إلى دول صناعية. حصل ذلك في مصر وسوريا والجزائر والعراق… وفي دول أخرى على نطاق أضيق. كان هوس الحكومات في تلك الدول أن يقال عن بلدانهم إنها بلدان مصنعة.

النجاح يتطلب البحث عن جورج تيرنبول مصري يقود المشروع، القرار السياسي وحده لا يكفي

لا نجانب الصواب لو قلنا إن هذا الهوس موروث عن روسيا التي تحوّلت من دولة إقطاعية إلى دولة صناعية بقرار سياسي بعد الثورة البلشفية. أراد البلاشفة أن يخترعوا طبقة واسعة من العمال، فراحوا يشيدون لها المصانع.

نجحت روسيا في تشييد أكبر المصانع، وأنتجت كل السلع التي يمكن أن نفكر بها، من الإبرة إلى الصاروخ.. ولكنها، باستثناء السلاح الذي سوّقته لدول مغضوب عليها من الغرب والولايات المتحدة، فشلت في تسويق إنتاجها الصناعي، الذي تحول إلى مصدر للتندر والسخرية.

واليوم تأتي مغامرتها الأوكرانية لتثبت أنها دولة ما زالت تعتمد على الاقتصاد الريعي، وأنها فشلت بعد مئة وخمسة أعوام من الثورة البلشفية في الانضمام إلى نادي الدول المصنعة. ولولا إنتاجها من الغاز والزراعة وما يدره ذلك عليها من عملات صعبة لكانت على رأس قائمة الدول التي تنتظر المساعدات.

مصر تريد أن تعيد محاولة تصنيع السيارات. وهذه من حقها. ولكن، إذا كنا فشلنا ونحن نمتلك اليد العاملة، في وقت كان العالم فيه يبحث عن يد عاملة رخيصة، هل تنجح في عالم أصبحت فيه صناعة السيارات تعتمد الروبوتات والذكاء الاصطناعي، عالم لم تعد فيه اليد العاملة الرخيصة مصدر جذب للاستثمار؟

السيارة ليست مجرد وسيلة للانتقال من مكان إلى آخر. إنها سلعة كمالية نتفاخر بامتلاكها، تماما كما الساعات والعطور والملابس التي تحمل أسماء علامات تجارية كبيرة.

اليوم باستطاعة أيّ ميكانيكي أن يصنع سيارة في مرآب خلف بيته، ولكن لن يستطيع تسويقها وإقناع العالم بشرائها.

بالتأكيد، حقائق مثل هذه لا تغيب عن القيادة المصرية، لقد تعلمت من دروس 60 عاما وأكثر. فترة من الزمن كانت كافية لتضع البلاد على حافة الإفلاس لأنها تركت لتدار من قبل من نسميهم بزعامات وطنية اعتقدت أن صياغة الشعارات وحدها تكفي لبناء الدول.

واضح أن الرهان المصري في تصنيع السيارات يعتمد على السوق المحلية، وأن الهدف منه توفير مبلغ 4 مليارات دولار، تدفع سنويا لاستيراد السيارات للسوق المصرية، وهو رقم مرشح للارتفاع إلى 10 مليارات دولار قريبا. ولكن قد يفاجأ المسؤولون في مصر أن تصنيع السيارات محليا لن يتيح توفير هذا المبلغ الذي سيصرف على مواد أخرى تحتاجها صناعة السيارات. إلى جانب أن مصر ملزمة باتفاقيات تجارية لا يمكنها أن توقف استيراد سيارات مرسيدس وفولفو وبي أم دبليو ورانج روفر.. وغيرها من السيارات الفخمة المطلوبة من المستهلك في مصر.

سرّ نجاح أيّ تجربة اقتصادية واستمرارها يكمن في الجدوى والكفاءة العالية والقدرة على التوسع والمنافسة في الأسواق الخارجية، وليس المحلية، في ظل منافسة قاسية تفرض تخفيض الأسعار مع الحفاظ على جودة المنتج.

النجاح يتطلب البحث عن جورج تيرنبول مصري يقود المشروع، القرار السياسي وحده لا يكفي.

العرب