استضافت مدريد قمة تاريخية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بين الثامن والعشرين والثلاثين من يونيو الماضي، تميزت أساسا بتجديد الاستراتيجية الأمنية والعسكرية والسياسية لدول الحلف، حيث تشهد الاستراتيجية التي تتطلع إلى جنوب وغرب المتوسط تحولات عميقة يعتبر الحفاظ على الأمن في أبعاده الجيوستراتيجية جزءًا أساسيًا من تلك المعادلة في التصور العام لدول الحلف.
تماشيا مع موقعه الجيوستراتيجي على ضفتي المتوسط والأطلسي ودوره فيما يتعلق بالأمن والاستقرار بالمنطقة (يعود تاريخ التعاون بين المغرب والناتو إلى العام 1995) يتم إثراء هذا الدور وتقويته باستمرار، تدعمه المشاورات الجارية بين الجانبين، لاسيما بين اللجنة العسكرية المتحالفة مع القوات المسلحة الملكية. هذا هو السبب في أن للرباط فريق تمثيل كبير دائم في مقر الحلفاء في بروكسل.
لهذا تعتبر إدارة الأزمات في مواجهة بيئة أمنية غير مستقرة من شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، عنصرًا أساسيًا في أجندة الناتو، تعززها ضغوط الهجرة والتحديات الأمنية الصعبة، وهو ما دفع إلى اهتمام التحالف بالبيئة الأمنية عبر الجوار الجنوبي وكيفية معالجتها.
تشكل منطقة غرب وجنوب البحر الأبيض المتوسط مركز الثقل الذي لا يمكن إنكاره في هذا السياق، فالتطورات في هذه المنطقة تمسّ بشكل مباشر المصالح الأمنية لحلف شمال الأطلسي الذي يربطه برنامج شراكة راسخ مع المغرب كبلد متوسطي. ونذكّر هنا بالمناورة العسكرية التي قامت بها الفرقاطة المغربية علال بن عبدالله إلى جانب حاملة الطائرات الأميركية هاري ترومان في مياه البحر المتوسط العام الماضي. وبالمناورات المشتركة بقاعدة تولون البحرية جنوب فرنسا مع نظيرتها الفرنسية رو دي لوز، خلال شهر يونيو، وهو ما قطع الطريق على كل محاولة لإضعاف المغرب.
العلاقة بين المغرب وحلف شمال الأطلسي ترتكز على الثقة والحوار السياسي والتعاون الملموس، هذا ما يصرّ عليه المسؤولون المغاربة
في اجتماعه بالعاصمة الإسبانية مدريد، اعترف الناتو أنه لازال يواجه تهديدات واضحة من جميع الاتجاهات الاستراتيجية، وتمثل روسيا مع حلفائها أكبر تهديد مباشر لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية، إضافة إلى الإرهاب، بجميع أشكاله ومظاهره، الذي يشكل تهديدا مباشرا لأمن المنطقة وللاستقرار والازدهار الدوليين.
نظرا للمخاطر الأمنية التي تشكلها روسيا على دول الناتو، وربط ذلك بالتوسع الذي تعمل عليه موسكو عبر فاغنر في الدول الرخوة بالساحل والصحراء، يمكن القول إن استراتيجية حلف شمال الأطلسي التي بدأت لن تتوقف عند البحر المتوسط ومناطقه المباشرة، بل ستتوسع جنوبا خارج المنطقة المغاربية، لتصبح أفريقيا ككل جزءًا من المعادلة الاستراتيجية. ومن المنتظر أن تزداد أهمية بمرور الوقت.
المغرب شريك فعال للغاية وموثوق به في حوار البحر الأبيض المتوسط. هكذا يعرف كبار المسؤولين بالناتو، العلاقة مع المغرب، حيث أثبت وجوده وكفاءته وفعاليته بالفعل في عدد كبير من العمليات التي يقودها الناتو، فالهجرة وانتشار الإرهاب والتدفقات غير المشروعة بجميع أنواعها أضحت ضمن حسابات الأمن الأوروبية وعبر الأطلسي، وتوسيع هذا الفضاء الأمني يقتضي تعاونًا أوثق مع مؤسسات أمنية وسياسية وعسكرية مغربية بشكل أوثق.
العلاقة بين المغرب وحلف شمال الأطلسي ترتكز على الثقة والحوار السياسي والتعاون الملموس، هذا ما يصرّ عليه المسؤولون المغاربة، ونلمس هذا من خلال كلمة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، كمؤشر صلب في هذا الاتجاه، عندما يقول إن المغرب فاعل مسؤول في مجال الأمن الإقليمي والاستقرار في أفريقيا جنوب الصحراء والبحر الأبيض المتوسط، على اعتبار دور المملكة كطرف ذي مصداقية بشأن قضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب والدبلوماسية الوقائية وحفظ وتعزيز السلم.
ليس اعتباطا أن يرى الناتو في المملكة المغربية شريكا استراتيجيا رئيسا، ومنارة للاستقرار في منطقة تعاني من الصراع، بعد أن تمكنت من بناء شراكة قوية مع الحلف الذي يعتبر شريكًا موثوقًا به. لهذا سقط رهان خصوم المغرب في محاولة الدفع بالناتو في اجتماعه الأخير، لتبني خطوة توسيع نفوذه العملياتي إلى سبتة ومليلية المحتلتين، واعتبارهما حدودا للاتحاد الأوروبي. ولم يأت البيان الختامي على ذكر ذلك، في جواب حازم بأن المغرب شريك استراتيجي لا يمكن استفزازه بخطوة غير محسوبة مثل هذه.
المغرب شريك فعال للغاية وموثوق به في حوار البحر الأبيض المتوسط. هكذا يعرف كبار المسؤولين بالناتو، العلاقة مع المغرب
هذا ينسجم مع ما كشفه البيان الختامي للناتو، بالتأكيد على ضرورة تعزيز الشراكة بشكل أكبر حتى تستمر في تلبية مصالح كل من الحلفاء والشركاء. وأكد البيان أن المقاربات المشتركة للتحديات الأمنية العالمية حيث تتأثر مصالح الناتو ستتم مناقشتها، وتشارك وجهات النظر حولها من خلال مشاركة سياسية أعمق، والبحث عن مجالات محددة للتعاون لمعالجة المخاوف الأمنية المشتركة.
لا يمكن حصر التعاون بما يخص الإرهاب الجهادي فقط، بل تحالف هذا الأخير مع كارتيلات المخدرات وتبيض الأموال عبر العالم، وهذا سيعمق من تأثر المصالح الأمنية لأوروبا وأميركا الشمالية بشكل مباشر. والمغرب منخرط في حماية أمنه القومي باندماجه في المعادلة الأمنية للناتو، على اعتبار أن التحديات ذات طبيعة غير تقليدية أو غير منتظمة، أو تنطوي على ضغوط سياسية واقتصادية وبيئية طويلة المدى مع خطر التهديدات العابرة للحدود.
ومن الناحية العملياتية، هناك حدود واضحة للمشاركة العالمية لحلف الناتو، والأهم دور الحلف كمكان تناقش فيه الاهتمامات الاستراتيجية الأوسع. وتنسيق السياسات هنا يشمل المعنى السياسي والأمني والعسكري. وهي عقيدة نراها منعكسة في التعاون الوثيق مع المغرب عسكريا وأمنيا، وتجلت في حضور الناتو تمارين الأسد الأفريقي هذا العام، والتي شددت على أهميتها دول الناتو، وقالت إنها ستعزز التمارين الدفاعية الجماعية استعدادا لعمليات عالية الكثافة ومتعددة المجالات بما يضمن القدرة على تقديم الدعم لأيّ حليف في غضون مهلة قصيرة.
لذلك، يعتبر الأمين العام المساعد لحلف شمال الأطلسي المكلف بالشؤون السياسية وسياسة الأمن أليخاندرو ألفارو غونزاليز أن المغرب شريك نشط لحلف شمال الأطلسي من حيث الدبلوماسية العمومية، مشيدا بجهود المملكة لتعزيز تعاون ثابت خدمة لأمن مواطني العالم، وهذا ما يعززه الحوار المتوسطي في إطار تعاون كفيل بمواجهة التحديات الأمنية وتحقيق أهداف السلم والأمن والاستقرار.
وتحدد أجندة الشراكة الثنائية مجموعة من الأنشطة التعاونية التي تهدف للعمل معًا على مواجهة التهديدات المشتركة وينصبّ التركيز الأساسي على التعاون في مكافحة الإرهاب وأمن الحدود والأسلحة والأمن السيبراني والدفاع السيبراني، وتحديث التنظيم العسكري وإمكانية التشغيل البيني بين الناتو والقوات العسكرية المغربية.
العرب