مع صدور البيان الختامي لقمة حلف الناتو في مدريد، اعتبر كثير من المحللين أن “حرباً باردة جديدة” قد بدأت بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر، وهو ما جعل البعض يعتبر أن أميركا وجدت بعد طول انتظار العدو المناسب الذي كانت تبحث عنه منذ عقود، الذي يمكن أن يُنهي الانقسامات الداخلية الأميركية، ويعيد وحدة وتماسك الجبهة الداخلية بفعل التهديدات الخارجية المتصورة، فما حقيقة هذا التصور، وما السوابق التاريخية لمفهوم البحث عن عدو، وهل تستطيع أميركا مواجهة الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية في وقت واحد، أم أنها ستعتمد على قيادتها للعالم الغربي؟
اصنع عدواً
في ثمانينيات القرن الماضي، قال اللاجئ الكوبي، روبرتو جويزويتا، الذي أصبح رئيساً لشركة “كوكا كولا”، إنه لكي تزدهر كل شركة، يجب أن يكون لها عدو، وافترض أنه إذا لم يكن لديك عدو، فإن أفضل شيء هو أن تصنع عدواً، فهذه هي الطريقة الوحيدة لخوض حرب، وبالنسبة إلى “كوكاكولا” كانت “بيبسي” هي العدو، مثلما كانت “فوجي” هي عدو “كوداك”، و”برغر كينغ” عدو “ماكدونالدز”، وشركة “فورد” عدو “جنرال موتورز”.
ولا يبدو أن هذا التصور ظهر فقط خلال العقود الماضية، ففي القرن الأول قبل الميلاد، كتب المؤرخ الروماني سالوست، أن الجمهورية انزلقت في صراع داخلي، بسبب تدمير عدوها قرطاج في الحرب التي اندلعت بينهما، فبعد أن أنتج الخوف من العدو تماسكاً داخلياً في روما، أدى التحرر من هذه الرهبة إلى ظهور الغطرسة والانقسام في المجتمع، وأدار الرومان أسلحتهم وسكاكينهم إلى خصومهم في الداخل.
واليوم، يحدث شيء مشابه في الولايات المتحدة، إذ تتزايد التفسيرات للخلافات والصراعات الداخلية في أرجاء البلاد، التي توضح الدراسات التي أجراها مركز “بيو” للأبحاث على مدار السنوات القليلة الماضية أنها عميقة الجذور، وتتفاقم بشكل خطير، بدءاً من الخلاف الصارخ بين الديمقراطيين والجمهوريين في شأن الاقتصاد والعدالة العرقية وتغير المناخ وإنفاذ القانون ومشاركة أميركا دولياً، وانتهاء بالقضايا الاجتماعية، مثل الإجهاض والحقوق الشخصية، وحمل السلاح والقيم الأميركية الأساسية بشكل عام، الأمر الذي جعل بعض المراقبين في واشنطن يعتقدون أن غزو روسيا لأوكرانيا ودعم الصين الضمني لروسيا يمثل تهديداً خارجياً كانت تنتظره الولايات المتحدة، كي تتمكن من توحيد المجموعات السكانية المتنوعة في الولايات المتحدة في مواجهة هذا التهديد الجديد، وهو ما يعكسه بيان حلف شمال الأطلسي الناتو قبل أيام في مدريد، الذي اعتبر روسيا خصماً أساسياً، ووصف الصين بأنها تشكل تحدياً استراتيجياً.
نظريات مساندة
يشير علماء النفس إلى ميل الناس إلى تشكيل مجموعات داخلية بسرعة في مقابل المجموعات الخارجية تحت مسمى “نحن ضدهم”، ويبرز هذا السلوك بين مشجعي الفرق الرياضية المتنافسة، كما يظهر أكثر بين دولتين في حالة صراع أو حرب، حيث يمكن أن تؤدي الرغبة في الحماية المتبادلة، وأحياناً إلى الانتقام، إلى تقليل العداء بين أعضاء المجموعة الواحدة، وخلق عقلية واحدة للجميع في مواجهة الفريق أو المجموعة الخارجية الأخرى.
ويعزز وجود هذا الخصم المهدد، الشعور بالهوية الوطنية، إذ يصف كارل دويتش، المنظر السياسي في جامعة هارفارد، الأمة بأنها “مجموعة من الناس توحدهم وجهة نظر خاطئة عن الماضي وكراهية جيرانهم”، ووفقاً لعالم السياسة كلينتون روسيتر، فإنه لا يوجد شيء يحدد الهوية الذاتية للأمة أو يعيدها إلى مسارها، مثل وجود عدو ينظر إليه على أنه مختلف بشكل مزعج في القيم السياسية والاجتماعية.
خصوصية أميركا
غير أن الخطر الأجنبي يلعب دوراً خاصاً ومهماً في تنمية الشعور بالهوية الوطنية بشكل خاص في الولايات المتحدة، حيث يفسر دومينيك تيرني، أستاذ العلوم السياسية وكبير الباحثين في معهد أبحاث السياسة الخارجية، الهوية الذاتية الأميركية، بأنها لا تستند إلى تراث مشترك قديم، بل على مجموعة من المثل السياسية، وأبرزها عقيدة الحقوق الفردية والديمقراطية، وهو ما يعتبر أساساً هشاً للوحدة في بلد كبير بحجم قارة، تسكنه جماهير هاجرت إليه من جميع أنحاء العالم، ولهذا فإن وجود “الآخر” يعد ضرورياً لدعم الهوية الأميركية، وتعزيز الشعور بالاستثنائية السياسية.
وعلى مدار التاريخ الأميركي نُسجت قصص طويلة تتأرجح بين عصور التهديد وعصور الأمان، بناءً على درجة الخطر الخارجي، ففي عصور التهديد، يلتف الأميركيون حول الرئيس، وترتفع ثقتهم في المؤسسات الوطنية، ويزداد التماسك الاجتماعي، وتتراجع الانقسامات العرقية أو السياسية أو الاقتصادية بين أولئك الذين يكافحون معاً من أجل القضية، كما أن الحروب الكبرى عادة ما تحظى بتأييد شعبي قوي.
دروس التاريخ
تظهر نظرة سريعة على التاريخ الأميركي أن عصور التهديد وعصور الأمان لا تكون متماثلة عندما تتكرر، لكنها تتناغم، ففي أواخر القرن الثامن عشر، كانت هناك عديد من الانقسامات في المستعمرات الأميركية حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، لكن التهديد البريطاني تسبب في توحيد هذه المستعمرات المتباينة معاً وصولاً إلى تشكيل الكونغرس عام 1774، وفي عام 1798، أدى الخوف من فرنسا إلى صدور قوانين خاصة بالأجانب والتحريض على الفتنة، التي سمحت بترحيل غير المواطنين القادمين من دول معادية.
لكن مع العقود الأولى من القرن التاسع عشر، أفسح عصر التهديد الطريق لعصر أمان قادم، فبعد أن تمتعت الولايات المتحدة بموقع استراتيجي، تحميه محيطات شاسعة، ويعززه النمو السكاني والاقتصاد السريع، كشف الافتقار للعدو، الانقسام الطائفي ومهد الطريق إلى حرب أهلية تنبأ بها الرئيس إبراهام لينكولن، فمن دون وجود خطر أجنبي يشغل أفكارهم، ركز الأميركيون على انقساماتهم الداخلية، بخاصة على العبودية، وليس هناك أدل على ذلك من اقتراح وزير الخارجية الأميركي عشية الحرب الأهلية، بإعلان الحرب على فرنسا وإسبانيا لتكوين عدو موحد عن عمد ودرء الانفصال، على اعتبار أنه إذا تعرضت الولايات المتحدة للهجوم من قبل قوة أجنبية، فإن سكان ساوث كارولينا سيهبون لإنقاذ نيويورك.
أزمة نفسية
في المقابل، عندما تتبدد التهديدات، غالباً ما تطفو الانقسامات الداخلية وتتسع، حيث شكلت فترة ما بعد الحرب الأهلية مساحة زمنية لتقليص الخطر الخارجي، استمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي وصفها المؤرخ ريتشارد هوفستاتر بأنها شكلت “أزمة نفسية” في تسعينيات القرن التاسع عشر، نجمت عن كساد عام 1893، وإغلاق الحدود، وصعود الحركة الشعبوية والانتخابات المثيرة للانقسام عام 1896، وهي الأزمة التي شجعت الأميركيين على خوض الحرب الإسبانية- الأميركية عام 1898، واستعادة روح الوحدة بين الأميركيين.
وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى عام 1917، أدى مزيج من الخوف والغضب والمثالية وآلة الدعاية الحكومية المتطورة، إلى إحداث تأثير موحد عميق في صفوف الأميركيين، وصفته صحيفة “ذا نيشن” بأنه ولادة جديدة للوطنية الأميركية.
خطر شديد
لكن سنوات ما بين الحربين العالميتين، تميزت بالصراع المفتوح بين عديد من الفئات في المجتمع، بين أصحاب الأعمال والعمال، وبين عناصر حركة كو كلوكس كلان العنصرية والسود، وبين المهاجرين والأمميين، وبين التقدميين والمحافظين، وبحلول أربعينيات القرن الماضي، عاد التهديد مرة أخرى، ودخلت الولايات المتحدة حقبة من الخطر الشديد خلال الحرب العالمية الثانية وأوائل الحرب الباردة، حيث تعرض الأمن الأميركي للخطر من قبل القوى العظمى في ألمانيا واليابان والاتحاد السوفياتي، وكذلك من خلال التقنيات الناشئة، بما في ذلك القاذفات بعيدة المدى والصواريخ والأسلحة النووية، التي كانت تهدد الوطن الأميركي بشكل مباشر، الأمر الذي جعل الأربعينيات والخمسينيات فترة وحدة اجتماعية نسبية.
واستمر مزاج الوحدة خلال “إجماع الحرب الباردة” في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كان هناك اتفاق واسع بين الجمهوريين والديمقراطيين، لأن البلاد كانت منخرطة في صراع عالمي ضد خصم شيوعي بدأ في غزو العالم، ومع ذلك أثبتت الحرب الكورية (1950-53) أنها لا تحظى بشعبية بعد أن تعثرت في طريق مسدود ومكلف.
وبحلول منتصف الستينيات، بدأت شدة التهديدات الخارجية للولايات المتحدة تتضاءل من جديد في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، حيث بدا أن العلاقات بين القوى العظمى استقرت واعترفت بشكل فعال بشرعية بعضها بعضاً، بعد أن أنشأت واشنطن وموسكو عام 1963، خطاً ساخناً مباشراً للاتصال، ووقعتا على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية، وكان هناك اتفاق ضمني على القواعد الأساسية للتعايش السلمي، بما في ذلك عدم استخدام الأسلحة النووية إلا كملاذ أخير.
أميركا بلا عدو
في الثمانينيات والتسعينيات، تراجعت التهديدات الخارجية للولايات المتحدة بشكل حاد إلى أن انتهت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفياتي، ما جعل الخلافات الداخلية والانقسامات تطل برأسها من جديد في البلاد، حيث اتسمت رئاسات بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترمب، والعام الماضي من رئاسة جو بايدن بخلافات متصاعدة، كان أحد أبرز أسبابها ما قاله للأميركيين العالم السياسي السوفياتي جورجي أرباتوف: “سنفعل شيئاً فظيعاً لكم، سنحرمكم من عدوكم”.
كانت فترة التسعينيات في الولايات المتحدة سلاماً وازدهاراً، لكنها كانت أيضاً فترة عدم يقين وارتباك في شأن مكانة أميركا في العالم، إذ إن عدم وجود تهديد خارجي يعني عدم وجود حس عام لما يحدد المصلحة الوطنية، وأثبتت التدخلات ضد الأخطار الغامضة أو البعيدة، أو سعياً وراء أهداف إنسانية، في الصومال وهايتي والبوسنة وكوسوفو، أنها لا تحظى بشعبية لدى الجمهور أو لدى الكونغرس الجمهوري، ولهذا تآكلت الثقة في المؤسسات الوطنية، وأصبحت السياسة أكثر حزبية بشكل حاد، عكسته محاولة مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون، عزل الرئيس كلينتون قبل أن يبرئه مجلس الشيوخ.
تأثير 11 سبتمبر
بدت الولايات المتحدة وكأنها تدخل عصر التهديدات بعد 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 مع الهجوم الذي شنه عناصر من تنظيم “القاعدة” على مركز التجارة العالمي والبنتاغون عبر طائرات مدنية، حيث أدى الحادث إلى تأثير نفسي عميق، وخلق مزيداً من التحيز تجاه الأشخاص المرتبطين بالعدو، مثل المسلمين والمهاجرين، وأدى إلى توحيد الأمة الأميركية في مواجهة ما وصفه المحافظون بالحرب العالمية الرابعة ضد الإسلام الراديكالي، بعد أن وصفوا النضال ضد الشيوعية بالحرب العالمية الثالثة.
ومع ذلك، لم يتحرك الإحساس بالتهديد إلا بشكل متواضع، وظلت الولايات المتحدة في عصر الأمان، بسبب تضاؤل خطر بضعة آلاف من المتطرفين مقارنة بالقوى العظمى التاريخية، مثل ألمانيا النازية أو الاتحاد السوفياتي، كما ثبت أن تدمير مركز التجارة العالمي كان انحرافاً، وليس نذيراً لأشياء مقبلة، ولم يقتل الإرهابيون سوى عدد ضئيل من الأميركيين في أميركا الشمالية خلال العقد التالي.
وعلى الرغم من الإرهاب النفسي، فإنه ببساطة لم يكن قوياً، بما يكفي لتوحيد الأميركيين لفترة طويلة، ولهذا تلاشى تأثير حادثة 11 سبتمبر، كما لم تكن الحروب الخارجية الأميركية في أفغانستان والعراق حملات وحدت الأميركيين، بل كانت مغامرات مثيرة للانقسام، فقد تآكل الدعم الشعبي للحرب، وكان هناك قدر أكبر من النقد الذاتي، لكن على الرغم من ذلك، سعى عدد من المستشارين والبيروقراطيين والسياسيين إلى الاستفادة من قضية الإرهاب لمتابعة مصالحهم الضيقة.
الطريق الصحيح
وخلال السنوات السابقة، عاشت الولايات المتحدة السمات الكلاسيكية لعصر الأمان، فقد كان الناس قلقين، منقسمين، حزبيين، لا يثقون بالمؤسسات، غير متأكدين من هوية أميركا ودورها في العالم، ويشككون في استخدام القوة، ويريدون بدلاً من ذلك التركيز على القضايا الداخلية، أو بناء الأمة في الداخل، بينما انتشر قبول الآراء السياسية المتنوعة وحتى الراديكالية منها، والاستعداد للتساؤل عما إذا كانت البلاد تسير على الطريق الصحيح.
غير أن غزو روسيا لأوكرانيا غيّر العالم من جديد، وجعل الحلفاء الغربيين موحدين ضد روسيا بشكل غير مسبوق، بل إن جهود الرئيس بايدن في إقناع حلفائه بتضمين الصين كتحد استراتيجي للغرب، أثمرت في البيان الختامي لحلف الناتو، الأمر الذي يثير من جديد فكرة العدو الذي تحتاج إليه أميركا دائماً للتخلص من انقساماتها الداخلية.
الفرصة الأخيرة
لكن أميركا اليوم تختلف عن الأمس، فعلى الرغم من أنها ما زالت تحتفظ بقوتها العسكرية الضاربة وريادتها الاقتصادية، فإن ذلك لا يكفي لمواجهة خصمين قويين مثل روسيا والصين، لذا يرى إيفو دالدر، رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، وجيمس ليندساي، نائب رئيس مجلس العلاقات الخارجية، أنه يجب على واشنطن أن تقود الغرب من خلال وحدة جديدة وجهد أوسع لإنقاذ النظام الدولي القائم على القواعد من خلال إنشاء مجموعة جديدة من 12 دولة، من شأنها أن تجمع بين الولايات المتحدة وحلفائها الرئيسين في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية وهم أعضاء الدول السبع الصناعية الحاليين (كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، إضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، كما سيكون لحلف الناتو مقعد على الطاولة في جميع المناقشات المتعلقة بالأمن.
ويستند هذا التقييم، إلى أن الدول الـ12 هي موطن لما يقرب من مليار شخص، وتشكل أكثر من 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري، في حين أن الصين وروسيا معاً أكثر سكاناً، ولكنهما بالكاد يشكلان 20 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي، و17 في المئة فقط من إنفاقه العسكري، وكما أظهر رد فعلهم الأولي على الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن الأعضاء المحتملين في مجموعة الـ12 يدركون جميعاً أن أمنهم وازدهارهم يعتمدان على إيجاد طرق لتجنب العودة إلى عالم تحل فيه القوة محل سيادة القانون.
اندبندت عربي